لا يجادل أحد في أن الزكاة هي الركن الثالث في أركان الإسلام, وربما كانت كلمة الصديق أبي بكر بعد وفاة النبي الأكرم
أوضح النصوص في شرح مسؤولية الأمة تجاه مال الزكاة حين قال بوضوح: والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه.
كانت الزكاة في الأصل هي النظام الذي يقوم عليه الاقتصاد الخدمي والتكافلي في المجتمع , وكانت مصارف الزكاة تتسع لتشمل ذلك كله من الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل, وقد قامت الأمة بواجبها في إحياء ثقافة الإنفاق وتمكنت عبر الزكاة من توفير خدمات اجتماعية واضحة من مدارس وبيمارستانات وخانقاهات وأوقاف كثيرة لا تزال شواهدها باقية إلى زماننا هذا,. وربما كان عهد عمر بن عبد العزيز أوضح الأمثلة على نجاح الزكاة في تأمين تكافل اجتماعي حقيقي حتى فاض المال ولم يوجد له آخذ.
وهكذا فقد ظلت الزكاة نظاماً دينياً تجمعه الدولة وفق معايير الفقهاء وتنفقه في حاجات الأمة. وحين قامت الدولة الحديثة فإنها مضت إلى فرض نمط جديد من إحياء المكس والضرائب وهكذا فقد نشأت مؤسستان متباعدتان الأولى للزكاة والثانية للضرائب.
ومباشرة أثقل ذلك كاهل الناس وأصبح على الناس أن يتهربوا من أحد الالتزامين, أو منهما معاً الأمر الذي أدى بالمؤسستين جميعاً إلى الشلل والعجز عن مواجهة استحقاق الحياة.
الغرب الذي يتبني اليوم الدولة الحديثة كان أكثر وعياً منا برسالة الزكاة ورسالة الضرائب, وتمكن من خلق معادلة للتكامل بينهما فأذن لدافع الضرائب أن يختار بنفسه عدداً من مصارف الضرائب المأذونة عبر جمعيات ومؤسسات خيرية واجتماعية يختارها دافع الضرائب نفسه تتناسب مع توجهه الفكري والاجتماعي, وهكذا فقد خلقت مؤسسة الضرائب تناغماً جيداً بين الضريبة والصدقة, وأصبح بإمكان دافع الضرائب أن ينفق مبلغاً محدداً من الضريبة في إحدى المصارف المأذون بها وبالتالي فقد أصبحت هذه الجمعيات الخيرية شريكة في أعمال التكافل والتنمية, وبالتالي أتاح للدولة الموقع المحاسبي الأخلاقي لمحاسبة الجمعيات الخيرية على دورها في التنمية.
حتى الآن لا يوجد بين النظام المالي وبين الفقه الإسلامي أي شعور بالتكامل, ولا يبحث المسؤولون في كل من الموقعين عن تحقيق التكامل في توجيه النشاط الاقتصادي, والدفاع عن مصالح الناس في كل من النظامين.
لست أدري لماذا لا نزال نخشى من اقتحام جديد الفقه في الزكاة مع أن تاريخ الفقه الإسلامي كان حافلاً بالخطوات الجريئة في هذا السبيل, فهل نذكر هنا بالموقف الجريء للإمام الشافعي الذي كتب فقهه في العراق ثم أعاد كتابة الفقه كله في مصر وقال بشجاعة لا أحل لأحد أن يفتي بمذهبي القديم?
الوقوف عند حدود ما رواه الأولون في أمر الزكاة سيحول هذا الركن الأساسي من الدين إلى مجرد نشاط خيري تعبدي لا دور له في البنيان الاجتماعي, على سبيل المثال فإن الإمام الشافعي نفسه كان قد نص على أن الزكاة في الزروع لا تجب إلا في التمر والعنب, ولم يقل شيئاً في مزارع الزيتون والحمضيات والكرز والتفاح وغيرها من المحاصيل الهائلة ومع أن الفقه الشافعي أعاد احتساب هذه المحاصيل في الزكاة في باب عروض التجارة ولكن ذلك ظل أقل من رغبة الشريعة في وجوب إخراج العشر في زكاة الزروع إن سقيت بالمطر ونصف العشر إن سقيت بالناضح وفي الحالتين فقد فات على الفقير جزء هام من الزكاة بسبب أنه لم يعرف عن الإمام الشافعي قول في الثمار غير الكرم والعنب!!
قبل سنوات أصدر أحد الشيوخ في حماه فتوى مطبوعة نشرت على نطاق واسع ونص الفتوى أن الفلوس والنقود الرائجة لا يجب فيها الزكاة ولا يقع فيها الربا!! لأنها في الزكاة ليست من الأموال المعدودة في فقه الشافعية, والنقدان هما الذهب والفضة فقط, ولأنها في الربا ليست من الأموال الخمسة التي يجري فيها الربا وهي الذهب والفضة والملح والتمر والبر, بل إن الشيخ استعان بنص واضح في الفتيا نقله عن الإمام النووي: ليس في الفلوس زكاة وإن راجت!
حين سئل الشيخ عن فتواه لم يكن في جوابه أكثر من قوله: أنا أنقل عن السلف وهم أعلم منا, وأنا لم آت بالفتوى من بين أبوي!!
إني لم أسق هذا المثال لأصيبك بالإحباط, مع أن فيه الكثير من ذلك ولكنني أردت أن أرسم صورة واضحة لمنطق من التفكير لا يزال يتحكم بقدر غير قليل من العقول والأفكار في عصر يتسارع فيه كل شيء وتغتني اللغات نفسها كل يوم بما هو جديد ومبتكر, حتى تمكن من الإحاطة بالجديد الذي ينبعث كل يوم.
إلى متى سيظل سلطان الكلمة المطبوعة يحكم سلوكنا, ونردد دون وعي قول الأول: قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا, ولماذا لا يكون الخطاب الذي يتأسس عليه الفقه الجديد هو ما قرره قبل تسعة قرون أئمة كبار كابن القيم الذي قال بوضوح: حيثما كانت المصلحة فثم وجه الله, ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الازمان.
previous post