وفي الحرب الروسية تقاتل آلاف الكتائب والفصائل والفرق الروسية، وكلها تقاتل بهدف معلوم وأجر معلوم…
وحدهم مقاتلو الشيشان دون سواهم من الفصائل يعلنون أنهم يجاهدون في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام ونصرة لله ورسوله، (بالطبع تحت راية أمير المؤمنين بوتين) وهاهم يقدمون أنفسهم على منصات إعلامية واضحة بلحاهم الطويلة، يهللون ويكبرون ويهتفون برايات الجهاد قتالاً ضد اليهود والكفرة والملاحدة ونصرة للإسلام والمسلمين.
ليست الظاهرة الشيشانية البائسة بدعاً في تاريخ الحروب، فهناك باستمرار من قدَّم خطاباً مخزياً يرفع شعارات إسلامية في خدمة الاستبداد والظلم والتوحش، وحين وصل هولاكو إلى العراق، قدم خطابه على الطريقة النابليونية في أنه ليس معادياً للإسلام؛ بل هو معادٍ للخليفة المترف والمسرف، الذي ينفق مال الأمة على الغانيات والفاتنات والجواري في قصره، وسرعان ما تقبَّل هذا الخطاب عددٌ من الناقمين على الخلافة، وراحوا يزينون للشباب الجهاد مع هولاكو واعتبروا قضاءه على الإسماعيلية في قلعة الموت دفاعاً عن الإسلام وقطعاً للطائفة الحشاشة، وأن علينا أن نشكر بلاء هولاكو وجهاده في الدفاع عن بيضة الإسلام التي عجزت عنها جيوش الخلافة، وحين دخلت جيوش هولاكو بغداد كان في جيشه كتائب جهادية إسلامية منها كتيبة بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وكتيبة العزيز الأيوبي، وكتيبة قلج الثالث السلجوقي، وكان فيها شباب مجاهدون غاضبون يزعمون ويصدقون أنفسهم أنه قدموا مع هولاكو نصرة لله ورسوله ودفاعاً عن الإسلام الحق.
ويرصد الدكتور رجب محمود إبراهيم بخيت في كتابه «تاريخ المغول وسقوط بغداد» نقلاً عن المؤرخين المعاصرين، وخاصة أبو الفداء في «المختصر»، والذهبي في «تاريخ الإسلام»، وابن تغري بردى عدداً من الكتائب المقاتلة التي تطوعت للقتال مع هولاكو والدولة الإيلخانية تحت شعارات جهادية خالصة؛ بل إنها تطورت فيما بعد إلى حدِّ إعلان ابن أخي هولاكو دخوله في الإسلام وتسميه بمحمود غازان، على الرغم من ركام المظالم والمآثم والجرائم التي مارسها هولاكو وجيشه المتوحش، وكذلك جيش غازان في حواضر الإسلام كافة.
ولكن كيف أمكن أن يتحول المجاهد الشيشاني المعروف بأهدافه ورسالته إلى هذه المشاركة القطعانية في جيش أحمر لا يحركه إلا البغي والهيمنة والمصالح الضيقة للكرملين التي لا صلة لها من قريب ولا من بعيد بالجهاد ولا بالدعوة ولا بمصالح المسلمين؟
يعود تاريخ المقاومة الشيشانية للوجود الروسي إلى نهايات القرن السادس عشر عندما قصد إيفان الرهيب أول القياصرة الروس 1582م إخضاع المسلمين في الجنوب بعد أن قضى سلفه إيفان الكبير في القرن السابق على القبيلة الذهبية من مسلمي المغول، ولكن إمارات القوقاز الإسلامية مارست مقاومة شجاعة ضدَّ القيصر الروسي، ووجد هؤلاء المسلمون في داغستان والشيشان وخانات كريم (القرم) ملاذاً بوساطة حماية الدولة العثمانية التي كانت في ذلك التاريخ في أوج عظمتها وقوتها.
ومع إعلان بطرس الأكبر 1702م قيام الإمبراطورية الروسية وجد المسلمون أنفسهم في الشيشان محاصرين بإرادة الروس ومشروعهم الإمبراطوري الذي يتناقض تناقضاً حادَّاً مع طبيعة الوجود الإسلامي في جنوب روسيا، وبدأت حملات مقاومة شجاعة لم تنقطع مدة مئتي عام، واشتهرت منها تلك المقاومة الباسلة التي قادها الإمام شامل، وقد قمت بدراسة هذه الفترة وشرحتها شرحاً مستفيضاً في كتابي «أشواق داغستان» في معرض ترجمة الشاعر الأواري المحلق نجم الدين بن دنوغونة الحزي الداغستاني، وقصيدته الرائعة في الرسول الكريم.
واستمر الجهاد بعد ذلك بوجه أكثر دموية في العصر السوفياتي، وما زال يتفاعل بوجهٍ أو بآخر حتى كانت آخر فصول المأساة الدامية على يد جوهر دودايف الذي خاض نهاية القرن الماضي مقاومة باسلة مع الدولة الروسية، وكان من نتيجتها مقتل دودايف، وتدخلٌ روسيٌّ مدمرٌ أحال غروزني إلى مدينة أشباح.
أعقب ذلك انقسام في الثوار، ونجح أحمد قديروف الذي كان مفتياً للشيشان في التصالح مع الروس، ولكنه قتل عام 2004، وفي جوٍّ من التعاطف مع قديروف وجدت روسيا في ابنه رمضان قديروف رجلاً مناسباً لقيادة الشيشان، وتقدم الشاب ابن الثلاثين عاماً لقيادة الشيشان منذ 2007 وعرف بحظوته القريبة من الرئيس بوتين.
وكانت الطريقة التي أدار بها قديروف شباب الشيشان دقيقة ومحكمة، فهو لم يطفئ فيهم جذوة القتال قطُّ، وإنما عزف بحماسة على هذا الوتر، وناداهم ألَّا يلقوا السلاح، وأن يستمروا في التدريب العسكري وأذكى أشد اللهيب على جذوة الحرب ورفع شعارات نصرة الإسلام والدفاع عن القرآن والعقيدة، ونجح في تقديم صورة الرئيس بوتين بوصفه مسلماً طيباً يبني المساجد، ويحارب الرذيلة والشذوذ، وزحم عاصمته بعمائم مشايخ من الأزهر وسورية، وعقد المؤتمرات التي تهدف إلى تقديم غروزني عاصمة إسلامية أصولية، وأن حروبه في عمقها البعيد هي دفاع عن الإسلام ضد نصارى جورجيا ويهود أوكرانيا، وعبر ماكينة إعلامية تعتمد التحشيد الديني بات من الطبيعي أن المحارب الشيشاني مطالب أن يقاتل أعداء الله من النصارى واليهود في جورجيا وأوكرانيا عبر تحالف مع الدولة الوطنية الروسية التي تضم ثلاثين مليون مسلم!
لا يمكن بالطبع تبرير ما جرى، ولكنني أحاول تفسيره، كيف استطاع زعيم شعبوي أن يدفع الناس إلى القتال في حروب الآخرين، في حرب لا تعني شيئاً للشيشان، في أرض جورجيا المتمردة على التغول الروسي، وفي أرض القرم حيث أطلق كتائب عدَّة من المتطوعين للوقوف إلى جانب الجيش الروسي بعقدية قتالية مشحونة بكراهية النصارى واليهود، وأخيراً في تنظيم كتائب محاربة في أوكرانيا تقدر بأكثر من عشرة آلاف مجاهد.
المجاهدون مع قديروف لا يهتفون للأمن القومي الروسي، ولا يقاتلون دفاعاً عن أمن روسيا وكنيستها الأرثوذكسية؛ بل يهتفون للإسلام ويقاتلون اليهود والنصارى تحت راية الله أكبر، ويقدمون أوضح دليل على أن الجهادي ساذجٌ ومغفلٌ، وأنه معادٍ بطبعه لكل ما هو ليبرالي وحرٍّ في العالم، وأنه يمكن أن يقدِّم روحه في خدمة الاستبداد وهو لا يدري.