مقالات

د.محمد حبش- أوروبا … التوق إلى عالم الروح والإيمان 27/8/2008

هل انتهى عصر الروح والقلب، وجاء عصر الحجة والبرهان؟ وهل أصبح الدين ميثولوجيا مفعمة بالأساطير لا يقبلها العقل الغربي، وأن مكانه الصحيح في متحف اللوفر، مع الديناصور والأتماصور والماموث؟
خلال مؤتمرات متعددة في القارة العجوز مضيت أبحث عن دروس الهيبة والخيبة، والانتصار والانكسار، والمشترك والمختلف، ووجدت نفسي تارة جاثياً على الركب أتعلم من عباقرتها وأنبيائها، وتارة هائماً في إثر ثوارها ومجانينها، وتارة مؤنباً لها على غرورها وشقاوتها، وتارة شامتاً بسقوطها وعثارها، ولكنني كنت في ذلك كله أرقب القارة الجبارة العتيقة من موقع الشرقي الشقي المترع بالأحلام، والمسكون باليوتوبيا، والمذهول بالتكنولوجيا.
أوروبا القارة الجبارة التي اكتسبت اسمها من فتاة صيدونية من لبنان، سكبت جمالها في السهول الخضراء والجبال المكللة بالثلج الأبيض، وفرسانها الراكضين في كل وجه، أمضت قروناً دامية من الحرب والويل والثبور وعظائم الأمور، وركضت خلف باباواتها وأباطرتها عشرة قرون وارتكبت السياسة والإثم والحرب، واعتصرت الخمرة ومارست الربا والخطيئة، ولكنها أفاقت مع أذان روجر بيكون وبدأت تعد للعصر الجديد، ومن ركام حربين عالميتين مدمرتين اجتمع الأوروبيون في ماستريخت وتنادوا إلى كلمة سواء أن يعبدوا إلهاً واحداً يسجد له الجميع ولكنه لا يتدخل في السياسة، ولا يوزع غنائم السماء على منصة الأرض، ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله بل سواسية كأسنان المشط، والقوي فيهم ضعيف حتى يؤخذ منه الحق والضعيف فيهم قوي حتى ينال حقه، واكتشف الأوروبيون القاعدة البسيطة السهلة التي أنهت كل أسباب نزاعاتهم وحروبهم، وهي كلمة من ذهب قالها نبي الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، ونطقها الأوروبيون بكلمة واحدة: الناس سواسية!!
هل تستعد أوروبا للدخول في الإسلام؟ يبدو السؤال حالماً وسريالياً، وهو كذلك إذا كنا نقصد بالإسلام إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، فهذه المناسك الشريفة لن تصبح مطلباً أوروبياً إلا عندما يتمكن العرب من استعادة موقعهم تحت الشمس ويعودوا أمة رائدة موصولة المجد، هناك فقط سيبحث العالم عنا ويقتفي خطانا.
هل تستعد أوروبا للدخول في الإسلام؟ إذا كنا نقصد بالإسلام قيمه العالية في الحرية والعدالة والمساواة والتكافل فالجواب بكل تأكيد: نعم، بل قد يكون الجواب إنها دخلت بالفعل في هذه القيم الرائدة، فهذا هو الهدف الأعلى للعقل والنقل جميعاً، وقد نكون أخفقنا في إقناع العالم باتباع النقل، ولكن العقل سيقود إلى الجادة نفسها التي نادى إليها الوحي من قبل، وقيم الوحي العظيمة من العدالة والحرية والمساواة والازدهار صارت بالنسبة للغرب مطالب ينجزها كل يوم فيما أصبحت بالنسبة لنا مجداً آفلاً نتغنى به ما لنا في الواقع منه من نصيب.
قرأت عن أوروبا الكثير، وكنت أحتار في هذه القارة الهائمة بين الحب والحرب، وقد نفضت كل غبار الميتافيزيق عن قراراها في الحياة، وبدت جافة صلبة، لا تؤمن بغير الفيزياء، وعلى الرغم من حسم معركة العقل والوهم لصالح العقل تماماً، وإجبار الميتافيزيق عن الرحيل عن الميدان التشريعي الذي منح بالكامل للبرهان الموضوعي والدراسات العلمية والاجتماعية، ولكن سلطان الأساطير لا يزال يتحكم في العقل الجمعي في أوروبا ولعل أوضح الأمثلة على ذلك اليوم هو أسطورة هاري بوتر، للكاتبة العجيبة لوري كينغ، فهذه الكاتبة كانت على وشك الانتحار لشدة الفقر والعناء، ولكن حياتها تغيرت بالكامل حين قررت أن تسكب خيالاتها في الذاكرة الأوروبية التواقة إلى الأساطير، وأصبحت أول ملياردير يجمع ثروته من قلمه، ودخلت بقوة قائمة المليارديرين في مجلة فوربكس العالمية، وغيرت شكل الثقافة الأوروبية عندما كتبت أساطيرها تحت عنوان هاري بوتر الصبي الساحر المسكون بالعفاريت والذي يمشي على الماء ويطير في الهواء ويخترق الجدران ويسكن في الحيطان، ومع كل ما في الروايات من خرافات وأساطير ولكنها اليوم دون منازع أشهر الروايات في القارة العجوز، وحين تصدر طبعة جديدة من روايات هاري بوتر فإنها عادة الخبر الأول في وسائل الإعلام، حيث تنقل التلفزيونات مشهد الطوابير المصفوفة على المتاجر للحصول على نسخة جديدة من كتاب هاري بوتر وهو إقبال لم تشهده بكل تأكيد كل أعمال أينشتاين العلمية، ولا بحوث السير جيمس جينز، ولا طبعات كوبر نيكوس وغاليلو المتتابعة.

من يقرأ هاري بوتر؟! وكيف خبط هاري بوتر في قاعات السينما العالمية محطماً الأرقام القياسية من أكثر من عشرين وجهاً؟ وكيف أمكن لرواية خيالية خرافية أن تصبح أهم إنجاز أدبي في مطلع القرن العشرين؟ إنها بالتأكيد أحداث لم تصنع في المهراجا الهندية ولا التوتسي والهاوسا في وسط القارة السمراء، ولا هي بقايا ثقافة المايا والأزنك و ولا هي حكايا خان الخليلي والدقي، إنها رواية كتبت في قلب قارة التكنولوجيا الرهيبة، في أوروبا التي صنعت الحضارات ووزعتها في الأرض، ولكن العقل التكنولوجي الجبار لم يفلح أبداً أن يطمس بقايا الروح التي ظلت متدثرة بالأسرار.
ويسئلونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً.
من وجهة نظري فإن ظاهرة هاري بوتر نداء جديد تقدمه الفطرة للإنسان المغرور باكتشاف أسرار الطبيعة، إنها ستزداد كل يوم معرفة بطبائع الأشياء ولكن لن يغيرك عن حقيقتك شيء، وسيظل ما تجهله أكثر مما تعلمه، وستظل ترنو بفطرتك إلى ما وراء الأفق والغيب، حيث الحقيقة الغامضة، المجللة بالأسرار، لا تقبلها جامعاتك ولكن تعانقها مشاعرك، وسترفضها مناهجك وتعبدها مباهجك، ولن تستطيع أيها الإنسان أن تخرج من حلاسك وأسرارك وتوقك إلى الغيب، إنها حقيقة عبر عنها الكاتب الأوروبي الجبار علي عزت بيغوفيتش في دراسة طويلة رصد فيها أغوار الروح في نفس ابن آدم من كندا إلى نيوزيلاند، ومن بيونس آيرس إلى كيوتو، ومن إنسان نياندرثال إلى إنسان بوسطن، ومن الغجر إلى هارفارد، وانتهى إلى حقيقة واحدة: الإنسان حيوان عابد!!
سيظل الإنسان يحن إلى السماء، ولن تقنعه لغة الأرض وأحكامها الفيزيائية الصارمة، وسيمل بسرعة من ثقافة واحد زائد واحد يساوي اثنان، وأن الطول أكبر من العرض، وأن الكل أكبر من الجزء، وسيستمع بإنصات وشغف للذين يحضرون من وراء الغيب بصور الأسرار والعجائب، وستظل هيبة المجهول أمتع ما يعتنقه الإنسان في فؤاده وقلبه، وسيظل توقه للغيب أكبر من وعيه بالشهود.
ربما كانت تجربة إقبال من أشد التجارب خصوبة ووعياً فهذا الشاعر المتمرد عاش في أوربا في فترة قاسية من القطيعة بين الشرق والغرب، وكان الدم الغربي الأزرق يعيش عصره النازي استعماراً وانتداباً ووصاية على رقاب الشعوب، ولكن إقبال كان يشعر بأن الإنسان خلق لغير هذا، وظل يؤمن بإخاء الإنسان للإنسان، وفي ذلك يقول: “لم يستطع بريق العلوم الغربية أن يبهر لبي، ويعشي بصري، وذلك لأني اكتحلت بإثمد المدينة” ويقول: “مكثت في أتون التعليم الغربي، وخرجت كما خرج إبراهيم من نار النمرود”

وهي كلمات من ذهب نظمها صديقنا الشاعر زهير ظاظا بقوله:
بريق الحضارة أوج الترف لدى الغرب لم يستطع فتنتي
أنا ابن المدينة ابن النجف غبارهمـــا كان في مقلتي
غبارهمـا إثمـد للعيون وأنفــع طب لذي علــة
مقيم برغم رياح القرون وما كــــــان من مستبد عتي

أوروبا ظمآنة إلى الروح، وهي تتوق إلى ري روحي يكمل توق الإنسان إلى السماء دون أن يتناقض مع حقائق الطبيعة، وهذا بالضبط هو الرسالة التي يستطيع الإسلام أن يقدمها للعالم.
كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.

Related posts

المونديال… عيال الله

drmohammad

جرائم الكراهية من كندا إلى شنكال

drmohammad

د.محمد حبش- في سبيل الله والمستضعفين في الأرض

drmohammad

Leave a Comment