مقالات

د.محمد حبش- قراءة في فتح مكة يوم السلام العالمي 19/9/2008

لا نبالغ في شيء إن قلنا إن يوم فتح مكة هو أولى الأيام بخيار الأمم المتحدة لإعلان يوم السلام العالمي!!

كان قرار فتح مكة قد اتخذ قبل عامين اثنين، في أعقاب فشل قريش في اقتحام المدينة يوم الخندق، وبعد انتهاء معركة الخندق بأقل من شهرين كان النبي الكريم قد قضى على بني قريظة ودك معاقل خيبر وبذلك قطع الأحلاف عن قريش وأصبح قادراً على اقتحام مكة.
ومع أنه خرج عام الحديبية منصوراً مبروراً على رأس ألف وأربعمائة مقاتل ولكنه كان حريصاً ان يدخل مكة بأمان وسلم، وحين جاءه من يحذره من خروج قريش لمواجهته نظر في الأفق وقال يا ويح قريش لقد حمشتهم الحرب!!! وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن أصابوني كان الذي يريدون وإن كانت الأخرى قاتلوا وبهم قوة!!
ورغم الاستفزاز الذي تعمدته قريش ولكنه قرر أن يغير طريقه لئلا يصطدم بكتيبة الفرسان من قريش، وسلك طريقاً وعرة كثير الحجارة، ومع أنه وصل إلى الحديبية وهي على مسافة عشرين كيلومتر من مكة ولكنه لم يقتحم على مكة وانتظر تفاوضاً مع قريش وحقق الصلح معهم بشروط غريبة أقلها أن لا يسمح له باستقبال مؤمنين جدد من مكة، وأن يسمح للمرتدين مغادرة المدينة بدون قيد ولا شرط، وأن توضع الحرب عشر سنين، وأن يعود من حيث جاء بلا عمرة لئلا يتحدث العرب أن محمداً دخل مكة عنوة!!
كان ذلك ثمناً بذله من أجل السلام، وكان يأمل أن يشرح الله قلوب أهل قريش لوضع الحرب والبحث عن السلام.
وحين نقضت قريش صلح الحديبية وقتلت عدداً من حلفاء النبي الكريم من بني خزاعة في مكة، استكمل الرسول الكريم الشروط القانونية لإعلان الحرب على قريش واجتياح مكة، ولو فعل لكان ظافراً منصوراً ولحظي بتعاطف كبير من القبائل العربية التي علمت بنقض قريش لصلح الحديبية،
حين تحرك صوب مكة كان معه عشرة آلاف مقاتل، ولكنه لم يشأ أن تراق قطرة دم واحدة في يوم الفتح الأعظم!!
كان من الممكن أن يعلنها غضبة مضرية تهتك حجاب الشمس أو تمطر الدما وأن يتحرك بجيشه الكبير هادراً ثائراً حتى يطوق مكة من شعبها الأربع، وأن يفعل بها ما فعله الفاتحون من قبل، وأن تغلي كتائبه بنشيد الثورة والنصر وأن يقرع طبول المعركة ليسجل في التاريخ ملحمته الظافرة يوم الفتح الأعظم!!
لكنه لم يفعل، لقد مشى بصمت ووراءه رجاله ولم يكن قد أخبر الناس بوجهته التي يريد، وتحرك صوب الشام حتى تحير الأصحاب في مراده وغايته، وبعد مسافة طويلة طوق الجيش برجاله ثم أخبرهم بقرار الفتح الأعظم.
كان يقول اللهم عم الأخبار عن قريش حتى نفجأها في دارها، وبسرعة انساح في الصحراء يناهب الزمن حتى أطل على مكة من شعبها الأربع بجيش عرمرم لا قبل لأحد بمواجهته.
كان يريد أبا سفيان، إنه رأس قريش وزعيمها المطاع والمطلوب أن يساعد في فتح آمن لا تراق فيه الدماء ، وبخطة حكيمة تمكن بديل بن ورقاء وحكيم بن حزام من استدراجه إلى معسكر النبي الكريم، وهناك وقع أسيراً بلا عقد ولا عهد وكان بالإمكان تصفيته كأسير محارب لله ورسوله ولكن النبي الكريم أكرمه وعفا عنه ونادى في الناس من دخل دار أبي سفيان فهو آمن!!
وهكذا تحول أبو سفيان من محارب شرس إلى نسر بلا مخالب يحمل لقومه فرصة أمان وسلامة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن!!
حين أتم نصره ودخل إلى الكعبة المشرفة ظافراً منصوراً وصلى في جوف الكعبة ركعتين وهدم ما فيها من نصب الجاهلية ثم خرج ليرى أعداءه الشرسين الذين حاربوه عشرين عاماً وقد أسقط في أيديهم وأصبحوا محض مطلوبين للعدالة تشتاق إلى أعناقهم سيوف العدل والقصاص، قال لهم بلهجة صارمة: ما تظنون أني فاعل بكم؟ تحسسوا رقابهم، وتلا كل واحد منهم دليل اتهامه على جبين صاحبه، وفيه دماء سبعين شهيداً يوم أحد وأكثر من ذلك في أيام الإسلام المختلفة، ولكنهم في النهاية استجمعوا ما تبقى فيهم من أعصاب وقالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم!!
وطاف بخياله عشرون عاماً من الحرب والمكر و الغدر والعناء كابدها جراء غرورهم وأوهامهم وهم يحاربونه في كل وجه، ولكنه لم يزد أن ابتسم وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء!!
كان مدهشاً أنه لم يقل لهم لقد أطلقتكم أو عفوت عنكم أو سامحتكم!!
لم يشأ أن يبطل عفوه بآفة المن، ولم يشأ أن يريق ماء وجوههم، واختار أن يخبرهم بأنهم طلقاء أطلقهم الله ولا يد لأحد غير الله عليهم في رقابهم وأعناقهم.
ولكن اثنين من المشركين كانوا قد استحقوا سيف القصاص وهم عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وهؤلاء كانوا قد ارتكبوا جرائم قتل مباشرة لصحابة آمنين وكان من المنطقي أن يحاسبوا على ما جنته أيديهم.
وسائر الذين أعلن عنهم مطلوبين للقصاص تم العفو عنهم فيما بعد ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ووحشي بن حرب وكعب بن زهير بن أبي سلمى وآخرون كثير.
ولعل أشهر مواقف العفو والمرحمة موقف الشعر كعب بن زهير الذي شاع أنه مهدور الدم ولكم يجد سبيلاً للخلاص من ذلك إلا أن يقوم بين يدي رسول الله ، وهناك أنشد واحدة من أعذب قصائد الاسترحام، ومطلعها بانت سعاد فقلبي اليوم متبول وفيها:
تسعى الوشاة بجنبيها وقولهم إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
وحين وصل إلى قوله:
إن الرسول لسيف يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
ألقى عليه رسول الله عباءته إشارة إلى العفو الذي كان يأمله من رسول الله.
ولعل من أجلى صور العفو والسلام أنه لما وقع أبو سفيان في الأسر، قال النبي الكريم للعباس احبسوه عند مضيق الوادي، حتى إذا جاءت كتائب الصحابة قال حامل الراية سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة اليوم أذل الله قريشاً!!! لقد كانت كلمات واقعية، ولكن رسول الله بادر من فوره حين بلغه ذلك فمضى إلى سعد فنزع منه اللواء ودفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة وقال: اليوم يوم المرحمة.. اليوم أعز الله قريشاً..
إنه بالفعل يوم المرحمة يوم أعز الله العرب يوم الفتح الأعظم يوم فتح مكة.

Related posts

د.محمد حبش- زواج المسيار وأشياء أخرى 9/6/2006

drmohammad

رمضان صلاة في محراب الإخاء الإنساني

drmohammad

كفتارو – رائد إخاء الأديان

drmohammad

Leave a Comment