مقالات

ألمانيا من عصر هتلر إلى عصر ميركل

ودَّعت ميركل القصور الرئاسية وعادت تستأنف حياتها الطبيعية بعيداً في شقتها المتواضعة عند شارع شبريه بعيداً عن صخب العالم وضجيجه، في مشهدٍ أثار أروع ما في الإنسانية من نبلٍ وطهارةٍ ونقاء، وأعاد للأذهان صور الراشدين والزاهدين من الذين ملكوا الدنيا بأيديهم ولم يكن لها على قلوبهم من سلطان.

إنها ليست الرغبة بتمجيد امرأةٍ والحديث عن مآثرها، مع أن الحديث عن هذه المرأة الرائعة بحدِّ ذاته متعةٌ وأغنية؛ ولكنني معنيٌّ بالحديث عن تلك القوانين النبيلة التي أتاحت لهذه المرأة أن تتصرف مع ملايين اللاجئين بهذه الروح الإنسانية السامية.

وبعيداً عن الآثار الاقتصادية والسياسة لقضايا اللجوء، فإن هذا المقال معنيٌّ فقط بالجانب الإنساني والاجتماعي لقضية اللجوء؛ إذ ترسم قضية اللجوء تحديداً الصورة الأكثر إشراقاً للحضارة الغربية، وسواء اعتبرناها إدارة لبرنامج اقتصادي وطني أو ممارسة إنسانية خالصة فإن الصيغتين تستحقان كل احترام وتستوجبان الاحترام.

وميركل ليست سوى مستشار يطبق القانون بشغف ومحبة، حيث تلتقي آماله الإنسانية بالنصِّ القانوني، ولا شكَّ في أن أي مستشارٍ يصل إلى هذا الكرسي ملزمٌ أن يطبق قانون اللجوء، ولو كان أقل شغفاً من ميركل.

ولكن كيف وصل الألمان إلى قوانين بهذه الإنسانية والعدالة؟

لم تكن ألمانيا بهذه الصورة الإنسانية في القرن الماضي، ولو قرأت بعض التاريخ الألماني فلن تصدق أن تلك الجيوش الجرَّارة التي قادها الفوهرر وأحرق بها العالم ستنكفئ إلى أداء إنساني وأخلاقي بهذه الروعة، فقبل مئة عام حين بدأت أوروبا تتشكل على قواعد الحق واحترام إرادة الناس في تشكيل الدولة والقانون كان الألمان لا يزالون يعيشون العصر النازي، ويرفضون الخضوع للشرط الحقوقي الجديد الذي يفرض احترام القانون الدولي وإرادة الشعوب في تقرير مصيرها، وكان الألمان لا يزالون يرون أنهم خيرُ أمة أخرجت للناس، وأن الدم الأزرق الذي يجري في عروق الألماني مقدَّسٌ ونبيل ولا يجوز تشبيهه بالأمم الأخرى من الغوييم، وكان كهنتهم ينفخون في كير الاستعلاء القومي ويلقون حطباً دينياً جديداً في لهيب المحرقة، وإضافة إلى سمو الدم الأزرق الذي يريده النازيون قدم الكهنة سمو العقيدة اللاهوتية التي يعتنقها المسيحيون، وأن الله خلق المسيحي الصالح للجنة وخلق الآخرين للجحيم، وهي دعوى تتطابق تماماً مع ما يردده مشايخنا في شمس بلادي.

وعلى الرغم من التناقض الكامل بين ألمانيا وتركيا والعداء التاريخي بين الدولتين، ولكنهم وجدوا سبيلاً للتحالف لمواجهة العالم الذي بات يرفض الاستعلاء النازي ويلزم بالمساواة، ووجد الألمان والأتراك في أقصى الشرق حليفاً يعيش الغرور نفسه في تفوق العرق الياباني المتحدر من الآلهة على الأعراق المجاورة، وسرعان ما انعقد الحلف الثلاثي ليخوض الحرب العالمية الأولى دفاعاً عن تاريخه وعرقه الأزرق في مواجهة الأمم الغوغائية الفارغة.

كانت الحرب الأولى فشلاً مريعاً للمشروع الألماني وجاءت بنتائج مذلة، ولكن الشعور النازي الغامر لم ينطفئ بضربة واحدة، واستيقظ استيقاظاً متوحشاً، وبعد الحرب العالمية الأولى بعقد واحد ظهر هتلر على رأس الأماني الألمانية النازية، وقاد في هياج عارم جيوشاً مليونية جرارة من أفق إلى أفق، وتحالف مرة أخرى مع تركيا واليابان المسكونتين بالشعور النازي نفسه، فلم يكن الساموراي الياباني مستعداً أن يجلس على قدم المساواة مع جاره الكوري والفليبيني والصيني، فلم يتناسل هؤلاء من إيزانامي وإيزاناجي المقدسين وعليهم أن يكونوا في خدمة السيد الياباني كعبيد لا شركاء.

ومع أن العثمانيين والجرمان كانوا تاريخياً في صفين متقابلين، وخاضوا حروباً ضارية لا تنتهي في فيينا وبلغراد وصربيا والموره لي؛ ولكن المشترك بين الثقافتين في هذه الحرب هو الاستعلاء العنصري، فلم يكن العثماني ليرضى أن تنهض الشعوب في البلقان لتطالب بحريتها، وكان يطالب بوضوح بهيمنة الجيوش الانكشارية المستمرة منذ ستة قرون حيث وصلت مدافعهم وبارودهم، وكذلك تماماً كان الشعور الألماني النازي الذي يرى أن الجرمان الذين حكموا أوروبا بأشكال مختلفة عشرة قرون تحت ظلِّ الإمبراطورية الجرمانية المقدسة يمارسون حقهم الطبيعي في إخضاع فرنسا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا إلى آخر قائمة الشعوب المتمردة على التاج الألماني.

وحين نازعهم اليهود في هذه المشاعر لم يتردد الألمان في نصب أشدِّ المحارق هولاً، وأنجزوا الهولوكوست الرهيب بمشاعر وطنية وقومية متغطرسة، تبطش بكل محاولات الغوييم المشاركة في هذا التفوق والاستعلاء.

ولكن كيف تحولت ألمانيا من عصر هتلر إلى عصر ميركل، وكيف تحولت الدولة الضارية من محارق الهولوكوست إلى قوانين اللجوء الإنساني الحضاري؟

شهد العالم السقوط المدوي للنازية، وأدرك الألمان أنهم يسيرون عكس حركة التاريخ، وتساقطت تلك الشعارات الزائفة التي كانت يقود بها هتلر جحافل النازيين، وأدرك الألمان أنهم كانوا يعيشون خرافة بائسة، فلا هم أمة معصومة، ولا هم شعب الله المختار، وأن الله خلق البشر متساويين ولا عرق أزرق ولا عرق أسود، وأن الأوهام التي سوقتها النازية عن المسؤولية الأخلاقية للألمان في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم كانت في الواقع محض وسائل يستخدمها الاستبداد للنفخ في بوق الحرب.

حين قال الألمان ألمانيا فوق الجميع أحرقوا العالم، وحين قالوا ألمانيا مثل الجميع انتهت الحروب وتحولت أوربا إلى أروع نادٍ ديمقراطي تلتقي فيه الأمم.

وأدرك الألماني أنه محض فرد في أسرة كونية واحدة تعيش على هذا الكوكب، وأن عليه أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية في التضامن مع الشعوب البائسة، وليس في أدلجتها وتركيعها، وأن الإنسان أخو الإنسان أحبَّ أم كره، وأنه ليس في سماء القرية الكونية أحدٌ جدير أن يكون إلهاً يعبد، وآخر جدير أن يكون بائساً يستعبد.

حين وصلت هذه السيدة الجميلة إلى منصب المستشارية لم تنس قطُّ أنها كانت طالبة تبحث عن العيش الكريم، وأنها عملت نادلاً في بار في أثناء تحصيلها الدراسي، وكان من الممكن أن تفشل في تحقيق أحلامها لولا النظام التعليمي الألماني الذي يتعامل مع الناس بروح سواء، ومنحها فرصة الدراسة والتفوق.

وحين فتح الربيع العربي قوافل المهاجرين صوب الأرض الألمانية أدركت المستشارة القديرة أن أفضل سبيل للتعامل مع هذه الموجات البشرية المحرومة والمعذبة هو السبيل الإنساني، وتطوير القوانين الألمانية باتجاه كرامة الإنسان والأخوة البشرية.

وحين واجهتها التيارات المتعصبة للقومية الألمانية بأنها تعبث بالهوية والعرق الألماني الأزرق، وأنها ستتسبب بتراجع الاقتصاد الألماني قررت السيدة المضي في الاستثمار بالإنسان، ولم تسمح لهم أن يحققوا تنبؤاتهم في انهيار الاقتصاد الألماني بسبب الإنفاق على اللاجئين، لقد قررت ان تطبق القانون الإنساني الألماني، وأن تبعث في اللاجئين إرادة الحياة والعطاء، عبر احترام دينهم ومقدساتهم وآمالهم، واستخراج أثمن ما في الإنسان من قيم العطاء والتضحية لصالح الأسرة الإنسانية العالمية.

لا يصدق المهاجر من هذا الشرق التعيس أن الإنسانية هي التي استيقظت في ضمائر تلك الشعوب وأن العالم بات في مكان آخر لا يشبه تلك الخيبات التي درَّسنا إياها حكَّامنا من عصر الاستعمار البليد.

لقد نجحت أوروبا وانهار هذا الشرق التعيس، ولكننا بحاجة إلى أن ندرك بعمق سبب مأساتنا وخيبتنا، وأن نتوقف عن تعليق فشلنا على مشاجب الآخرين، فهذا العالم حقق بالفعل التحول الديمقراطي، وبات بستاناً رائعاً تتحقق فيه إرادة الله في السلام والمحبة.

العالم ليس جمعية خيرية كما يتصوره الحالمون، كما أنه ليس كما يصوره حكامنا الفاشلون ليس غابة ذئاب، لقد بلغت الإنسانية الأفق الأكثر نضارة ونبلاً في حقوق الإنسان، وسقطت أوجه الاستعلاء القومي والديني كلها، وأصبح واضحاً تماماً أن السياق الحضاري ماضٍ نحو أسرة واحدة إنسانية على قاعدة: الناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لجرماني على عثماني، ولا لأوروبي على إفريقي إلا بالتقوى وخدمة الناس والعمل الصالح.

Related posts

د.محمد حبش- فرصتك للخلاص من التدخين 29/9/2006

drmohammad

وحيد الدين خان – التنوير في مواجهة الكهنوت

drmohammad

د.محمد حبش- من أجل شام شريف 27/1/2006

drmohammad