قراءة في تداعيات الفتنة
تم تشطير الأمة الإسلامية خلال التاريخ إلى سنة وشيعة، ثم انشطروا إلى صوفية وسلفية، ثم انشطروا إلى ظاهرية ومؤولة، ثم انشطروا إلى أصولية وعلمانية، وعلى الرغم من التقسيم الحدي الصارم في كل مرة ولكن ظلت الدماء معصومة على الأقل منذ أكثر من خمسمائة عام، ولكن ما الذي فجر العنف في أرض العراق بالشكل المأساوي الذي رأيناه خلال الأسبوع الماضي؟
بالطبع فإن الإشارة إلى الداء الذي يعصف بالأمة هو الباب الذي يمكننا من خلاله أن نشخص الداء ومن ثم أن نصف الدواء.
ومن المناسب أن يعرف القارئ الكريم أن الانشطار إلى سنة وشيعة كان في أعقاب الفتن التي عصفت بالأمة خلال القرن الأول الهجري على خلفية تحول الخلافة عن أهل البيت وهو خلاف لم يعد له ما يبرره بعد أن أصبحت الخلافة كلها حدثاً ماضوياً، وأما الفقه الذي نتج عن الطائفتين فهو شكل من أشكال الغنى الفقهي الذي سيغني المدرستين إذا تحررتا من التعصب والانغلاق.
أما القسمة إلى صوفية وسلفية فقد تحددت ملامحها في القرن السابع في أعقاب الغزو الصليبي والمغولي حيث تحدد شكلان مختلفان للمواجهة للحفاظ على الذات: الأول سلفي يلتزم بمواجهة البدع والعودة إلى منهج السلف، فيما اختار الآخر إخصاب الروح عن طريق الذكر والتأمل والسلوك، وكان الغزالي وابن تيمية أبرز أعلام المواجهة في كل من الطائفتين، وقد تبادل كل من الفريقين اتهام الآخر وتكفيره وتفسيقه.
أما القسمة إلى ظاهرية ومؤولة فهي تختصر الصراع بين أهل الرأي وبين أهل الحديث ولاحقاً الصراع بين الفقهاء وأهل الظاهر، وتتوضح ملامح الصراع حين اختار الأشاعرة التأويل فيما أصر الوهابية على التزام ظاهر النص بدون أدنى تأويل، ولا تزال هذه القسمة إلى اليوم تطبع شكل العلاقات بين التيار الديني في الخليج وأبناء المذاهب الإسلامية التقليدية في بلاد مختلفة من العالم.
أما القسمة الرابعة فهي حديثة نسبياً فالأصولية تلتزم منهج العودة إلى النص ووجوب تحكيم ظاهره في الحياة فيما يرى التيار العلماني الإسلامي (وهو مصطلح سيواجه نقداً غير قليل) أن النص نور ورشد وخير ولكن تطور الحياة يجعلنا نتجاوز ظاهر النص إلى روحه ومقاصده، وقد برزت تناقضات هذه القسمة الخطيرة فيما حرره تيار الحاكمية في الخمسينات الذي رأى أن المجتمع الإٍسلامي يعيش حالة ردة بسبب موافقته على التشريع الوضعي، والسعي للتأليف بين التشريع الوضعي والروح الإسلامية.
بالطبع لا يمكن هنا أن نفصل القول بأكثر من هذا، ولكن ما يلزم التأكيد عليه هو أن هذه التقاسيم الأربعة متداخلة، فهناك ظاهرية ومؤولة وصوفية وسلفية وعلمانية وأصولية في كل من السنة والشيعة، وعليه فإنها تنشئ متوالية هندسية تذهب في التجزؤ والتذرر إلى غاية بعيدة يصبح معها الكفاح من أجل وحدة حقيقية عناء في غير طائل.
ولكن هذا التوصيف الذي أحسبه دقيقاً لحال الأمة لم يتسبب في إنشاء أي حرب طائفية منذ قرون بعيدة، وظل الخلاف لا يتعدى الاتهام في أكثر الأحيان وكانت تقتله المجاملة التي لا بد منها، وفي أسوأ الأحوال كان يؤدي إلى تمترس كل من الطائفتين وراء أسوار مذهبه لتكون القطيعة هي أسوأ ما تنتجه الخلافات.
ولكن الفتنة التي نراها اليوم في العراق هي قسمة من نوع آخر، إنها قسمة تستبيح الدم والعرض والمال، وتضرب في المساجد والمراقد وتقتل الأبرياء وتطحن الناس بدون حساب، فكيف يمكن وصف ما يجري؟
إنه من اللحظة التي دخل فيها أول جندي أمريكي إلى أم قصر انقسمت الطبقة السياسية في العراق على الأقل إلى قسمين متلاعنين متربصين: متعاون مع الاحتلال ومقاوم له، وعلى الفور انتقلت القسمة إلى ثنائية حادة لا مكان فيها لأدنى تسامح: خونة أو إرهابيون؟؟ وأصبح القتل محلاً مشروعاً لكل فريق من الفريقين، وسادت ثقافة اقتل أو تقتل!!، ولم يستثن المقاومون شيئاً من الطرف الآخر فدخل في لعنة الخيانة أفراد ومنظمات وصحافيون وإعلاميون وطوائف وجيوش، وحكم على الأمم المتحدة نفسها بالخيانة لمجرد تعاونها مع الوضع القائم بالعراق وقضى سيرجيو دي ميلو تحت الركام في تفجير رهيب، واستمرت لعنة القتل تلاحق أعداء مفترضين في خيال تيار الغضب وانصبت لعنات الحقد على الصحافيين، وقتلت عن عمد أطوار بهجت ثم طوردت جنازتها بالرصاص وخيل للذين يسكبون النار على موكبها أنهم أيضاً يقاومون، ولكن يقاومون ماذا؟ وانفجرت أسواق وجسور وحوزات ومساجد ومجالس عزاء، ومضت موجة الموت تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، وازداد شراد العراقيين ومعاناتهم في الأرض ولا يبدو أن الأفق القريب يحمل أية أنباء سارة لأهل العناء والأسى في العراق.
وخلال أكثر من ألف يوم من الاحتلال لم تنقطع المعاناة، بل إنها اتخذت منحى خطيراً مباشراً بتفجير آثم لئيم لمرقد الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء الأمر الذي أشعل فتنة مجنونة ألهبت حتى كتابة هذه السطور أكثر من مائة وتسعين مسجداً في العراق، و397 قتيلاً في عصف لا يبقي ولا يذر، سفحت فيه دماء بريئة مسكينة وهدمت صوامع وجوامع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً
فمن المسؤول عن هذه القسمة الآثمة التي طوحت بكل الآمال في خلاص قريب؟؟
لا أظن أن أحداً يمكنه أن ينازع في براءة اختراع الموت هذا الذي نتج عن القسمة المجنونة، فهي ماركة مسجلة بامتياز للاحتلال الأمريكي، وهو تقسيم يختلف عن كل أشكال الفرقة التي عرفناها من قبل!!
والسؤال الآن برسم الأشرار الذين طافوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وجاؤوا بالأساطيل الأمريكية يستنشدون بها الخلاص فجاءتهم تأكل الأخضر واليابس وجعلت عراقهم الجريح كالعصف المأكول، فهل يشفع لهؤلاء إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض أن يقولوا إنما نحن مصلحون؟ وهل يشفع لهم وهم يتولون في الأرض ويهلكون الحرث والنسل أن يقولوا ما أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً؟؟
عمره المحتل ما جاء البلد بخير، وأي شيء يستطيع الغياث الأمريكي أن يحمله للمستعطفين إلا المزيد من الخراب والموت تحت شعارات الحرية والديمقراطية البراقة.
ما الذي يملك العراقي أن يفعله في مواجهة الفتنة الطائفية العاصفة؟؟
أتمنى أن يسمع العراقيون اليوم أكثر من أي وقت مضى نداء جودت سعيد، فيلسوف الرحمة الصوت الصارخ في برية الأحقاد: لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين.
إن ثقافة الجهاد في الإٍسلام تحمل معنيين متجاورين دقيقين غاية الدقة، سل السيوف في الجهاد، وكسر السيوف في الفتنة!! ولا أشك أبداً أن توصيف الحالة العراقية اليوم هو المشهد الثاني.
إنه ليس خياراً سهلاً أن تنجز ما أوصى به رسول الله أبَا ذر حين قال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف (أراد أن الرجل يشتهي الموت لكثرة القتل، ولا يدري القاتل لم قتل ولا المقتول لم يقتل) قال قلت: ما خار الله لي ورسوله، قال: عليك بالصبر، ثم قال لي: يا أبا ذر. قلت: لبيك وسعديك. قال: كيف أنت إذا رأيت أحجار الزيت قد غرقت بالدم؟ قلت: ما خار الله لي ورسوله. قال: عليك بمن أنت منه. قال قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي فأضعه على عاتقي؟ قال: شاركت القوم إذاً، قال قلت: فما تأمرني؟ قال: تلزم بيتك!! قال قلت: فإن دخل علي بيتي؟ قال: فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه.
أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، كل المسلك على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم.
تحية لآلام الشعب العراقي الصابر المجاهد، تحية الرحمة والرجاء للأم العراقية الصابرة وهي تلملم الجراح وتطالب بالرحمة، ورحم الله رجلاً أغمد سيفه وفتح قلبه، وحاور أخاه، وأحيا ثقافة هابيل في عصر قابيل.