وأخيراً اندلعت الحرب طاحنةً مدمرةً كما كل الحروب، وخرقت العرف البليد للحرب الباردة المستقر منذ سبعين عاماً في المحيط الأوروبي؛ إذ بنيت الحياة على توازن الرعب وأن الطلقة الجديدة ستكون حرباً عالمية ماحقة، وستكون نووية وهيدروجينية وكيماوية وستطيح بالكوكب كله، وكان ذلك سبباً أساسياً في وقف الحرب سبعة عقود متواصلة في أوروبا مع استثناء واحد وهو جرائم الإبادة في يوغوسلافيا المتفككة وما تلاها من تدخل دولي.
لا أكتب في السياسة ولكن أكتب في الأخلاق ولا أعتقد أننا في أزمة محللين سياسيين فالفضائيات تعمل سبعة على أربع وعشرين عبر أكبر الخبراء لتحليل الواقع والآفل والآمل، ولا حاجة للمزيد.
وما يهمني هو هذا الشعب المقهور الذي عانى مظالم الحرب وشقاءها، ويئس من حلولها فبات ساخطاً على كل شيء، مرتاباً في كل شيء، يلعن كل شيء، وانتشرت انتشاراً مريعاً ثقافة الشماتة بالآخرين والسخرية بمآسيهم وأحزانهم، وهو واقع مؤلم عبَّر عنه الفيلسوف ابن خلدون في فصل خاص تحت عنوان: «فصل في أن الأمم المغلوبة تسوء أخلاقها»؛ إذ يبدو التعبير بالسخط والشماتة تنفيساً عن الداخل المحتقن الموتور، وعلي وعلى أعدائي، وما ظلمناهم ولكن أنفسهم يظلمون، وذلك بما كسبت أيديهم، فذوقوا ما كنتم توعدون، اللهم أهلك الظالمين بالظالمين ونجنا منهم سالمين، دع الكفار يقتتلون ويفنيهم الله فنعود شعباً عظيماً، ولا شك في أن القارئ الكريم يستحضر مما قرأ وشاهد في الأيام الأخيرة أسوأ من هذا الأمثلة وأشدَّ منها لؤماً وحقداً ومرضاً.
وفي سياق ذلك ظهرت حملة تنمر فظيعة في وسائل التواصل الاجتماعي، وكالعادة فقد أظهر المحللون الأذكياء أن الحكومة الأوكرانية فيها عدد من اليهود، وهذا سبب كافٍ ليقوم بعضهم بتصنيف البلاد التي تزيد على خمسة وأربعين مليوناً في أرض تزيد على مساحة العراق وسوريا ولبنان وفلسطين باعتبارها جميعاً مجرد كنيس يهودي صهيوني يسكنه الماكرون، يستحق الإعدام والإبادة، وانتشرت كانتشار النار في الهشيم فتاوى متتالية منسوبة للشيخ ابن باز وابن عثيمين أنه لا يجوز التعاطف مع الكفار، وما نزل بهم من مصيبة فهو نعمة يجب شكر الله عليها وليس مصيبة ندعو الله برفعها!
دروس مفصلة في قلة الأخلاق وسوء التربية، وانعدام الحس الإنساني، ويضم إلى ذلك كله تشويه متعمد لقيم الدين الذي يفترض أنه رحمة للعالمين، رغم أن القرآن الكريم افتتح كل سوره باسمين اثنين من أسمائه الحسنى، وهما الرحيم الذي يرحم من يؤمن به، والرحمن الذي يرحم من لا يؤمن به، وبذلك وسعت رحمته كل شيء!
لقد أظهروا أسوأ ما يكون في الإنسان من ضغينة وبغضاء، ولا هم أطاعوا الله ولا أطاعوا الشاعر: عندما تقف على مآسي الآخرين وانكسارهم إيَّاك أن تبتسم، تأدَّب في حضرة الجرح، كن إنساناً أو مت وأنت تحاول! (ليو تولستوي).
إنها مسؤولية أخلاقية ودينية وتربوية لكل من سلمه الله منصة وقلماً في هذه الأيام العصيبة، فهو مأمور أن يكتب الإيجابية والخير، حتى في هذه الأيام الرديئة، فليست قوة القلم أن يكتب في النهايات واصفاً شامتاً؛ بل إن قوة القلم أن يكتب في غبار المعركة ولهيبها وليس بعد انطفائها وخمولها، وأن يكتب عن الحب في زمن الحرب، وعن الخير في عصر الشر، وعن النور في عتمة الظلام.
وكتب إليَّ كثيرون: ما لنا ولعذاباتهم؟ وهل شعروا بنا حين كانت تسقط علينا البراميل؟ دع الموتى يدفنون موتاهم، وما لنا وللقوم الكافرين، وغير ذلك من الخطاب السلبي البائس.
وجوابي نحن نكتب لثلاثة أشياء:
أولاً: نكتب لنرضي ضميرنا وربنا، فالشهادة بالحق مسؤولية وأمانة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾، [البقرة 283].
ثانياً: إن كل حرف يكتب في أي مكان هو جزء من صناعة الرأي العام، والرأي العام ليس إلا تراكم ما يكتبه القلم، وتنشره الحوارات والشعارات ووسائل الإعلام، وحين يصمت أهل الحق يرقص أهل الباطل، وإن غاية ما يريده المستبد هو صمتك عن جرائمه، ومن صمت عن حرب فقد بررها، والحياد في المواقف الأخلاقية خيانة.
ثالثاً: إن مأساة الإنسانية لا تتجزأ، وكلنا في سفينة واحدة، والإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا شك في أن هذه المآسي قادرة على أن توقظ فينا الإنسانية النائمة لنشعر أننا في هذا الكوكب مشتركون في أقدارنا ومصائرنا، ولن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه الإنسان ما يحبه لنفسه.
ومن المؤلم أن يكتب السوري التائه ناقماً على البشرية جمعاء في خيانتها لمآسينا، مع أن هذه الشعوب عانت من مآسيها كما نعاني مآسينا، وأنها أيضاً في طاحونة قمار السياسة ليست إلا ملعوباً به، منصوب وقع عليه فعل الفاعل، ونتناسى عن عمد أن هذه الشعوب الحية هي من قامت بكفاح الليل والنهار لفرض قوانين إنسانية لحماية اللاجئين تقتطع من جيوبهم وأموالهم وراحتهم ومرافقهم قسطاً ليس بالقليل لتأمين حياة اللاجئين واندماجهم وكرامتهم، وهو واقع حقيقي رفع الظلم والقهر عن ملايين اللاجئين وشقَّ لهم درباً نحو حياة كريمة بعيداً عن عالم القهر والذل الذي فرضته أنظمة الاستبداد الطاغية.
إنها بالفعل حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ولكن من العار أن نتحول إلى جمهور أهبل يصفق في مصارعة الثيران، وتنطمس فينا روح الإنسان.
كإنسان… لا فرق بين دموع العجوز الأوكراني ودموع العجائز في غوطة دمشق، ولا فرق بين مأساة المحجبة في الخيام ومأساة الأوكرانية الشقراء في خنادق الذعر، والمحترق بجحيم الحرب هو أخي سواء في إدلب أو في كييف…
كما تختبرون توحشهم وجنونهم… اختبروا إنسانيتكم!