إنها قاعدة بسيطة وفطرية إذا جاعت الجوارح نشطت الروح، وإذا شبعت الجوارح كسلت الروح، الروح مقدودة من عناء ابن آدم، وعلى نسق أقداره وأهواله، وأعذب الشعر هو ما اختلطت فيه الريشة بالمدامع، وأعظم الصلاة هي ما توضأ فيه المصلي بمدامع الأشواق، وأكثر الشعر تأثيراً هو شعر الغربة والفراق والحنين.
رمضان بروحانيته وإشراقاته يوقظ في نفوسنا هذه المشاعر، يريد أن يقول لك أيها الإنسان إنك لست محض تراب وطين، إنك جئت من فوق، من علو، من السماء، ومن حقك أن تبقى تواقاً إلى الأعلى وأن تتسامى عن نوازع الجسد ومطالب البدن، هناك حقيقة أخرى فوق حاجات الجسد إنها حاجة الروح التي هبطت إليك من المحل الأرفع، ورمضان هنا مناسبة لفتح نور البصيرة وإشراق القلب بسراح المحبة.
كتب الإمام الغزالي: الصوم ثلاثة صوم العوام وصوم الخواص وصوم خواص الخواص، أما صوم العوام فهو الصوم عن الطعام والشراب، وأما صوم الخاصة فهو الصوم عن كل ما حرم الله، وأما صوم خواص الخواص فهو الصوم عن كل ما سوى الله.
في رمضان تجوع الجوارح، وتصبح شريكاً للمساكين، وتدعو مع النبي الكريم اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً، إنك في هذه المشاركة تشاركهم جوعهم، ومن الممتع أن يكون الصوم في هذا العام في شهر آب، مترافقاً بموجة حر قاسية لم تشهد لها سوريا مثيلاً، ولكن تلك المكابدة التي يعانيها الصائم ضرورية لأداء رسالته وإشراق غاياته في فؤاد المؤمنين.
وفي رمضان كان التاريخ حافلاً بالأيام العظيمة ففيه بدر وفتح مكة وعين جالوت وأيام عظيمة كثيرة تؤكد أن الصوم ليس عيد الكسل والخمول العالمي، بل هو في الواقع شهر عطاء وتضحية يتأسس على مبدأ السمو عن رغائب الجسد والتعلق بأهداب الروح والقيم العالية.
دخل شاعر على عمر بن عبد العزيز فمدحه بقوله:
تشاغل الناس بالدنيا وزينتها وأنت بالدين عن دنياك مشغول
فقال عمر: يا هذا! أقصدت مدحي أم ذمي؟ قال : بل مدحتك بالزهد والعبادة!
قال ويحك ! والله ما زدت أن جعلتني عجوزاً عليلة في قعر دارها تنتظر الموت! هلا قلت:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
رمضان ربيع القلوب، وفردوس الأرواح، وهو الأيام الطيبة التي يسمع فيها أهل اليقين نداء الله: طال شوق الأبرار إلي وأنا أشد إليهم شوقاً.