ذكرى قاضي دمشق الشيخ بشير الباني
ودعت دمشق الأسبوع الماضي العارف العالم الشيخ بشير الباني عميد أهل البيت النبوي في الشام والقاضي الشرعي الممتاز، ومستشار محكمة النقض، بعد نحو مائة عام أمضاها في خدمة العمل الإسلامي، والقضاء الشرعي، والبحث العلمي.
عرفته مذ فتحت عيني على الحياة يوم كان آنذاك رئيساً لجمعية الأنصار الخيرية وكان أستاذا في المعهد الشرعي وصديقاً لوالدي، ولا يوجد حجر في هذا المجمع الإسلامي الكبير إلا وهو مدين له بما قدم من عطاء.
صحبته أول ما صحبته مطلع عام 1990 حين أوفدنا المفتي الراحل الشيخ كفتارو إلى نيويورك للمشاركة في برنامج للاتحاد الدولي للأديان من أجل السلام، وكنا آنذاك نتعجب من إرادة الرجل وقد تجاوز الثمانين على إدارة نشاطات الوفد الذي كان أربعين رجلاً وامرأة من دمشق حملوا رسالة التواصل بين الإسلام والكنيسة التوحيدية، وهي رسالة لا تعني بالطبع الموافقة على خيارات الكنيسة التوحيدية، بل كانت الرسالة تهدف ببساطة إلى تعزيز المشترك وهو كثير، وتوضيح الرأي في المسائل المختلفة، وكان الرجل يدرك تماماً كيف يحاور رجال الكنيسة التوحيدية من أتباع صن مون من دون أن يتخلى عن ثوابته الشرعية الإسلامية.
أما أمتع الذكريات التي صحبت فيها الشيخ بشير فقد كانت رحلة العمرة التي أعددتها للحفظة في معاهد الأسد للقرآن الكريم، فقد سعدنا في هذه الرحلة الجميلة بصحبة الشيخ بشير كان يومذاك قد تجاوز السادسة والثمانين ولكننا كنا نندهش للروح اللطيفة التي يحملها الرجل في جنبيه فقد كان تماماً يعيش كشاب في الأربعين لا ينتظر عون أحد فقد آتاه الله الصحة والعافية وآتاه قدرة عجيبة على التواصل مع المعارف الطبية والعلمية، وقد كان بحق طبيباً نطاسياً على الأقل في طب نفسه، وهي المعرفة التي أتاحت له أن يعيش نحو مائة عام لا يشكو فيها من مرض ظاهر.
ولكن أجمل ما رأيته من الشيخ بشير في رحلة العمرة هو إقباله على غار حراء، فحين قررنا أن نزور غار حراء تواعدنا عند صلاة الفجر ولم يخطر في بالنا أبداً أن ندعو الشيخ بشير إلى رحلة كهذه تطحطح لها همم الشباب، ولكن الرجل كان أول الواصلين لنقطة الميعاد وسبقنا إلى الباص الذي كان ينتظرنا للذهاب إلى سفح جبل النور حيث يتعين علينا أن نمشي على الجبل أكثر من ساعة ونصف للوصول إلى غار حراء، ومع أننا تلطفنا في إخباره بطبيعة المشوار وأنه لن يستطيع الصعود في الجبل وهو بهذه السن المتقدمة ولكن الشيخ بشير لم يلتفت إلى شيء من ذلك وبدأ صعوده الجبل مع الشباب، وبالفعل فإنه كان أول الواصلين إلى غار حراء حيث كنا نتحلق حوله نسأل الله همة كهمته وقوة كقوته ويقيناًً كيقينه، وهناك عند غار حراء حيث تتصل الأرض بالسماء سمع التلاميذ أعذب كلام الإشراق والأشواق، تحدث بها ذلك العارف المشتاق يغمره جلال المشهد، في ملتقى السماء بالأرض عند غار حراء في جبل النور.
أما اللقب الذي تخيره له إخوانه فهو رجل الصفاء والوفاء، وأنا موقن أن قلبه الأبيض لا يستطيع أن يحمل قطرة غل على عبد من عباد الله، ولو كان في الأولمبياد ميدالية لصاحب أطهر قلب فمن الصعب أن يسبق أحد إلى نيل شرف كهذا قبل الشيخ بشير الباني، على أنه لم يكن بدون هوية أو توجه، لقد كان واضحاً تماماً مسلم العقيدة أشعري الاتباع حنفي المذهب صوفي المشرب نقشبندي الطريق حسني النسب حقوقي المعرفة دمشقي الإقامة شامي الهوى.
كيف يمكن أن نخرج جيلاً يملك ثقافة كهذه يملك الصفاء الكامل تجاه عباد الله على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وثقافاتهم من دون أن يذوب عن ثقافته أو يتخلى عن دوره الرسالي.
كان يمتلك بصيرة فريدة في قراءة الأشياء وكان أقدر الناس على ممارسة ثقافة الرضا: كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.
ذات يوم كنت أتحدث بمرارة وحرقة عن واقع المسلمين المزري في الشقاق والخصام والتعصب، وكان أقرب الأمثلة إلي جدار القبلة في الجامع الأموي حيث تنتصب فيه أربعة محاريب، وقلت بنزق كيف يمكن أن نجد وحدتنا وقوتنا ونحن في محراب الصلاة على أربعة مذاهب، ولم تستطع الصلاة نفسها أن توحد بين قلوبنا؟؟
إنه سؤال بريء سمعته مئات المرات، وكان جوابنا عليه دائماً الصمت وهز الرؤوس.
كان جواب الشيخ بشير هادئاً وفريداً، وتحدث هذه المرة بوصفه خطيباً للجامع الأموي، حيث خدم في منبره ومحرابه أكثر من أربعين سنة، وقال لا يا أخ محمد، إنها أولاً خمسة محاريب وليست أربعة، فهناك محراب الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة وهناك أيضاً محراب خاص في مشهد الحسين بالجامع الأموي، وهذه المحاريب الخمسة ليست كما تظن مظهر شتات وفرقة، بل هي دليل تسامح وقبول!! وهي تعكس إصرار المسلمين على التسامح في الفقه وإعذار المخالف، وقد أقر العلماء خلال العصور كلها هذه المحاريب تنبيهاً على وجوب التسامح بين أبناء المذاهب، فهنا يقرأ علم الإمام مالك وهنا يقرأ علم الشافعي وهنا يقرا علم أبي حنيفة وهناك يقرأ علم أحمد ابن حنبل وهناك يقرأ علم جعفر الصادق، وحين تقام الصلاة فإن الجميع يلتقون في محراب واحد خلف إمام واحد، ولا مكان في ثقافة كهذه لمذهب يلغي سواه أو إمام يتنكر لدور أئمة آخرين إنها باختصار رسالة مشتركة لسائر أبناء الأمة في لقائهم وفراقهم على الله وجماعة المسلمين.
إنها كلمات من ذهب شدتني مباشرة إلى ذكرى الإمام العظيم مالك ين أنس الذي أنجز كتابه الكبير الموطأ، وحين التقاه أبو جعفر المنصور واطلع على كتابه ولاحظ احترام الناس الكبير للإمام مالك، قال له إني جاعلك للناس إماماً ، وإني سآمر أن يفرض كتابك على الأمة في كل أمصار الأرض ليكون كتاباً ملزماً لهم في مسائل الفقه فلا يفتون بسواه، كانت في الواقع فرصة ذهبية لرجل يطمح إلى ريادة العلماء في العالم الإسلام وكان مالك أهلاً لذلك بكل تأكيد، ولكن الإمام مالك وقف بشجاعة وقال لا يا أمير المؤمنين!! إن أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار وقد حدث كل بما سمع وأخشى أن يكون لديهم ما ليس في كتابي فتحملهم على ما لا يعتقدون!!
لقد كان موقفاً ديمقراطياً فريداً جعل الإمام مالك من وجهة نظري واحداً من أعظم الحكماء في تاريخ الإسلام.
كان تحليل الشيخ بشير لظاهرة المحاريب في الجامع الأموي نقطة تحول في وعيي بثقافة الإعذار بين المذاهب الإسلامية، وأدركت أكثر من أي وقت مضى أن المذاهب الإسلامية ظاهرة غنى فقهي وثراء فكري، وأنها يجب أن تعمل متجاورة متواصلة على أساس التكامل وليس على أساس التماثل، وأن هذه المذاهب هي ألوان الطيف الإسلامي التي يتشكل منها المجتمع الإسلامي، وهي اللوحة الكبيرة التي تعكس غنى منجم الفقه الإسلامي وثرائه ، وتدعونا لاحترام ما أنجزه الفقهاء الكرام خلال التاريخ الإسلامي.
إن وعياً كهذا هو الذي أسس لثقافة الفقه المقارن وملأ خزائن المكتبة الإسلامية بالفقه المشارك الذي ترد فيه أقوال الأئمة متجاورة متكاملة، من بداية المجتهد ونهاية المقتصد إلى الإنصاف في اختلاف الفقهاء إلى الفقه على المذاهب الأربعة والفقه على المذاهب الخمسة، وأخيراً موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته، حيث كان الفقيه يدخل منجم الفقه الإسلامي بكامل حجراته يتخير ما هو أصلح للأمة في دينها ودنياها.
رحل الشيخ بشير شاباً على مشارف المائة عام، وبرحيله تطوى صفحة فريدة من تاريخ العلماء الربانيين
كلمات أهديها لأسرة الشيخ وخاصة العزيز الدكتور محمد العمادي والأستاذ نبيل الكزبري والدكتور أويس الطرقجي:
كفى حزناً بموتك ثم إني نفضت غبار تربك من يديا
وكانت في حياتك لي عظات وأنت اليوم أوعظ منك حياً