الديمقراطية..
قراءة من معبد الإيمان
ما البرلمانات وما الديمقراطية؟ إنها في الجوهر الحفر في الإنسان والبحث بدقة عن رغائبه ومطالبه بعيداً عن كل تأثير ديماغوجي، إنها البحث في حاجاته الحقيقية التي يطالب بها الإنسان السوي، إنها البحث عن الإنسان في الأفق الأعلى الذي ينبغي أن يسعى إليه في عالم من التدافع والتنافس، تصطدم فيه الارادات والمصالح.
لا نعبد الديمقراطية، ولا نزعم أنها وحي معصوم، ولا نشك انه تعرض لها تأثيرات وتشويهات وتضليل، ولكن ذلك ينحسر يوماً بعد يوم بأدوات الديمقراطية نفسها التي كان الرسول الكريم يذكر بها بين الحين والآخر، الزم سواد الناس الأعظم، لاتجتمع أمتي على ضلالة، ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، أنتم أعلم بأمور دنياكم.
وتأسيساً على ثبوت الفطرة في كل مولود، وشمولها كل نفس نفخ فيها الرحمن بروحه، فقد بات من المنطقي تماماً أن نتساءل: لم لا تكون الفطرة هي هذه القيم العالمية التي يتوافق عليها حكماء العالم ومشرعوه؟؟
لماذا لا تكون قيم العالم الحر في المساواة والحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل وحماية اللاجئين وغوثهم وتشغيلهم وتحريم الاسترقاق والتجارة بالبشر وحماية البيئة هي الفطرة التي فطر الناس عليها؟
تبدو فكرة الفطرة في الإسلام كما في سائر الأديان فكرة ضرورية لبيان قدرة الخالق، وعظمته في أنه خلق البشر على قدر كبير من التشابه في الطبائع والغرائز، ولكنها للأسف تقتصر عند حدود هذا الجانب الايديولوجي، الذي يستخدمه علماء العقائد، وقل أن تصل إلى ذلك الأفق الذي يقصده علماء الاجتماع.
من المسلم به فقهياً واعتقادياً أن الخالق واحد وأن هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها متشابهة، نظراً لوحدة الصانع، بل إننا نملك في الوعي القرآني أن نقول إنها متطابقة وليست فقط متشابهة لأن الخالق هنا كلي القدرة مطلق العصمة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفي الاطار الايديولوجي فإن الحديث عن آيات الله في الخلق هي الغالبة ومن هنا تناول الفقهاء والمفسرون بتفصيل كبير وحدة الخالق عبر النظر في طباع المخلوق وفطرته وغرائزه، إنساناً وحيواناً، وأصبحت مظاهر التشابه بين الكائنات الحية واحدة من أدق مظاهر التعريف بالله سبحانه والتأكيد على وجود الخالق.
ولكن الأفق الاجتماعي في هذه العقيدة من وجهة نظري هو البعد الأهم حيث تبدو الفطرة هنا حجر الرحى وهي تحدد المشترك الإنساني وآفاق التعاون والتكامل بين سكان هذا الكوكب من بني آدم على اختلاف طبائعهم وشعوبهم وقبائلهم وأديانهم.
وتستند فكرة الفطرة التي فطر الخالق عليها الناس إلى مبدأ أشد تأثيراً وفاعلية وهو النفخ من روح الله، فالكائن البشري وفق القيم الإسلامية الواردة أيضاً في التوراة والإنجيل، هي أن هذا الإنسان فيه أيضاً نفحة أو نفخة من روح الله، وهذه النفحة هي التي تحقق التشابه بين الإنسان وأخيه الإنسان، حتى يكون مظهرا لروح الله تعالى ووجوده.
إننا نتعامل إيمانياً مع الإنسان بوصفه ذاتاً انبثقت عن الله وصدرت عنه، كصدور الكلام من المتكلم والنفس من المتنفس، ولا شك ان هذا الوعي يمنح الإنسان قدسية ومنزلة أرادها الشرع بإصرار، ولن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق.
ومن المؤكد أن هذه العقيدة قد تطورت صوفياً إلى حد القول بوحدة الشهود ووحدة الوجود، ويجب القول أن وحدة الوجود التي عبر عنها ابن عربي والصوفية من بعده ليست على الاطلاق شطحة عابرة قالها في المحو بل هي جوهر رسالته وجوهر دعوته الإنسانية، وقد كررها في الفتوحات أكثر من مئة مرة كما كررها جلال الدين في المثنوي عشرات المرات وهو يتحدث عن روح الله وتجليه وأسراره التي أودعها الله في الإنسان.
إن الاتفاق بين فقهاء الشريعة قائم على أن الفطرة الإلهية والروح الإلهي المبثوث في الإنسان هو قدر سابغ على جميع الخلق وليس اختصاصاً يخص ديناً دون دين أو شريعة دون شريعة، فتكريم ابن آدم سابق على الأديان والمذاهب والعقائد، ولا شك ان المقصود بقوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم هو الإنسان الأول قبل أن يتم توزيع الناس الى شعوب وقبائل وملل ونحل، ولم يقل أحد من الفقهاء المعتبرين أن الفطرة خاصة بالمسلمين أو انها تكريم خاص بأمة محمد بل ظل الفقهاء يقولون بعموم الفطرة وعموم النفخة في سائر الخلق، وهو العموم الذي جاء به الحديث الشريف: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه…. والمعنى واضح تمام هو أن الفطرة قدر متساو بين البشر ولكن التأثيرات الاجتماعية قد تشوش من صفاء هذه الفطرة وتفرض الايديولوجيات تشويشاً وتشويها للفطرة الأولى.
ولا يختلف الموقف الفقهي في أن المسلمين كسائر الأمم يعرض لهم ما يشوش فطرتهم ويحيل صفاءها إلى كدر وصوابها إلى وهم ونقاءها إلى مطامع، ولكن جوهر الفكرة وجوهر الروح الإلهي باق في ابن آدم، وهو الغالب على سلوكه وطبعه فيما لم تقم الشياطين باغتياله وفق التعبير النبوي الحكيم.
ولكن أين يمكن التماس هذه الفطرة الأصيلة أو ما تبقى منها في سلوك بي آدم؟
يؤسس هذا التساؤل لمبدأ علمي تحكمه قوانين الرياضيات في البحث عن المشتركات الإنسانية التي هي لون من مظاهر الفطرة التي فطر الناس عليها وهي الصورة الحقيقية لما أودع الله في جوف ابن آدم من أسرار وعجائب.
إن توحد الأسرة البشرية في التأكيد على العدالة والأمانة والنظام والوفاء بالعهود وتحريم القتل والسرقة والربا الفاحش وتجارة الفحشاء والادمان على الكحول والمخدرات والقمار وتحريم الاستبداد والاسترقاق والتعذيب الجسدي والانتقال في العقاب من العقوبات الانتقامية الثأرية الجسدية إلى العقوبات الإصلاحية المتحضرة هو لون من مظاهر الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ويحلو لألئك الذين لا يؤمنون بالأسرة الإنسانية الواحدة أن يتحدثوا بإسهاب عن الخلافات العميقة بين القيم في العالم وأن البشرية في سيرورتها لا تنتج شرائع متطابقة.
ولا بد للجواب على هذا الإشكال من إثارة نقطتين:
الأولى: إن أحداً لا ينبغي أن يفكر في إنتاج الشرائع المتطابقة، فهذا حلم غير واقعي وغير مطلوب إن المطلوب هو الاتفاق على أصول عامة في المبادئ يكون الإنسان فها هو محور التشريع وغايته، وهو ما أصبح يعرف حقوقياً بالمواد فوق الدستورية، ولا بأس أن يكون لكل أمة شرع ومنهاج، ولا يضير هذا الحقيقة في شيء، وهو حكم قرره القرآن بصريح العبارة: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.
الثانية: إن نفي التطابق لا يعني أن المقاصد العليا للسعي البشري متناقضة، بل نحن من يصورها كذلك، وحين أطوف اليوم بين الحقائق التي أقرتها الإنسانية في مبادئها العامة عبر شرعة حقوق الإنسان واتفاقية سيداو لحماية المرأة واتفاقية حقوق الطفل واتفاقيات منع التعذيب واتفاقيات حماية البيئة، يدهشني حجم الاتفاق العالمي على مستوى الخبراء والعلماء وقد نجحوا في تحويل كثير من هذه الأفكار العظيمة إلى تشريعات ملزمة تنعم بها الشعوب وتتجه نحو عالم محترم تسود فيه القيم العادلة ويستوي فيه الإنسان مع أخيه الإنسان.
ويتهمني بعضهم بأنني مبهور بالحضارة الغربية، وجوابي بالطبع هو الإيجاب، بل إنني أتغزل بهذا النجاح البشري في حقل العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وكم وددت لو مضى الخطاب الديني العربي للتغزل بهذه المنجزات الحقيقية للأسرة البشرية وقام بدعوة الناس للدخول في هذا الخير الإنساني بدلاً من الكفاح المضني لتجميل تاريخ ليس بجميل، وتلميع ماض قاس لا يحترم قيم العدالة والمساواة، والتغني بأمجاد في تاريخنا تشبه سائر ما في تراث الامم قامت على ركام من الجماجم والدم.