Uncategorized

زنوبيا…. الحضارة السورية في مواجهة داعش

كل ما أرجوه أن يقرأ القراء في بناة المستقبل هذه الكلمات وقد صرف الله الأذى عن تدمر عروس الصحراء التي تواجه هذه الساعات أشد أقدار تاريخها قتامة وبؤسا.
الصحراء تغلي بالجراد الداعشي الفاتك، باقية وتتمدد، وتهدم الإنسان والحجر، القباب والقبور والتماثيل والنصب وذكريات الزمن الجميل كله، فيما النظام يضرب قنابله وعنابره في حلب والشام وحماه وإدلب وفي كل مكان فيه سوريون يرفضون الظلم، أو بتعبير النظام سوريون يحتضنون (الإرهاب) وهؤلاء على حد تعبير الرئيس عدة ملايين، ووفق تعبير الفضائية السورية في شريط الأخبار المستمر منذ خمس سنوات فإنه ما من قرية سورية ولا بلدة صغيرة أو كبيرة إلا نالت نصيبها من هذا الوعيد.
زنوبيا ليست محض اسم في تاريخ سوريا، إنها تاريخه ومجده، إنها اللوحة الدائمة على النقد السوري منذ أن تم صك الليرة السورية، إنها مسرح السوري وأمنياته وذكرياته وصحراؤه ومجده وانكساره وأمانيه.
إنها المرأة السورية الجبارة التي تحدت أورليان الامبراطور ليس بخطب رنانة ولهجة حاسمة، وإنما بجيوش سورية جرارة جمعت لها ما بين تدمر وأنطاكيا وعريش مصر، وأعلنت قيام الإنسان السوري، وأعلنت نهاية العصر الأوروبي في بلاد العرب، ومهدت (من وجهة نظري) تمهيداً كبيراُ لوصول الفتح العربي الإسلامي إلى بلاد الشام.
لم يذكر الرسول الكريم دور زينب الإنقاذي في بلاد الشام، ولم يرد في حديث صحيح أن الرسول الكريم ربط فتح الشام بكفاح زنوبيا، ولكن ما أملك أن أقرره بوضوح أن الرسول الكريم كان معحباً للغاية باسم زينب، وهو بالمناسبة الاسم الحقيقي لزنوبيا وهي زينب بنت عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع العماليقي الأنباطي، وآثارها في تدمر تطابق فنياً آثار العرب الأنباط في البتراء، ولو أن الأنباط بنوا في الصحراء لبنوا تدمر، ولو أن زنوبيا بنت في الجبال لبنت البتراء.
وقد سمى الرسول الكريم ابنته زينب كما نصح علياً أن يسمي ابنته زينب، وحين تزوج من برة بنت جحش سماها زينب، وكثرت الزيانب على عهد رسول الله، ولا أشك أن هذا التقدير لاسم زينب موصول بالمرأة المعجزة زينب وهي المعروفة بين الرواة باسم الزباء أو زنوبيا.
تتوجه المئات من الكتائب الداعشية لمحاربة الصحراء، لا أدري من يقصفهم أو يقتلهم في هذه الواحة التاريخية الوقورة، مسكونين بأمراض العقل المأروم، تتبادل أحلامهم وأوهامهم رغبات الفتك بالأصنام، وفق ثقافة مسمومة تقنعهم بأنهم يمارسون ما مارسه إبراهيم من قبل حيث قال تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون.
يتبادلون الصواعق والمخارق والفؤوس ويسأل بعضهم بعضاً أيها أكثر فتكاً بالأوثان؟ لقد قاموا بمثل ذلك من قبل في الموصل والرقة ونمرود والخضر، ولا تزال لديهم الآمال نفسها في الفتك بما تبقى من أثر وإنسان، وغاية ما يرجون أن يطلقوا شريطاً جديداً في تشويه الإسلام بإمكانيات هوليودية في قلب الصحراء، ليقولوا للعالم هكذا يفتك الإسلام بالحضارات.
لم يشأ فقهاؤهم ووعاظهم أن يقرؤوا شيئاً من تاريخ النبي الكريم سليمان، وهو تاريخ مدون في القرآن الكريم بتفاصيله، حين كانوا يصنعون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدرو راسيات، لقد كانوا أنبياء وأصحاب مسارح ومتاحف، وقد اعتبر القرآن الكريم نفسه صناعة هذه التماثيل والفنون نعمة من الله تستوجب الشكر: اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور.
إنها ثقافة مسمومة بكل تأكيد، ترفض خطاب التسامح والتعاون الإيجابي في الإسلام وتتمركز في لحظة الحرب من التاريخ الإسلامي، وهي تقتصر على صانعي الإيديولوجيا الداعشية، المسكونين بأمراض الظلام، ورعاب الحضارة، والرافضين لكل ما في القرآن الكريم من خطاب الرحمة والنور.
ولكن هذه الثقافة المسمومة ليست في الواقع من أوقد جذوة هذا الجنون ليحطم بفأسه وجه الحضارات، فقد كانت هذه الثقافة كامنة في فرق التمرد الإسلامي خلال التاريخ منذ عصر الخوارج، يتبالودنها ويتواصون بها ولكنهم لا يحدون فرصة تطبيقها على الواقع عبر بيئة حاضنة إلا عندما تشتد القهر ويعم الظلم في العباد.
حين تتحرك الطائرات السورية الوطنية الممولة من جيوب الناس وأموالهم ورواتبهم لتقصفهم في بيوتهم بالسلاح الأعمى، وتحيل حياتهم وأحلامهم وآمالهم إلى ركام، وحين يقف السوري أمام ركام منزله المدمر وينتشل أطفاله من تحت الحطام فإنه لن يبحث عن فريق سياسي معارض له مشروع وطني ديمقراطي سلمي مدني نخبوي… بل سيبحث بشراسة وجنون عن أشد فصائل الموت رعباً وهولاً ليحقق بها الثار والانتقام.
قبل أيام شاهد السوريون مظاهرة صاخبة في حلب تضم مئات الشباب الحلبيين يهتفون لدولة الخلافة ويرفعون الأعلام السود، وهي مظاهرة من عشرات المظاهرات التي صارت تخرج كل يوم في المدن المنكوبة تعبيراً عن الغضب من عقم حلول السياسة والسلم.
ليس في هؤلاء الشباب الغاضبين شيشاني ولا تونسي ولا أفغاني، إنهم أبناء الصاخور وسيف الدولة وهنانو، ولا يبدو أن أياً منهم قد تخرج من مدرسة شرعية، إنهم يلبسون بنطال الجينز وسترة الأديداس، وفي جيوبهم باكيتات مارلبورو والحمراء، كما لو كانوا عائدين من مباراة الاتحاد والكرامة، ومع ذلك فليس في هتافهم حرية وسلمية وديمقراطية… وليس في أيديهم علم أحمر ولا أخضر، بل هو العلم الأسود وراية الخليفة البغدادي، خلافة إسلامية باقية وتتمدد… حتى نقيم فيهم شرع الله.!!
الجيش الداعشي على أبواب تدمر، ويسيل لعابه لحجم الأصنام التي يمكنه تدميرها، وسيكون أكثر ولعاً بمواجهة من يدافع عن هذه الأصنام من الكافرين الذين تكون دماؤهم فطيرة الدخول إلى الجنة ومعانقة الحور العين، وتمارس قيادته الدراكولية هواية تحطيم الحضارات، وتحطيم من يدافع عنها، بوصفه حامي الأصنام.
ومع أنني أحمل المسؤولية كاملة للنظام البائس الذي بدد جيش الأمة في حروبه مع أهله، ودمر البلاد والعباد، ولكن الأمانة العلمية تدفعني أن أشير بمرارة إلى الدور الذي مارسناه نحن أيضاً في خطابنا الديني المأزوم، حين مارسنا هذا اللون من التجييش على منابرنا عشرات السنين، وصرخ خطباء كثير أن الإسلام حطم حضارة الفرس وحضارة الروم، وأن الصحابة الكرام كسروا بفؤوسهم رموز الأمم الأولى من رومان وفرس بعد أن حطموا من قبل أصنام الجزيرة العربية، دفاعاً عن عقيدة التوحيد!
ولم نكن في وعينا لندرك بان تحطيم الحضارات ليس مجداً وأن مجد الإسلام في انه يعمر ولا يدمر، وينظم ولا يحطم، وأن هدم أصنام الوثنية الجاهلية التي لا تحمل أي قيمة فنية أو علمية في ذلك التاريخ لا يشبه في شيء هدم التراث الإنساني العالمي، وأن المسلمين كانوا أمناء على كثير من المدن الحضارية التي واكبت نهوضهم، وأن الأثر التاريخي في البلدان الإسلامية ظل غنياً ومتوفراً في ظل كل الحكومات التي مرت بالعالم الإسلامي من أمويين وعباسيين وأيوبيين وعثمانيين، كما تدل لذلك المتاحف الغنية التي لا تزال قائمة في البلاد التي لم يصلها خوارج الماضي أو دواعش الحاضر.
ومع ذلك فإن كثيراً من الشباب الذي يحارب في صفوف داعش ليس معنياً بهذه الأيديولوجيا، إنه معني فقط بالثار ممن حطم داره وقتل أهله واعتقل إخوته، مسكون بالقهر والانتقام، بعد أن دمر النظام مدرسته وترك أكفاله بدون دراسة ولا طعام ولا حليب، ويكفي أن تكون صورته أمام صورة زنوبيا حتى يعتبر هذا الثائر الانفعالي أن زنوبيا هي أيضاً شبيح متآمر تستحق لعنة الله والتاريخ.
لا يمكن تبرير الإرهاب تحت أي عنوان، وما يرتكبه الداعشيون جريمة كاملة بكل المقاييس، سواء فعلوا ذلك بخلفية إيديولوجية أو بخلفية انتقامية، إننا لا نبرر الجنون والإرهاب، ولكننا نفسره، ونضع المسؤولية الكاملة عند النظام الذي أضاع البوصلة تماماً وكرس لقيام هذا اللون من الانتقام المظلم.

Related posts

دماءٌ على العناقيد

drmohammad

د. محمد حبش-جيش السفياني… هرمجدون دمشق

drmohammad

اغتيال الحضارات.. الصراع بين الفقه والنص. الدكتور محمد حبش 2016

drmohammad

Leave a Comment