مقالات

د.محمد حبش- رومانيا تصغي إلى الإسلام 11/7/2008

رومانيا، أو داسيا كما هو اسمها التاريخي جزء من العالم المجهول في ذاكرتنا وهناك اختلاط كبير بين الرومان الذين استعمروا سوريا قروناً طويلة وأذاقوا أهلها الأهوال ألواناً، وبين الشعب الروماني المتوثب للحرية بعد قرون طويلة من القهر والظلم والعذاب.

لا شك أن الرومان الذين حكموا أرضنا في الاستعمار القديم أو في الحروب الصليبية لم يكونوا طلياناً بالمعنى التقليدي بل كانوا جلباً من المحاربين في شرق أوروبا من رعايا الدولة الرومانية، وكان عدد كبير منهم من بلاد شمال الدانوب حيث تقع رومانيا، وحيث قام الرومان باحتلال بلاد الداسيا منذ القرن الأول الميلادي واستوطن قسم كبير منهم في الداسيا، ولأسباب مختلفة تتصل بالاستيطان الروماني في المنطقة فإن أقاليم مولدافيا وولاخيا حين توحدتا في دولة واحدة لأول مرة عام 1861 اختارا اسم رومانيا اسماً وطنياً على الرغم من أن روما تبعد عن رومانيا أكثر من ألف كيلومتر، وتفصل بينهما دولتان على الأقل، والرومان لا يقبلون أن تكون رومانيا جزءاً من تاريخ روما أو طموحها، وقد بدأت أقاليم شمال الدانوب تنضم إلى المملكة الجديدة وفي عام 1878 اعترفت أوروبا برومانيا المستقلة تحت قيادة الملك كارول الأول، واكتملت رومانيا الحالية بانضمام ترانسلفانيا عام 1918 على يد حفيده فرديناند.

وكانت الحروب الصليبية أسوأ اتصال بين الشرق والغرب، وكانت بالغة الأثر على الحاضر والماضي والمستقبل، وقد ظل المؤرخ العربي بصيراً بخطورة ذلك، ولم يقبل أبداً أن يسمي تلك الحروب الدامية الظالمة باسم الصليب الذي هو رمز ديني، وإنما سماها باسمها الصحيح حروب الفرنجة، أو الغزو الروماني على بلاد الإسلام، وهي صورة رسمها المحارب الفرنجي والروماني بالحراب والسيوف والدماء، وحطمت كل جسور الوفاق بين الحضارتين المتشاطئتين على ضفتي المتوسط.

وليست صورة الإسلام في الذهن الروماني بأحسن حالاً فكما ترتبط الذاكرة السورية بالمحارب الروماني القاسي الجلف، فإن الروماني تعرف على الإسلام أيضاً من خلال الحروب العثمانية التي كانت المكافئ الموضوعي لحروب الفرنجة، وقد قام العثمانيون في القرن الخامس عشر بضم إمارتي مولدافيا وولاخيا وكلاً من الدانوب ومناطق البحر الأسود والبلقان وبالتالي فإن رومانيا عانت طويلاً من الحرب مع العثمانيين، وقد تجلل ذلك الصراع بالأساطير الدموية، وأطلقت حرب تحرير شرسة قادها الأمير الروماني دراكولا مصاص الدماء الذي نصب المشانق والخوازيق، واسمه فلاد تيبيس وهو ابن الأمير الروماني فلاد دراكول المسمى ابن الشيطان، وتتردد روايات عن مسؤوليته المباشرة في قتل نصف مليون إنسان بدم بارد عام 1456 لتحسين الوضع الاقتصادي شمال الدانوب آنذاك، بشبهة ارتباطهم أو ولائهم للعثمانيينن وهناك من يقدمه للرومانيين على الرغم من وحشيته بأنه المدافع الصلب عن دين رومانيا ضد أطماع الإسلام، وهنا فقط يمكنك أن تفهم أسباب تصنيف دراكولا مصاص الدماء بصورته الأسطورية الوحشية بطلاً وطنياً في أذهان بلاد الدانوب.

هكذا على الأقل كانت صورة رومانيا في خاطري كما هي في خاطر كثير من السوريين الذين يقرؤون تاريخ الرومان في أرض الشام، على الرغم من أن الرومان الذين عانينا منهم ليسوا بالضرورة أبناء بوخارست وقسطنطا وكرايوفا بل هم ذلك الفريق المغامر من الذين مشوا في هوى هرقل، واتبعوه من بيزنطة والبلقان ووطئوا أرض الشام بجيوش جرارة كاسحة كانت جزءاً من الحرب اليونانية الفارسية الرومانية من أجل السيادة على المتوسط.
كانت إذن صورة قاتمة ولم يتغير شيء كثير، على الرغم من التحالف الذي شهدته سوريا مع الكتلة الاشتراكية أيام الاتحاد السوفياتي فقد تبدد ذلك مع رحيل تشاوشيسكو، وعادت أيام التاريخ السوداء تفرض ظلالها على الذاكرة، خاصة مع قيام أحزاب رومانية بالانخراط في المشروع الأمريكي وهو مشروع معاد لسوريا بكل تأكيد.

ولكن هذه الصورة سوف تتغير عندما تلتقي في دمشق السيد دان ساندوفيتش السفير الروماني بدمشق الذي يحب بلده ويحب أرضه ويحب تاريخه، ويعمل بشرف لبناء الجسور بين سوريا ورومانيا على أساس من الحوار والتعارف.
حين زارنا في مركز الدراسات الإسلامية قال دان ساندوفيتش إن ما سمعته عن الإسلام المستنير هنا يثير إعجابنا، وإن من حق رومانيا أن تتعرف على هذه التجربة الفريدة في الإخاء الديني، وهذا المنطق الإسلامي المستنير في شرح موقف الإسلام من الأديان الأخرى وموقف الإسلام من الإنسان نفسه.
وكمن وجد كنزاً من ذهب راح دان ساندوفيتش يبشر في رومانيا بالتجربة السورية الفريدة في الوعي بالإسلام وفي الإخاء الديني، ولم يطل به المقام حين أخبرني بأن جامعتين اثنتين جاهزتان لفتح حوار مباشر معكم حول تجربتكم في التسامح الديني في سوريا.
لم أتأخر في تلبية النداء وحزمت حقائبي ومضيت إلى رومانيا، وكانت المحطة الأولى في كرايوفا، المدينة الهادئة التي شهدت عيناها الذابلتان ذات يوم فظائع الجنون الصربي في سربرينتسا وكوسوفو، أطلقت كلية فريدة للاهوت والعلوم الثيولوجية، ولكنا ظلت من الإسلام في ريبة وكانت تنتظر خطاباً إسلامياً آخر غير التي سمعته تاريخياً من أرطغرل وكوبريللي باشا، أو كما تسمعه اليوم من تورا بورا وغزوات مانهاتن وقندهار، وقد جاءت ترسم خطاها باتجاه تجربة حوار مفتوح مع الإسلام، وحين وصلت إلى بيت الجامعة كان في استقبالنا أربعة من الأساتذة الكبار في الجامعة يحملون باقة رائعة من الورد، كان المدهش أن أسماءهم جميعاً ميهاي!! وهو الاسم المسيحي: ميخايل، سألتهم ضاحكاً: أليس في رومانيا اسم آخر؟؟
أما اللقاء فلم يقتصر على كلية اللاهوت في الجامعة وإنما دعي كل عمداء الكليات ذات الاهتمام بالعلوم الإنسانية، وكان حواراً واضحاً وجريئاً، وتوجه رئيس الأساقفة بكلمة ضافية تحدث فيها إن رومانيا تحتاج أن تتعرف إلى الإسلام كما هو في أصوله الأولى بعيداً عن صليل السيوف والحروب الصليبية والعثمانية.

في جلسة المباحثات تم اقتراح عدة مشاريع لتحقيق جسر معرفي من التواصل بين الإسلام والغرب، وهي تتمثل في كورس خاص عن الإسلام يدرسه طلبة جامعة اللاهوت، عبر أستاذ زائر من سوريا، ورسالة دكتوراه خاصة عن الإسلام يتم إعدادها ومناقشتها بإشراف مركز الدراسات الإسلامية في دمشق!
كان الكريوفيون أسعد مما تصورناه بخبر كهذا، وحين تقره المكنة الأكاديمية فإنني أعتقد أن جسراً حقيقياً من التواصل قد أنجزناه بين الإسلام والغرب.
أما قسطنطا المدينة الساحلية الزاهية بالبحر الأسود فقد أتاحت لنا فرصة حقيقية للتعريف برسالة الإسلام في تجمع فريد حشدت له أبرز أساتذة اللاهوت من رومانيا ومولدافيا وجورجيا ضمن نشاط معهد أوفيديوس للحوار بين الديانات التوحيدية في جامعة قسطنطا.

هل تستطيع الأكاديميا أن تصلح ما أفسدته السياسة؟ إنها على كل حال رسالة ينبغي أن يتصدى لها الشرفاء من أبناء الحضارتين، وهو جسر معرفي قد يصل ما تهدم من الثقافات الآفلة، ويعزز بناء الحياة من جديد، كما قال نيوتن: إن الإنسان بنى كثيراً من الجدران وقليلاً من الجسور!!
إنني ألتمس العذر من القراء الكرام، فهم لا يشعرون بأن التاريخ حاضر إلى هذا الحد في رسم ملامح العلاقات، وهناك أفق من التبادل التجاري والتعليمي بين سوريا ورومانيا لا شأن له بهذا الجدل التاريخي كله، وربما سينظر إليه السوريون في بخارست باستغراب وحيرة، فدراكولا لا يعني بالنسبة لهم غير أسطورة كتبها الروائي الإيرلندي برام ستوكر عام 1897 ما لها من نصيب في رسم ملامح العلاقات بين البلدين، وهم لم يسمعوا أصلاً بالحروب الرومانية الانكشارية، ونحن أيضاً كسوريين عانينا من الانكشاريين ونحن شركاء رومانيا في المعاناة أكثر مما نحن شركاء الانكشارية في المغانم، ولكن شكل الصراع بين الشرق والغرب صبغ الأطماع التركية بالمد الإسلامي في أوروبا، وبالمناسبة فإن كثيراً من مؤرخينا وخطبائنا يعتبرون الفتوحات العثمانية نصراً للإسلام، ويتغنون بحصار نوهزل وفيينا، وأمجاد بايزيد وكوبريللي، وتعليق رأس دراكولا على أسوار قسطنطا، وهرب الملك النمساوي ليوبولد الأول، ولكنني شخصياً لا أرى فيه شيئاً من ذلك ولا أعرفه أكثر من حروب سياسة وأطماع، تسربلت في الجانبين لبوساً دينياً دفع الناس ثمنه من تاريخهم ودماء أبنائهم.

هل حان الوقت لقراءة التاريخ كما هو بدون رتوش، والنظر إلى المستقبل على أساس القيم الإنسانية الكبرى من العدالة والحرية والمساواة كما بشر بها الإسلام وأدركها الأحرار في كفاحهم الإنساني النبيل؟؟

حين أطل الإسلام في جامعة كرايوفا كانت له رسالة واحدة: إن الإسلام دين بين الأديان، يصدق ما بين يديه، من النبوة السابقة والحكمة اللاحقة، ويحترم الأنبياء ويعظم رسالاتهم، ولا يفرق بين أحد من رسله، وليس شعباً مختاراً لله، يحمل سيفه على عاتقه ليدخل الناس في الإسلام بجيوش الفتح.
إن صورة الخيول الغازية ليست بالضرورة صورة مجاهدين أتقياء ورعين يرجون الله والدار الآخرة، إن فيهم كثيراً من الذين ظلوا يقولون لرسول الله إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم!! وظل رسول الله يقول لهم لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل!!

باختصار إن صورة الإسلام في البلاد التي عانت من الحروب الصليبية وارتداداتها العثمانية مشوهة، وتحتاج إلى عناء كبير في التصحيح، وحوار طويل بالحجة والبرهان، حتى نعيد للعالم صورة الإسلام الحق الذي جاء رحمة للعالمين.

Related posts

د. محمد حبش- خطوة باتجاه التكامل بين الإسلام والديمقراطية7/1/2006

drmohammad

د.محمد حبش- في عيد الميلاد : نعم .. سورية ميقات الأرض .. الأنبياء مروا من هنا 28/12/2007

drmohammad

د. محمد حبش- من دمشق إلى البابا…… مسلمون ومسيحيون 22/9/2006

drmohammad

Leave a Comment