بدءاً من سلمان رشدي إلى الرسوم الدنمركية، إلى شارلي أبيدو، إلى حرق المصحف في مالمو صورةٌ تتكرر، سفيه يُعرِب عن استفزازٍ ما، رغبة في الشهرة ولو بالصفع على القفا، وجماهير هائجة تقوم بممارسة الغضب الانفعالي، والمظاهرات الصاخبة، وفي إحدى موجات الغضب في أفغانستان ضدَّ شارلي أبيدو قُتِل عشرات الغاضبين من المسلمين في اشتباكات داميةٍ رافقت المظاهرة دون أن ينال أصحابَ شارلي أبيدو أيُّ أذى، واستمرُّوا في الإعداد لصور أخرى في حماية القانون. والسؤال الذي تطرحه هذه المقالة كيف نتعامل مع الإساءات المتكررة التي يقوم بها بعض الكارهين للإسلام من إعلاميين وسياسيين مستفزين؟
أليس من العقل أن نتبع في هذه النقطة بالذات سلوك النبي الكريم في مواجهة الإساءات؟!
لم تتوقف الإساءات للرسول الكريم في أثناء تاريخ النبوة كلها، فقد تلقى من اليوم الأول لدعوته أوصاف الساحر والشاعر والكذَّاب والمفتري، على الرغم من ماضيه الذي كان يحمل صفة واحدة وهي الصادق الأمين.
وفي المدينة ازدادت الاتهامات قسوة ولؤماً، وأضيف للمشركين المحاربين المنافقون من أبناء المدينة الذين صرحوا بإساءات كثيرة لا يمكن تحملها، وأطلق عدد من المنافقين على الرسول نفسه ألقاباً مسيئة مثل: هو أذن وقمع قول، وهو الأذل، واتهمت زوجته الكريمة عائشة في عرضها وشرفها، وبلغت الوقاحة أن وصفه ابن أبي سلول بقوله: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وأكمل ذلك بقول: ما أعدنا وجلابيب قريش إلا كمثل القائل سمن كلبك يأكلك!
كانت هذه الاتهامات تقع في سمع الرسول الكريم كل يوم، وبعضها فصَّله القرآن الكريم نفسه بالنص، وربما كان هناك ما هو أشدُّ من هذا وخجل الرواة من روايته، ولكن هل تسبب كل هذا القهر بتغير خطاب الرسول الكريم؟! وهل شهدت المدينة المنورة عمليات غضب وطوفانات تظاهر وهجوم على مراكز المسيئين وإحراق بيوتهم؟!
في الواقع كان الرسول الكريم واضحاً تمام الوضوح في الردِّ على الإساءة بالإحسان، وفي دفع السيئة بالحسنة، فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم.
وفي صيغة أشدِّ وضوحاً نزل القرآن الكريم بتفصيل دقيق: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، [الأنعام: 68].
وفي آية أخرى أشد وضوحاً وصراحة، كأنها جواب لما يجري في السويد اليوم: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾، [النساء: 140].
لا مظاهرات ولا احتجاجات ولا تهديد ولا وعيد، فقط لا تجلسوا معهم! أعرضوا عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره!
كم كنا سنوفر على أنفسنا والأجيال الآتية لو أوتينا هذه الحكمة النبوية في التعامل مع الآخر المسيء! وكم كنا سنقدِّم صورة حضارية للإسلام المتسامح المتسامي الذي لا يرد السيئة بالسيئة وإنما يدفع بالتي هي أحسن.
لقد سمعهم ذات مرة يشتمونه بنابي القول وقبيح السباب، وقد شوهوا اسمه وصاروا يسمونه مذمَّماً، تعبيراً عن كونه المشتوم المذموم، وحين جاء صحابي يطفح بالغضب وهو يروي ما يصنعون نظر الرسول إليه بغاية البراءة وقال في ذكاء وحكمة: لماذا تغضب؟ مالك؟ إنهم يشتمون مذمَّماً، من هو مذمَّم؟ أنا لا أعرفه! أنا محمد… انظر كيف صرف الله سبابهم عني!
نحتاج بكل تأكيد إلى أعصاب من حديد حتى نواجه الاستفزاز بهذه الروح النقية؛ ولكنَّها في الواقع أخلاق النبوة وشمائلها.
قد يرد على ذلك أن الرسول الكريم قام بالفعل بإحراق مسجد الضرار وهدمه، وفي الواقع فإن هذا الأمر لا يتصل بمسألة الحرية الفكرية في شيء، فمسجد الضرار هو مركز اتخذه المنافقون للتآمر على الناس، وكان من واجب الرسول وهو رأس الدولة أن يتخذ إجراء لمواجهة هذا الكيد، ولم يتسبب هذا الهدم بأي ضحية، وإنما أدى إلى توقف وظيفة هذا المركز التآمري، وفي التبرير إياه قصة مقتل كعب بن الأشرف الذي كان يحشد السلاح لحرب المدينة ويتصل بقريش ويزين لها غزو المدينة.
ويبقى في الأدلة النصية قصة وردتنا في كتب السير الأولى وهي قصة أم مروان، امرأة كانت تهجو الرسول الكريم، فقام زوجها وهو رجل أعمى بوضع السيف في بطنها بالليل واتكأ عليه حتى ماتت، وعند الصباح أخبر النبي بما فعله بالليل، فأثنى الرسول على فعله!
لا أفهم كيف يسعني كمسلم أن أصدق هذه الرواية، وهي تسيء من عشرين وجهاً للرسول والرسالة؟! فتجعله في مقام الشامت بالنساء العابث بالقضاء والمستهتر بالدماء!
لا يمكن وصف هذا الحديث إلا بأنه شاذ، والشاذ في قواعد المحدثين هو الحديث القوي سنداً يخالف ما هو أقوى منه وأوثق، ولا شكَّ في أن الأقوى منه والأوثق هو قول الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾، [المائدة: 32].
كيف أذن الرسول بقتل امرأة بلا محاكمة؟ ولا استتابة؟ وكيف رضي أن يقوم فرد بتنفيذ عقوبة القتل دون تفويض من أحد؟ وكيف أذن لرجل أعمى أن يقوم بمهمة الشاهد والمحقق والقاضي والسيَّاف؟ وأين نجد في كتاب الله أنَّ من تكلم بسوء عن الرسول يقتل؟ لقد تحدث القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً عن الردة، وهي الكفر بعد الإسلام والطعن في الإسلام والرسول والقرآن وغير ذلك، ولكن لم تذكر آية واحدة من هذه الآيات الاثنتين وعشرين حكماً يتصل بقتل المرتد، فكيف يتم إذن قتل أم مروان وهي لم تبلغ شيئاً من هذا ولم يشهد عليها شهود ولم يستمع لها قاضٍ؟! ثم نقول إن رسول الله أقرَّ ذلك ورضيه؟ وببساطة نحمل الرسول الكريم وزر تهويش الناس بعضهم على بعض، وانتقام من أراد ممن أراد، ثم الدعوى بأنه كان يقول كلاماً سيئاً في الرسول؟ وبذلك فإنني لا أتردد في القول وفق قواعد المحدثين إن هذا الحديث شاذٌ ولا شكَّ في أن واحداً من الرواة أخطأ أو سها وهم بشر وليست لهم أي عصمة.
لم تتوقف هذه المظاهرات الغاضبة منذ أربعين عاماً، واتخذت صوراً ووجوهاً من الغضب الماحق، والانتقام الرهيب، ولا يدري أحد أين سيقع هذا البطش أو الانتقام، وأين سينفجر هذا الغضب الماحق، وفي العقود الأربعة التي بدأت من فتوى الخميني ضدَّ سلمان رشدي فإنه لم تفلح هذه المظاهرات الغاضبة في شيء، إلا في زيادة الكراهية وشقِّ صف المسلمين قبل غيرهم، وكذلك الخسائر التي أوقعتها الصدفة على من ساء حظه ووقع في طريق الغاضبين، ولكن لم تسهم على الإطلاق في رسم صورة الرحمة والتسامح التي تليق بالإسلام؛ بل عززت الصورة الغاضبة الفاتكة التي رسمها الباباوات في العصور الوسطى لتخويف أوروبا من الإسلام، وإظهاره ديناً دموياً لا يقبل الحوار ولا يأذن بالخلاف، ويعتمد الإكراه والإرغام لفرض رؤيته ومحق مخالفيه، ومن ثم حشد الجيوش الصليبية لمحاربة المسلمين.
إن رفضي للسلوك الهائج الغاضب في الردِّ على الإساءات لا يعني تبريرها؛ بل هي دعوة للنضال الحقوقي، للعمل على مطاردة المسيئين بالقوانين المتاحة، والعمل بمختلف الوسائل القانونية على معاقبة كل مسيء يتعرض للمقدس الديني، باعتباره منتهكاً لحقوق الإنسان، وفي سياق هذا النضال أسجل أعجابي بالجهود التي قام بها العزيز طرفة بغجاتي الناشط الإسلامي في النمسا لمحاسبة النائب الهولندي خيرت يلدرز، وكذلك جهود كثيرة أخرى من جهات متعددة صدر في سياقها قرار واضح للمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان ينص بصراحة أن الإساءة للأنبياء المقدسين لا تندرج في حرية الرأي؛ بل في الاعتداء على حريات الآخرين. يروى أن الجنرالات البريطانيين في أيامهم الأخيرة في الهند كانوا كلما أرادوا وقيعة بين المسلمين والهنود قتلوا بقرة وألقوها في مناطق الهندوس، أو أحرقوا مصحفاً وألقوه عند بعض المساجد، وعند ذلك تشتعل البلاد بالغضب الدموي الماحق، وتكون النتيجة اشتباكات دامية بين المسلمين والهندوس في مستنقع الكراهية والخصومة والفجور والقتل والقتل المضاد، وفي أثناء ذلك يتمكن المحتل من تنفيذ ما يريد في غفلة من الناس بعد أن صرفهم الاستفزاز إلى خيارات مجنونة بعيداً تماماً عن برنامج المحتل وخطته الجهنمية.