على هامش مؤتمر شيكاغو
تعودت أن أسافر إلى أمريكا لأقوم بواجبي في التعريف بالإسلام والحضارة العربية في جامعات الغرب والمراكز الإسلامية فيه، ولكنني هذه المرة تلقيت الدعوة من الكونغرس الأمريكي السوري حيث شهدت واحدة من أهم محاولات تجميع السوريين في الخارج بهدف طرح قوة ضغط على السياسية الأمريكية وتالياً بهدف الإسهام في بناء سوريا الحديثة، وهو كذلك مغامرة جديدة في ذلك العالم الجديد الذي نزداد كل يوم بعداً عنه على الرغم من تطور وسائل الاتصالات والنقل ولكن أصبح من الواضح تماماً أن التقارب يحتاج إلى إرادة الإنسان أكثر من حاجته إلى تطور الحديد والحيطان.
ولعلكم تعلمون أنه ليس لدي ما يغريني للوصول إلى أمريكا في هذه الظروف الدقيقة خاصة بعد أن قامت سلطات الهجرة والجوازات الأمريكية بإعادتي في العام الماضي من مطار واشنطن، في موقف بربري لا يتفق مع أدنى الحقوق والأعراف البرلمانية التي تحترمها الدول فيما بينها، ولعل ذلك الموقف الصادم كان وراء اعتذاري عن تلبية دعوات كثيرة وجهها إلي أمريكيون من الولايات المتحدة كان آخرها دعوة من اثني عشر سناتوراً فيهم السيدة هيلاري كلينتون من أجل المشاركة في ناشيونال براي بريكفاست، وقلت في رسالتي إليها يومذاك : عذراً سيدة هيلاري لا يمكنني أن أجلس إلى مائدة تدار عليها الكؤوس من أجل محاربة بلادي!!
ولكنني رغبت بالحضور هذه المرة بروح الوطن وهم الوطن رجاء أن نتناصح فيما بيننا والمؤمنون بعضهم لبعض نصحة، والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
قلت لهم إنكم هنا في أمريكا تعيشون هم الوطن ورسالته، ولا شك أنكم تتألمون لتدهور العلاقات بين سوريا وأمريكا وهو ما أدى لأول مرة إلى إصدار أربع قرارات أممية ضد سوريا، ولعلكم تتساءلون ألم يكن بالإمكان تجنيب سوريا هذه القرارات الدولية التي تنعكس سلباً على واقعنا وحياتنا كسوريين هنا في الولايات المتحدة الأمريكية؟
أعتقد بوضوح أن سوريا وجدت نفسها مباشرة أمام تحد كبير حين أعلن المشروع الأمريكي في المنطقة ولعل أوضح صورة للمشروع الأمريكي هي تلك التي حملها الوزير التائب كولن باول، وما أكثر التائبين في السياسة الأمريكية بعد أن ينزلوا عن كراسيهم، فقد جاء الرجل بمطالب واضحة ومحددة أوردتها الصحافة تحت اسم المطالب الثمانية وهي في المحصلة تتلخص في ثلاثة مطالب رئيسية هي حماية الاحتلال في العراق ونزع سلاح المقاومة في لبنان وقمع العمل الفلسطيني المقاوم والذي يعيش حالة لجوء قسري في سوريا.
بكل أمانة فإنه يشرفني أن أكون واحداً من أبناء الشعب السوري الذين نظروا بإكبار واحترام لموقف الرئيس بشار الأسد الصلب في رفض هذه المطالب وتجنيب سوريا كوارث وويلات بل وحروب هي في الواقع نتيجة حتمية لهذا الطريق الوعر الذي تسلكه الإدارة الأمريكية.
وبدون تردد فإن بإمكانك أن تسأل السوريين عن رأيهم في إرسال الجيش شرقاً إلى العراق لحماية الاحتلال، وغرباً إلى لبنان للاشتباك مع حزب الله ونزع سلاحه، وعن قمع حركتي حماس والجهاد اللتين يعيش قادتهما في سوريا قسراً بصفة لاجئين مع مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين ينتظرون كل يوم أمل العودة وحلم العودة، وتريد الإدارة الأمريكية أن تصادر حتى حلمهم بأرضهم وسعيهم في سبيل استرجاعها.
إن مقتضى الديمقراطية أن تستجيب الدولة لمشاعر الناس ولا أشك لو أن الصناديق نطقت بإرادة الناس لرأينا أن المطلوب هو فعلاً إرسال الجيش إلى العراق ولكن ليس للدفاع عن الأمريكيين بل للاشتباك معهم، وإرساله إلى جنوب لبنان ليس للاشتباك مع حزب الله بل للالتحام معه، وفتح جبهة الجولان للكفاح التحرري الذي يؤمن به الشعب السوري كله كما تؤمن به الشعوب الشريفة والحرة، وإنكم تعلمون أن أمريكا تمارس النفاق في تعاطيها مع الديمقراطية وهو ما تجلى بشكل فاضح عندما اختار الشعب الفلسطيني الديمقراطية ولكن الأمريكيين قرروا أشنع العقوبات على خياره هذا بدلاً من احترام خياره الديمقراطي.
إن أمريكا تسببت في أكبر كارثة إنسانية في القرن الجديد عندما أعلنت نفسها قوة احتلال في العراق، وحطمت الجيش العراقي والدولة العراقية والأمن في العراق وتسببت في ضياع تاريخ العراق وثقافته ، ودفعت أربعين مليون قطعة سلاح عراقية إلى السوق السوداء وطردت مليون ومائتي ألف عراقي محارب من عملهم في الدفاع عن وطنهم، وهي مستعدة اليوم وفق إشارات الإدارة الحالية لارتكاب الحماقة إياها في إيران وسوريا، ومن ثم الحديث عن تضحيات يقدمها المقاتل الأمريكي من أجل نشر الحرية والديمقراطية في العالم!!
دعونا نتحدث بواقعية وعقل في نتائج الاحتلال، ودعونا نوافق على تسمية المقاتلين الأمريكيين بأبطال التحرير والديمقراطية وفق منطق بوش ورامسفيلد ولنتصور أنهم فاتحون محررون كخالد بن الوليد وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص، ولكن في المحصلة ماذا كانت نتيجة البؤس الذي قامت به هذه الحرب على الناس؟ وما هو طعم التحرير والحرية التي ذاقها الناس؟ ومن من العراقيين يعتقد أن الاحتلال جاء العراق بأدنى خير؟؟؟
إن الموقف الذي تمارسه الإدارة الأمريكية هو الذي يؤدي مباشرة إلى تزايد الإرهاب في المنطقة ويؤدي تالياً إلى تباطؤ الإصلاح السياسي في سوريا، وهي أقدار قاسية ولكنها خيار السوريين وقدرهم، وهو ما آمل أن يتفهمه أهلنا في المغترب في هذه الساعات العصيبة.
يتجمع في أمريكا أكثر من أربعمائة ألف سوري وأعتز بأن السوريين في أمريكا يحظون بمواقع رفيعة وعالية في الحقل الأكاديمي بوجه خاص، ولدينا فرصة كبيرة لخدمة أبنائنا ووطننا من خلال توحيد الجهود والتعاون مع بلدكم في الداخل، والسوريون من أقوى الجاليات تعليماً، واسمحوا لي أن أنقل لكم هذا الإحصاء الذي قدمه الأخ الدكتور ابراهيم أحمد أستاذ الإحصاء بجامعة إلينوي نقلاً عن مصادر في المكتب الفيدرالي للإحصاء، حيث جزم بان عدد الذين يحملون الدكتوراه من الأمريكيين عموماً ثمانية بالألف فيما يرتفع العدد بين اليهود إلى سبعة عشر بالألف ولكن الرقم بين العرب يرتفع إلى واحد وثلاثين بالألف، وبذلك فإن حضوركم في الأكاديميا عموماً مهم جداً، وإذا كان الوجود العربي واليهودي في أمريكا متقارباً من جهة العدد فمعنى ذلك أنكم تبلغون ضعفهم تقريباً في الحقول الأكاديمية وهو ما يشكل ثقلاً حقيقياً في الشأن العام خاصة أن الأكاديميا عموماً قطاع مؤثر وجوهري وليس هامشياً بحال من الأحوال.
إن الاحتلال الأمريكي اتخذ لنفسه جسراً من العراقيين الذين انساقوا بدافع الثأر وراء المشروع الأمريكي ولكنهم أدركوا فيما بعد أنهم كانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ومع أنني أستبعد أن يجد الأمريكيون من يستجيب لأطماعهم من السوريين ولكنني أعتقد بأن الشيطان لم يمت بعد وأن أصحاب الضمائر الميتة من الناس يمكن أن يخونوا أوطانهم، وأنا سعيد بأن مؤتمركم هذا لم يستقبل أياً منهم وقد أصبحت أسماؤهم معروفة مشهورة كما اشتهر اسم الخائن أبي رغال، ويعلم الأمريكيون أنفسهم أن هؤلاء لا وزن لهم ولا أثر ليس في سوريا فحسب، بل بين أفراد الجالية السورية نفسها من مواطنين شرفاء، سواء كانوا في موقع الموالاة أو المعارضة.
وأعتقد أن المسؤولية تتأكد علينا هنا في الخارج لتقديم صورة واضحة عن السوريين متحدين في رفض الانخراط في الحرب الأمريكية المعلنة من أجل تصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط، ولا أشك أبداً لو أن الإدارة الأمريكية تصغي إلى مراكز دراسات محايدة لجنبت نفسها وجيشها وشعوب الشرق الأوسط هذه الويلات والكوارث لكنها للأسف تتصرف بتأثير ضاغط من اللوبي الصهيوني في أمريكا وأنها قد تنجر إلى سياسات متهورة لا تعود بأدنى فائدة على الشعب الأمريكي ولكنها كما أثبتت التجارب تقع تماماً في الهدف الإسرائيلي الذي يتطلع إلى رؤية مزيد من التشتت والاقتتال والحروب الداخلية في منطقة الشرق الأوسط.