هل يصبح عام 1444 هجرية في الإسلام عام التحول العظيم؟
مع أن العواصم الأساسية للإسلام ظهرت في مدائن كثيرة بدءاً من المدينة، فدمشق، فبغداد، فالقاهرة، فالقيروان، ومراكش، وقرطبة، وغرناطة، وإستانبول، ودهلي، وكراتشي، وجاكرتا.
ولكن الحواضر الأساسية التي تمثل المسلمين اليوم هي مصر ومكة، فقد تصدرت القاهرة المشهد منذ قيام الخلافة الفاطمية وبناء الأزهر إلى انتصار مصر على المغول والصليبيين وامتداد الدولة المصرية تاريخياً إلى بلاد الشام والحجاز وحوض النيل مما جعلها في فترات كثيرة أكبر بلد إسلامي في العالم، وظلَّ الأزهر من أبرز المرجعيات المعتبرة في المجتمعات الإسلامية.
أما مكة المكرمة فهي مهبط الرسالة وبلد الوحي وأرض الحج الأعظم، وهي منبع الإسلام بكل تأكيد، ومع ذلك فلم يكن لها في التاريخ دور قيادي حقيقي على مستوى الشعوب الإسلامية، وظلت في التاريخ إيالة تابعة للدولة القوية، الأموية والعباسية والفاطمية والأيوبية والعثمانية حتى ظهر السعوديون ونجحوا في توحيد الجزيرة وامتلكوا القدرة المادية الهائلة لممارسة الدعوة الإسلامية، وتم تأسيس رابطة العالم الإسلامي في مكة بثقلها الروحي والتاريخي، وباتت لا تقل شأواً وتأثيراً عن الأزهر الشريف.
ولا نبالغ في القول بأن الرابطة والأزهر هما أكبر مرجعية رمزية للمسلمين منذ ستين عاماً على الأقل، ولا يوجد فعل إسلامي مؤثر في العالم إلا ويستند إلى إحدى المرجعيتين.
ولكن التسليم بهذه الحقيقة لا يعني أن هذه المرجعية قد أدت دوراً إيجابياً حكيماً في أثناء العقود الستة الماضية، ومع أن الأزهر اتصف عموماً بالاعتدال، وظهر فيه مجددون كبار، ولكنه مارس دوراً شعبوياً لا يليق به كمرجعية عليا، واشتبك في مرات كثيرة بالطموح الشعبي في الحريات، واصطف إلى جانب السلطة الغاشمة، كما رفض كثير من فقهاء الأزهر التطور الفكري والاجتهادي الذي قام به المتنورون، واستخدم الأزهر فتاويه في قمع الفكر الحر، ومنع الاجتهاد، ومواجهة حركة الإصلاح الديني؛ بل إنه أيضاً جرى في ركاب التوجه السلفي، وصدرت عنه فتاوى ضدَّ الطوائف الإسلامية كالشيعية والعلوية والدروز، وأصرَّ على بقاء منظومة تعليمية عتيقة لا تلتزم حقوق الإنسان ولا إخاء الأديان.
أما الرابطة فإنها تبنت في قيامها خطاً سلفياً متشدداً، وصارت وكيلاً رسمياً للمذهب الوهابي، وفق قاعدة: من ينفق يرسم السياسات، وباتت مراكز الرابطة في العالم تخوض حروباً ضارية مع المختلف عن عقيدة التوحيد من الأشاعرة والمعتزلة والشيعة والعلمانية والصوفية، ومارست بذلك دوراً اصطفافياً لا يليق على الإطلاق بدورها المرجعي بوصفها صوت مكة في العالم.
ولكن الأمر بدأ يتغير في الواقع تغيراً متسارعاً منذ مطلع القرن الحالي بعد أن تفاقم الإرهاب، وضرب في قلب العالم الغربي وقسم العالم إلى فسطاطين، وأعلن في الجانبين عن الحرب الصليبية المقدسة والجهاد الإسلامي المقدس، تبناها على التوازي: الصهيونية واليمين المتطرف في الغرب والقاعدة والسلفية الجهادية في الشرق واندلعت بالفعل حروب حقيقية في أفغانستان والعراق والبلقان وفلسطين، وعاد العالم إلى فوهة الحروب الدينية الماحقة التي لا تُبقِي ولا تذر!
وبات الأزهر والرابطة مطالبين بالاصطفاف في مشهد الصراع العالمي الذي يستخدم كل الأدوات لإشعال الحرب تلو الحرب، وكان لابُدَّ من الاعتراف بأن عقيدة تكفير الأمم القائمة على مصفوفة الولاء والبراء مسؤولة عن تعاظم الإرهاب والتوتر بين المسلم والعالم، وأن الإرهاب تنامى تنامياً فظيعاً في ظلِّ خطاب الكراهية العدواني في البيئات المتعصبة المغلقة، وهي العقيدة التي يختصرها الشيخ صالح الفوزان مساعد المفتي الرسمي الشيخ بن باز بصوته بكلمتين: من قال إخواننا النصارى (أو أي دين آخر بالطبع) فهو مرتد، يعني كافر (يستتاب وإلا قتل)!
أعتقد أن الاعتراف ببؤس التعليم التقليدي والخطاب الدعوي المعادي للعالم كان لحظة الانطلاق التي بدأت في أعقاب هذه التحولات الكبرى، وأعلن الملك عبد الله أن المملكة ليست جسماً وهَّابياً وأنها تؤمن بالإسلام رسالة إنسانية تؤمن بالتعايش والتكامل مع الأمم والديانات الأخرى، وتلا ذلك الإعلان عن مركز الملك عبد الله لحوار الديانات والثقافات، وهو أحد المبادرات التي رسمت التوجه الجديد للسعودية وهو توجه يناقض تماماً خطاب الهيئة السلفية الراسخة في السعودية القائمة على الولاء والبراء.
وفي مصر شنَّ الأزهر حملة تطهير مدروسة على الفقه العدواني، وتم الاعتراف بحركة الإصلاح الديني المتصالحة مع العالم، وأطلق اسم الشيخ محمد عبده على أكبر قاعة في الأزهر رغم موقفه الحاد من البرامج الأزهرية، وتشكلت لجان خاصة لكتابة المناهج الأزهرية بحيث تخلو من صيغ العداء للأمم، وتعزز ثقافة التسامح، ولا يمكن القول بالطبع بأن ذلك قد تم على نحو شامل؛ إذ إن الأمر بالعمل العنيف لا زال بنسب مختلفة موجوداً في كتب التعليم؛ بل لنعترف أنه موجود في القرآن والسنة، ولكن لا ينبغي أن يطرح أحد على الإطلاق التخلي عن الكتاب أو السنة؛ بل طرح تفاسير جديدة تخرجنا من سياق التأويل العنيف، وتأذن ببناء تفاهم حقيقي مع شعوب الأرض.
بعد عشرين عاماً من التحولات الكبرى فإنه يمكن القول إن المؤسستين الأكبر في العالم الإسلامي باتتا في موقف منحاز تماماً إلى خطاب إخاء الأديان والتعاون البناء مع شعوب الأرض، ويمكن رصد ذلك بوساطة وثيقتين بالغتي الأهمية وكلتاهما صدرتا عام 2019.
الأولى: وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، وهي واضحة في الاعتراف بمساحة مشتركة بين الأديان، والتوقف عن الخطاب التكفيري، وكذلك الخطاب التبشيري القائم على تهشيم الديانة الأخرى، ونصَّ بصراحة على احترام كل الأديان من أفق إنساني، وهو بكل تأكيد موقف يختلف عن تعليم الأزهر التقليدي القائم على بطلان الأديان وتحديد الإيمان بعقيدة أهل السنة والجماعة ورفض كل عقيدة أخرى.
الثانية: وثيقة مكة، وقد تم توقيعها في مكة المكرمة بحضور 1200 فقيه سلفي بإشراف رابطة العالم الإسلامي وهي تنصُّ بوضوح على أن اختلاف الأديان والثقافات لم يعد موجباً للحرب والعداوة؛ بل هو مظهر لإرادة الله، وأن القيمة العليا التي يطرحها الإسلام هي التعارف واللقاء والمحبة وليس الولاء والبراء والبغضاء للكافرين.
وأنا أدعو القرَّاء لقراءة عميقة للوثيقتين، ولا شكَّ في أن دراسة الوثيقتين بدقة تكشف أكثر من عشر تحولات جذرية في علاقة المسلمين بالعالم تتناقض جذرياً مع التلقين التقليدي للمعارف الفقهية في المؤسستين الكبيرتين.
ولا يجوز الإفراط في التفاؤل، فصدور الوثيقتين لا يعني أبداً أن التيار السلفي برمته أو الأزهري كذلك قد تحول إلى إخاء الأديان، واقتنع بحقوق الإنسان والديانات وتساوي الأمم، وتخلى عن عقيدة البراء من البشرية حتى تدخل في الإسلام، أو أنه ترك الوعيد بالنار لكل مخالف، فالجدل ما زال على أشده في الهيئات السلفية والأزهرية، ولكن على الأقل فإن الخطاب الرسمي العلني قد تغير إيجابياً في أكبر هيئتين إسلاميتين في العالم، وهو يوحي بمزيد من التفاعل نحو قيم التعارف والإخاء التي دعت إليها النصوص العامة في القرآن الكريم.
وفي خطاب يوم عرفة الأخير وهو أهم مشهد في الإسلام يرتبط بالحج الأعظم ويراقبه على الهواء مئات الملايين اختارت السعودية موقفاً مهماً حين عهدت بخطبة يوم عرفة للشيخ الإصلاحي محمد العيسى المعروف بمشاركاته المستمرة في برامج إخاء الأديان وزياراته المتكررة للكنائس المسيحية والكنس اليهودية والمعابد الهندوسية والبوذية، وهو سلوك تحكم فيه هيئة العلماء التقليدية بالكفر والردة!
ولكن الأمر الأشد أهمية في السعودية هو أن هذا الخطاب التصالحي مع العالم، والمؤمن بإخاء الإنسان للإنسان، والرافض لقسمة العالم إلى فسطاطين مسلمين وكافرين، بات هو التوجه الرسمي للرابطة التي تقود 1200 فقيه سلفي حول العالم يملكون مساجد ومراكز ومعاهد مؤثرة وفعالة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
يتم تفسير هذه التحولات عادة بأنها إرادة أمريكا وإملاءات بريطانيا، ومؤامرات الاستعمار والصهيونية وخطط الماسونية، أما هذا التفسير الطبيعي للتاريخ الذي يقرؤه كل عاقل فيصفه الشعبويون عادة بالغباء والسذاجة وعدم الإدراك العميق لبروتوكولات حكماء صهيون!
قناعتي أن الماسونية والاستعمار والصهيونية لو كانوا يملكون قراراً لاختاروا بقاء الخطاب العدواني الذي يقطع الجسور ويهدم المشترك ويدفع بالأمة إلى الفشل والخيبات، وسيناضلون بشراسة لمنع تحول الأمة إلى خطاب الانفتاح والصداقة والإخاء الذي من شأنه أن ينهي دور الماسونية الموهومة إلى الأبد.