مقالات

الاستبداد والكهنوت… تحالف أم تخادم؟

في خطاب الأسد الأخير:

في تحوُّل جديد ألغى النظام السوري حفل الإفطار التقليدي الذي كان يقيمه الرؤساء السوريون لمشايخ الدين الإسلامي في رمضان منذ سبعين عاماً؛ إذ اكتفى الرئيس هذه المرة بجمع عددٍ محدودٍ من مشايخ الشام، وألقى محاضرةً لافتةً في أصول الفقه الإسلامي وشروط الاستنباط من الكتاب والسنة.

والجانب اللافت في الخطاب هو التحول السلفي الصارخ في الخطاب الرسمي والإصرار على مواجهة الخطاب التنويري والتجديد ومحاكمته بشتَّى الوسائل.

بالطبع لم تتضمن الكلمة أو على الأقل البيان الرسمي المنشور عنها أدنى إشارة إلى المأساة السورية الدامية التي عانى منها الضحايا الذين تجاوزوا مليون سوري بين شهيد ومعوَّق ومفقود، ولا عشرة ملايين لاجئ مشرد في الأرض، ولا مئات المدن والقرى المدمرة بالكامل، ولا غياب الحياة وإفلاس الدولة والمجتمع الذي يعاني منه المعذبون في الداخل الذين يعيشون جحيماً لا يطاق.

ولم تتضمن الكلمة أدنى إشارة إلى وقوف سوريا المخزي إلى جانب الاحتلال الروسي في أوكرانيا، ما يعني الكفر بكلِّ مبادئ مقاومة الاحتلال التي سخرت كلَّ موارد البلد حتى صرنا أفقر بلاد الله حالاً تحت عنوان محاربة الاحتلال.

أما العدوان الإسرائيلي اليومي على المواقع الحيوية في سوريا، وتقسيم البلاد تحت سلطة خمسة جيوش متحاربة، وتوزيع موانئ سوريا ومطاراتها على المحتلين، فهذه كلها تفاصيل صغيرة لا علاقة لها بالمعركة الحقيقية، التي اختصرها الخطاب الرشيد بالمعركة ضدَّ الفكر التنويري الخطير.

لقد بات على رأس اهتمامات القيادة الرشيدة التصدي لخطاب التجديد والتنوير، والتحذير من التوجهات الليبرالية التي بات ينادي بها بعض دعاة التجديد والتنوير.

وصرف الرئيس جهداً كبيراً للردِّ على ما ينشر عن التجديد على صفحات التواصل الاجتماعي، وبيَّن بوضوح أن التجديد والتنوير الصحيح هو ما حققه علماء المؤسسة الدينية في سورية (من الذين وقفوا مع الحكومة) ضدَّ مطالب الحرية والليبرالية، وأن هؤلاء المشايخ قاموا بجهد كبير للردِّ على أدعياء التجديد، في إشارة واضحة إلى ما يقومون به من إصدار البيانات اللازمة ضدَّ رموز التجديد وتعبئة المصلين ضدَّ أفكارهم ووقف ما يصفه المشايخ بالمحاولة الخبيثة لتقديم العقل على النقل!

وأكد أن المفهوم العميق لمصطلح التجديد يجب أن ينطلق من قاعدة أن النص صالح لكل زمان ومكان، وكل تغيير في هذه القاعدة فهو عبث بالشريعة وتغيير في جوهر الدين، وبذلك فإن ما يروجه دعاة التنوير من إمكانية التعامل مع النص كحقيقة تاريخية متطورة، وتأكيد ما طرأ على النص من نسخ وتأويل وتقييد وتخصيص وغير ذلك من وسائل الوعي الحيوية في تطور الأحكام بتطور الأزمان، واعتبار المصلحة والاستحسان والعرف وغيرها من المصادر العقلانية المحترمة، باتت كلها تآمراً على الإسلام وأن السبيل الصحيح هو اتباع جمهور المشايخ فيما ذهبوا إليه من تسخيف العقل وهيمنة النص عليه.

وأكد على أن السبيل الصحيح لتطوير البلاد هو العودة إلى المصدر الأساسي للتشريع وهو الكتاب والسنة، وهو ما يعني بدقة أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار!

ثم طالب المؤسسة الدينية الرسمية في سوريا أن تتصدى بيد من حديد لكل محاولات تمييع الدين، واعتبر أن جهود التجديديين هي أخطر المعارك القادمة، وأن المعركة الفكرية التي ينشرها بعض أدعياء التنوير هي المعركة القادمة الفاصلة، وأن علينا أن نرصَّ الصفوف والطاقات لضرب الأفكار السامة التي ينشرها الدعاة التنويريون التي تؤدي إلى نتائج خطرة، وهي (الليبرالية والعقلانية)، وفي مواجهة هذه التحديات العظيمة فقد طالب الخطاب بالعودة إلى هدي السلف، ومحاسبة المارقين الذين يطالبون بتجديد الخطاب الديني، والتفكير خارج الصندوق، والخروج على جمهور المشايخ (والمقصود بالطبع من أنصار الحكومة) الملتزمين بهدي السلف والمتمسكين بتفسيراتهم الصحيحة للنص الصالح لكل زمان ومكان!

وبالطبع فإن الخطاب يعطي الضوء الأخضر للبدء بحملات ضارية ضد الأفكار السامة، وذلك عبر اتهام التنويريين بالزندقة والردة، وهي حملات قد بدأت بالفعل وتشهد الآن نمواً مدعوماً، وترفع الصوت الهمجي ضدَّ كل من يكتب في التنوير، واتهامه مباشرة بأنه زنديق ماسوني مهما كان خطابه طافحاً بالاحترام والمحبة لكل رموز الإسلام الكبار.

وستشتد الآن الحملات الضارية ضدَّ الفكر التنويري، وستصبح الشتيمة الأكثر حنقاً هي تمييع الدين، ولي أعناق النصوص، والعبث بالثوابت، وإنكار ما علم من الدين بالضرورة، والخروج عن إجماع (السادة العلماء)، ومنع التفسير والتأويل إلا وفق ما يقره المجلس الفقهي الحكومي.

لا يمكن فهم النص الذي نشره القصر الجمهوري إلا هكذا، وبعيداً عن التحليل السياسي فإن الخطاب السياسي في سوريا ينعطف انعطافاً مخيفاً لمجاملة التيار السلفاني، والموافقة على الخطاب التحريضي ضدَّ الهراطقة والزنادقة، ومنح الضوء الأخضر للبطش بدعاة هذا التيار وتصوير جهودهم العلمية والبحثية الهادفة لتطوير الفهم الإسلامي على أنها جهود تدميرية، وأنها المعركة الخطرة القادمة، وبات المطلوب هنا أن يستوفي رجال الدين شهيتهم في تكفير المخالفين من المفكرين وزجِّهم في دائرة الهرطقة والزندقة وحرمانهم من حقوقهم المدنية.

تاريخياً كان الاستبداد والكهنوت يتبادلان علاقة تخادم مستمرة، وكما استطاع الاستبداد أن يسخر المؤسسة الفنية والاقتصادية والعسكرية في خدمة مشروعه الشمولي، فإنه استطاع ببساطة تسخير كثير من رجال الدين لهذه الغايات، ومن المؤلم أن المحاكم التي عقدها المستبدون لمحاكمة رموز الحرية والعقل في الإسلام كان على رأسها مشايخ وعمائم، وهذه العمائم هي من أفتى بقتل غيلان الدمشقي، والجعد بن درهم، وابن المقفع، ولسان الدين بن الخطيب، والحلاج، والسهروردي، وعماد الدين نسيمي، وكان هؤلاء المشايخ يجيدون ببراعة وغنة تلاوة الآيات والأحاديث على خشبة الصَّلب التي يدفعون فيها خصومهم إلى المحارق تحت عنوان نصرة الدين ومقاومة الزندقة!

لا أريد أن أبالغ في وصف المشهد، ولكن بات من المؤكد أن الخطاب الرسمي لجبهة النصرة، وحكومة الائتلاف، وحكومة دمشق، وحكومة إيران يُكتَب بروح واحدة، وأن الجميع حددوا معركتهم ضدَّ التنوير والتجديد وضدَّ رسالته في التحرر وحقوق الإنسان، واتفقوا أن الخطر الداهم القادم هو نشر الوعي والسماح للناس أن يفكروا خارج الصندوق، وهو ما يتفق الأربعة على تسميته بالليبرالية الجديدة الخطرة!

ربما تنفرد حكومة دمشق عن الأطراف الأربعة بأنها تملك خطاباً مزدوجاً، فهي في محاربة التنوير سلفية متشددة مثلهم، خاصة حين يدعو التنوير إلى الحريات والليبرالية وحقوق الإنسان، ولكنها لا تزال تحتفظ بثقافة ممنهجة في سبِّ السلف والدين والرب في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، واعتبار ذلك ضرورة منهاجية لمحاربة الإسلام السياسي!

Related posts

د.محمد حبش- التنوير في مواجهة التكفير 4/11/2006

drmohammad

حتى لا نكرر المأساة… مواجهة مع ثقافة الدَّم

drmohammad

الإسلام الشعبي

drmohammad