مقالات

د.محمد حبش- أغنية من أجل السلام…30/5/2008

وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله

كان اللقاء الأسبوع الماضي في قبرص مناسبة للحديث عن آفاق السلام المأمولة وكانت الأخبار تتوالى تباعاً عن المفاوضات غير المباشرة الجارية في استانبول برعاية تركية، وبالطبع فقد كان الإعلام الإسرائيلي يصور السلام على أنه مسألة وقت، وأن كل الترتيبات قد اتخذت من أجل أن يدرك العرب أخيراً حق إسرائيل في الحياة، ويفصلوا الحلف السوري الإيراني القائم ضد استقرار الشرق الأوسط، وهو ما أجابت عنه سوريا أحسن جواب حين وصل وزير الدفاع السوري حسن توركماني إلى طهران في رسالة لا تحتاج لأدنى تفسير.

المشاركة اليهودية في المؤتمر دعيت لإلقاء خطابها وحين تمكنت من المنصة أفصحت عن رغبتها بتحويل الكلمة إلى مجرد أغنية، على أساس أن الحقائق واضحة وضوح الشمس وأن كل شيء صار محل اتفاق ولم يبق لنا إلا أن نرقص على سمفونية السلام.
لم تكن المغنية عذبة الصوت ولا رائقة الطلة، وإنما كانت في الواقع من ذلك النوع من المغنين الذي لا ينشد إلا بدرهم ولا يسكت إلا بدينار!!

كان حديثي بعد الأغنية اليهودية، وكانت المخلوقة تتوقع مني أن أشيد بموهبتها النادرة وحنجرتها (المعترة) بحيث نرقص جميعاً على سامبا يهوذا والناصرة، ولكنني لا أخفيك لم أجد أبشع من موقف كهذا نرقص فيه على أشلاء الأبرياء من الشعب الفلسطيني المقهور الذي دفع حياته ثمناً للأوهام التوراتية على جدار النكبة المشؤوم.

أما كلمتي فقد اختصرتها على شرح شاهدين اثنين لأطماع إسرائيل كانا موجودين معنا وهما العملة والعلم.

الشيكل من فئة عشر غروش وهو قطعة معدنية صغيرة لا أدري قيمتها النقدية، ولكنها قادرة على شرح الحكاية كاملة، فتحت الشمعدان اليهودي على صفحة الطرة توجد خريطة إسرائيل الكبرى، وهي خريطة لا تحتاج إلى تفسير تمتد مباشرة من الفرات إلى النيل، ولكنها هذه المرة لا تلزم الشكل التقليدي الذي يرسم عادة بالخط المستقيم على محاذاة المدينة التعيسة الذكر شرم الشيخ، بل ينخفض جنوباً باتجاه المدينة المنورة التي هي في الشيكل الإسرائيلي جزء من إسرائيل الكبرى، حيث تعود بك الذاكرة إلى الجهود التآمرية التي مارسها منذ القدم (مناضلو) بني النضير وقريظة وقينقاع في مستوطناتهم، في مواجهة النبي الكريم الذي حمل مشروع دولة ديمقراطية لا تؤمن بعرق أزرق ولا تفهم مبررات قيام دولة شعب الله المختار، بل تؤمن بالعالم كله أسرة واحدة تحت الله.

والدليل الثاني هو علم إسرائيل حيث النجمة السداسية فوق أرض بيضاء تمتد بين خطين أزرقين يرمز الأول إلى الفرات والثاني إلى النيل، ولا نحتاج إلى ذكاء لنقرأ على العلم ما شرحه الشيكل وما شرحته العبارة المعلقة على الكنيست : حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل!!
الشيكل والعلم ليسا من صنع حركة كاخ المتطرفة ولا هما من عمل المجنون الذي أحرق الأقصى ولا من تراث إيغال عامير قاتل رابين ولا باروخ غولدشتاين الفارس الأسطوري الإسرائيلي لمذبحة الخليل ولا المتطرفين الذين يطوفون بحجر الأساس الخاص بالهيكل لهدم الأقصى ولا هم أولئك الهبل المدندلة شعورهم يقفزون ويلطمون ويصرخون قبالة حائط البراق ويستدعون صحائف رمادية من تاريخ أبله!! إنها عملة البلاد وعلم البلاد!! وهذه القيم لا تطبخ عادة بإرادة الحاخامين المنهكين من قراءة التلمود والمشناه والجمارة والمدراش الأورشليمي، بل هو رمز البلد الذي يؤمن به المتدين والعلماني والشيوعي والاشتراكي والتقدمي والليبرالي والسفارديم والأشكناز من أبناء إسرائيل، وهي أشياء لا يتم إقرارها إلا بعد عملية معقدة في مطبخ القرار بين الكنيست والحكومة والقضاء والمستشارين واللجان التشريعية والدستورية والقانونية ومراكز الدراسات، والعرض على الرأي العام وغربال الصحافة وغير ذلك من الإجراءات التي تمنح صيغة العلم وصيغة العملة هذا القدر من القدسية والمهابة الذي يجعل النائب الإسرائيلي إرييه ألداد يطالب علناً في الكنيست بتشريع حكم الإعدام ضد أي مسؤول ينسحب من الجولان على أساس أنها جزء من أرض إسرائيل الكبرى!!
على طرة الشيكل يظلل الشمعدان الإسرائيلي أرض إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل محددة الجغرافيا بالإحداثيات إلى المدينة المنورة وهي تبتلع قسماً كبيراً من مصر والسعودية والعراق وتركيا ولكنها تبتلع بالكامل سورية ولبنان والكويت والأردن!!
وفي العلم تظلل نجمة داود الأرض البيضاء التي تمتد بين الفرات والنيل الأزرقين، ويدرك الطفل الصغير أن الأرض البيضاء هي الأرض الفارغة التي لا يوجد فيها سكان وهو ما طرحه أشرار الصهيونية الأوائل للعالم: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
والمطلوب بعد ذلك كله أن نغني للسلام!!

حين خاض الفلسطينيون مشروع أوسلو لم تقبل إسرائيل أن تلقي أياً من فتات أوسلو للفلسطينيين إلا بعد أن تمت إقامة مراسيم احتفالية ضخمة ومذهلة لتغيير الميثاق الفلسطيني الذي كان ينص على الكفاح المسلح ضد إسرائيل ولأجل تغيير هذا الحبر الأسود حضر كلينتون نفسه إلى رام الله!! وشارك في جلسة خاصة للمجلس الوطني الفلسطيني تمخضت عن حذف كل الفقرات التي تزعج الجانب الإسرائيلي من حديث المقاومة والكرامة والمواجهة، فيما لم يسأل أحد إسرائيل حول واجبها حين تركب قطار السلام في إصلاح عملتها وهي موجودة في جيب كل إسرائيلي، أو علمها الذي يختصر رمز قيام الدولة العبرية والذي ظل يتغطرس عاماً كاملاً في موسوعة جيمس على أنه أكبر علم في العالم حتى تمكنت إرادة الفلسطينيين في دمشق وبالتحديد في حي الزاهرة يوم الجمعة الماضية من كسر الوهم الإسرائيلي حين سجلت في الموسوعة إياها العلم الفلسطيني كأكبر علم في العالم بواقع 27 دونماً على الأرض.

بعد تصريحات ألداد لا نحتاج لنبوءة لنتوقع للذين يريدون السلام في إسرائيل مصيراً كمصير رابين على يد التطرف الصهيوني، ولن يطول الزمان حتى يصلي الإسرائيليون لروح الشهيد المناضل التوراتي إيغال عامير الجديد الذي يظهر تمسكه بقيم المشناه والجمارة والتلمود ضد العلمانيين الإسرائيليين الذين يخرقون إرادة الرب في البحث عن السلام مع الغوييم المسخرين لخدمة الشعب المختار.
سيقرأ عرب الاعتدال هذا الخطاب على أنه ردة إلى الوراء وعودة إلى الخطاب الخشبي الذي يقول بإلقاء الإسرائيليين في البحر، وسيستحضرون الخطب النارية لعبد الناصر، ولكنهم لم يقولوا شيئاً عن الخطاب الخشبي المرسوم على العملة والعلم، والذي يقطع كل وهم في التسوية مع عدو يتربص بك الدوائر ولا يرى في أهل عمان وإربد ودمشق وحمص وحماه والرمادي والفلوجة والكويت وخيبر والمدينة المنورة وسيناء والاسماعيلية والعريش وما بين لابتيها إلا غاصبين للأرض الموعودة، وليس من قبيل المزاح أبداً أن جمعيات تأسست في إسرائيل للمطالبة بحق العودة إلى سيناء والقنيطرة وخان أرنبة وبنت جبيل والخيام، ويتعالى صوت حق العودة إلى خيبر وفدك ويثرب وبابل وأور والقاهرة والاسماعيلية والسويس.

حكاية السلام مفصلة في القرآن بآيتين اثنتين متتاليتين لا يجوز أن نقرأ إحداهما بدون الأخرى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم، وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين.

Related posts

د.محمد حبش- الاستثمار في اللغة العربية

drmohammad

د.محمد حبش- أنتم أعلم بأمور دنياكم 13/3/2009

drmohammad

الدكتور محمد حبش- الصين والعالم الإسلامي تاريخ الجوار والحوار

drmohammad

Leave a Comment