كيف نحكم على 95% من المسائل المعاصرة التي ليس فيها كتاب ولا سنة؟
تبقى أكبر مشكلة في الوعي الاسلامي المعاصر هي علاقة المسلم بهذا العالم، وتتأسس هذه العلاقة مدرسياً على فكرة محددة وهي أن هذا العالم تنكب عن الاسلام بعد اذ تبين له الحق فأضله الله على علم ومأواه جهنم وبئس المصير…..
وقد تم تبني هذه الفكرة على أساس قياس الشعوب الحاضرة على الشعوب التي عاصرت الرسول ولم تدخل في الإسلام، وفق الحديث المروي: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لم يؤمن بي إلا كان من أصجاب النار.
وتبدو هذه الفكرة من مسلمات التعليم الديني في مدارسنا وربما كذلك التعليم العام في البلدان الإسلامية، وتشمل بدهياً كل شعوب الأرض في القارات الخمس باستثناء من تخلى عن دينه واعتنق الإسلام.
ولن تتم معالجة هذه الفكرة مهما ألقينا عليها من مساحيق التجميل، فالاعتقاد أنهم أهل الجحيم يعني حكماً الشعور بغبائهم ودونيتهم وحماقتهم ووجوب بغضهم في الله!! وستتطور الأمور إلى ما تريده السلفية الجهادية من وجوب حملهم بالجهاد إلى الخضوع لحكم الله وأمره، على حد تعبير سيد قطب: إن الناس لن تتخلى عن أهوائها من أجل مثل أخلاقية!!
وحين نقول إنه يجب معاملتهم معاملة حسنة وحين نورد روائع الأدب الإسلامي في التعامل مع الناس فإن العقل الفضولي سينصرف مباشرة إلى تساؤل بريء إذا كان الله يكرههم وسيشويهم في الجحيم فلماذا أكون أرحم من الله، أأنتم أرحم أم الله؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
وأما القول بأن علينا الاستفادة منهم في المنجزات الحضارية واحتقارهم في عقائدهم الشركية فلا يغير من الأمر شيئاً وستبقى رياح الكراهية تحت الرماد، طالما أن المستكن في القلوب هو بغضهم في الله وكراهيتهم واحتقار أديانهم، إضافة إلى ما يحمله هذا الموقف اللئيم من انتهازية ونفعية لا تليق بأخلاق المسلم وطهره.
نحاول هنا أن نقدم جواباً آخر مستندين إلى نصوص الكتاب والسنة التي كانت من وجهة نظري أشد وعياً من فقهائنا المعاصرين بتحول الزمان والمكان.
أخبرت السنة الصحيحة بما يقطع الشك أن الله أمر بأشياء فلا تتركوها ونهى عن أشياء فلا تقربوها وسكت عن أشياء رحمة بكم عير نسيان فلا تسألوا عنها.
فالمسكوت عنه أمر حقيقي ثابت بالنص وهو يتناول أشياء كانت موجودة في عصر النبوة ولكنها لم تحظ بحكم شرعي يلزم المسلمين وظل الناس مختلفين فيها دون بيان من صاحب البيان.
بعضهم يظن أن سكوت الشريعة عن أمر ما ضعف ونقص، لا أشارك هذه النظرة أبداً بل هو كمال وحكمة وحيوية.
ولكن أصدقاءنا اليوم في الشريعة لا يعتقدون ما اعتقده رسول الله، ويرون بأن الشريعة فصلت القول في كل شيء من أمر الدنيا والدين، وأنه ما نسقط من ورقة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا يجب على الفقهاء أن يحكموا فيها حلالا وحراما ووجوبا وامتناعاً.
فإلى أي مدى كان هذا الكلام واقعياً؟
منذ فجر الإسلام واجه المسلمون مشكلة المسكوت عنه، وكان الخلفاء يقولون نناشد الله رجلا سمع من رسول الله شيئا في هذا الأمر أن يأتينا به، وكانت الأجوبة تأتي حيناً ولا تأتي أحياناً كثيرة، فيجتهد الناس في ما يصلح لدينهم ودنياهم.
أول مشكلة واجهتهم كانت اكتشافهم شعباً جديداً لم يرد ذكره في القرآن ولا في السنة، وهو المجوس، وبعد جدل طويل بين الصحابة اختاروا موقفا حكيما وهو القياس حيث سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
ولكن المجوس ليسوا نهاية العالم ولم يكونوا إلا شعباً جاراً وقريباً من الجزيرة العربية وستنشأ باستمرار مشاكل من هذا النوع حول موقف المسلم من العالم ولا يمكن على الاطلاق قياس العالم كله والتاريخ كله على معايير الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي.
والمسكوت عنه ليس مسالة أو مسألتين كما يتصور بعض أصدقائنا بحيث نفتي فيهما برأي وتستمر الحياة، فما هو حجم المسكوت عنه حقيقة في هذا العالم؟
جغرافياً المسكوت عنه هو 95 بالمائة من هذا العالم على أقل تقدير، فالقرآن والسنة تحدثا عن الحجاز واليمن والشام ومصر والعراق، وفي القرآن الكريم لم يرد من أسماء المدن أوالبلاد الا ستة وهي مكة والمدينة ومصر والارض المقدسة والاحقاف وبابل ولا شيء أكثر من ذلك، على أن المذكور في الكتاب والسنة لا يتجاوز جزيرة العرب ومصر والحبشة، فيما لا يوجد في القرآن والسنة حرف واحد عن الهند والصين واليابان واستراليا وامريكا واوربا وافريقيا، ويمكن القول حين نراقب خريطة العالم دون أدنى شك أن المذكور في الكتاب والسنة من الجغرافيا هو 5 بالمائة لا غير.
تاريخياً: لم يذكر في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية شيء عن أخبار الأمم الأولى إلا ما كان منها بين أرارات واليمن والنيل والفرات وهذه بالضبط هي منازل الأنبياء المذكورين في القرآن، وهذه هي بالضبط الحضارات التي ذكرت في القرآن الكريم، ولكن لم يذكر في الكتاب ولا في السنة أي كلمة عن حضارات الميديين والحثيين والعموريين والعيلاميين والسومريين وهي حضارات محلية ناهيك عن الحضارات الأخرى كحضارة الصين والهند والإغريق والمايا والأزيتا والفايكنغ، بل إن القرآن نفسه ينص على هذه الحقيقة نصاً فيقول: ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك، فالمسكوت عنه كثير وما أخبرت به غيض من فيض.
ويمكن القول بدون أدنى مبالغة أن القرآن والسنة لم يشيرا تاريخياً إلا لنحو خمسة في المائة من حضارات التاريخ، وأن المسكوت عنه يتجاوز 95 في المائة على أقل تقدير.
مدنياً: فإن المذكور في الكتاب والسنة لا يعدو أيضاً خمسة في المائة مما نستخدمه اليوم، ففي مجال الطعام لم يذكر القرآن الكريم شيئاً عن القمح والقطن والأرز والسكر والبطاطا والبندورة والخيار والبازلاء والفاصولياء، وفي البنيان لا ذكر للأبراح ولا للفيلات ولا للفنادق، وفي النقل لا ذكر للطائرات ولا للسيارات ولا للصواريخ ولا للقطارات، وفي الحيوان ذكر أربعة عشر صنفاً في حين أن المصنف الآن من أسماء الحيوان يزيد على ثلاثمائة ألف وليس في القرآن والسنة ذكر للضبع والفهد والكنغر والتمساح والبطريق والزرافة… والأمر لا يخفى على أي ملاحظ، ولا شك أبداً أن هذا ليس نقصاُ في القرآن على الإطلاق بل هو من كمال القرآن الكريم وضيائه في كل زمان ومكان، لأنه نور يهدي وليس قفصاً يأسر.
فكيف أمكن أن يجيب الفقه الإسلامي على الأسئلة كلها؟؟
لم يجد الفقهاء حرجا ان يصرحوا بهذه الحقيقة الواضحة، واستخدموا عبارة حكيمة تعد من روائع الفقه العالمي: وهي أن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية وان ما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى….
مثل هذه التصريحات الفقهية المتينة والحكيمة يتم وصفها اليوم في العقل الفقهي الانفعالي المتعالي بأنها شك بالقران وكفر بالسنة، وأن هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأنه كتاب الله وحكمه وأمره للأولين والغابرين والحاضرين والأتين والآخرين….
وبعيداً عن العقل الانفعالي الإطلاقي الذي يحاكم الأشياء بعواطفه ويحجم عن حكم العقل وبرهانه فإن الأمة منذ عصر عمر بن الخطاب أعلنت عن الحاجة إلى مصدر إضافي على النص يحقق أهدافه وهو القياس، ونص عبارة عمر بن الخطاب لأبي موسى الأشعري: الفهم ..الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه، اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها.
ولكن القياس على النص نفسه لم يصمد أكثر من قرن واحد عندما أعلن أبو حنيفة أن القياس لا يأتي دوما بالحلول المناسبة وأنه يجب العدول عن القياس إلى الاستحسان وأعلن بالفعل بداية عصر العقل وانتهاء عصر القياس على النص وأن الاستحسان هو السبيل لمعرفة الأحكام والحكم على الأحداث والشعوب والمستجدات في كل زمان ومكان، وعرفه تعريفا يقطع كل جدل بقوله: الاستحسان ما يستحسنه المجتهد بعقله، وفي عبارة أخرى هو دليل ينقدح في عقل المجتهد يعسر التعبير عنه.
لم تكن ثورة أبي حنيفة سهلة، فقد تضمنت الإعلان الصريح أننا أمة العقل لا أمة النص، ولم تمر دون حفلة تخوين هائلة، كان أهونها كتاب الامام الشافعي الغاضب إبطال الاستحسان ومن استحسن فقد شرع، وقول سفيان الثوري: إنه ينقض عرى الإسلام عروة عروة، وقول الإمام مالك إنه يكيد الدين ومن كاد الدين كاده الله!!!
ومع ذلك فقد ثبت أبو حنيفة وأصر على الاستحسان المذهل الذي هو في الواقع احتكام إلى العقل والبرهان والشورى بمعايير قد تتجاوز ظاهر النص إلى مقاصده.
بالطبع ذهب بعض الفقهاء فيما بعد إلى اختراع تعريفات للاستحسان لا يرضاها أبو حنيفة ولا ترضي طموحه، وتعيد طموح العقل إلى قفص النص، وتجعله نوعاً من القياس وهو أبعد ما يكون عن طموح أبي حنيفة.
لماذا لا نعتبر اليوم أن هذا العالم الذي اكتشفناه في القرون الأخيرة وما فيه من نظم وقوانين ووسائل هو من المسكوت عنه وسبيل الحكم عليه هو الاستحسان لا القياس؟
شعوب الأرض التي لم يرد ذكرها في الكتاب والسنة وأنظمة الحكم التي لم يرد ذكرها في الكتاب والسنة، والنظم الاقتصادية والمصرفية الحديثة، ووسائل النقل وقوانين الهجرة والضرائب والشحن والعلاقات الدولية والدبلوماسية، وكل ما أحدثه الإنسان في الأرض فإن سبيل الوصول إليه هو الاستحسان العقلي الذي تمارسه كل الأمم باحترام وتداول وواقعية.
والاستحسان في أجلى صوره هو العقل الجماعي وهو الرجوع الى الشورى والاستماع من أهل الخبرة والمعرفة في كل اختصاص وهو الأمر الذي تطبقه كل نظم العالم المتحضرة اليوم، وبدون تردد يمكنني القول إن الاستحسان هو عنوان التشريع في سويسرا والنمسا واليابان وسنغافورة والدول الاسكدنافية والعالم الاوربي والامريكي وكل العالم الديمقراطي، حيث يقدم كل عاقل حجته وبرهانه، ويأكل الفكر بعضه بعضا وتحكم عليه قاعدة الله في قرآنه: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.