مقالات

انهمار أحكام الإعدام في إيران


أحكام الإعدام تنهمر في إيران تزامناً مع الاحتجاجات، وآخرها إعدام 17 من المحتجين، وكذلك نائب وزير الدفاع السابق علي أكبري، وبذلك تتصدر إيران للعام التاسع على التوالي قائمة أكثر الدول في العالم تطبيقاً لعقوبة الموت! تسجل الأمم عادة أمجادها في أوابدها الخالدة لتقول للأجيال الآتية لقد حققنا ازدهاراً سيسجله لنا التاريخ، ولكن بعد أربعة وأربعين عاماً من قيام الثورة في إيران يراجع الإيراني نجاحات ثورته في قراءة مخجلة، فهي غائبة تماماً في قوائم الرفاهية والازدهار والتنمية والسياحة والصناعة والجامعات المتقدمة ومراكز البحث العلمي، ولكن مكانها  في سجل الأرقام العالمية محجوز في العشرة الأوائل ومع الأسف فقط على قوائم الموت، فهي أكثر دولة انخرطت في حروب إقليمية، وأكثر دولة أسست محاربين مسلحين ينتمون لها خارج حدودها، وقد حجزت باسمها عدداً من أعجب قنابل الموت كصاروخ الحسن وقنابل الحسين والمهدي وكربلاء والطف، وأكثر دولة أطلقت أسماء قديسيها على فصائل موت ككتائب أبي الفضل العباس وفاطميون وزاهرويات وحزب الله، وأخيراً أكثر بلد في العالم يحكم بالإعدام ويطبقه، وفي عام 2021 أنجزت إيران 315 إعداماً علنياً، وهو رقم يتجاوز نصف ما جرى من إعدامات في الكوكب الأرضي كله، وفي تقرير الأمم المتحدة بلغ عام 2021 مجموع ما نفذ في العالم كله 579 عملية إعدام في كل الكوكب.

ومن المؤلم أن الأحكام لا تأتي على خلفية جنايات وسرقة واغتصاب وقتل؛ بل تأتي على سياق اتهامات سياسية: تجسس، تخابر، إهانة الدولة، إهانة رموز الدولة، تآمر، خيانة، إهانة الدستور، إهانة الإسلام، وهي اتهامات سياسية وعنصرية بامتياز، وقد ازدهرت في ظل حكومة الدين في العصور الوسطى، وهي لا تختلف في شيء عن عناوين الزندقة والهرطقة ومحاربة الرب، وإهانة الرسول البابوي، والطعن في تعاليم الكنيسة المقدسة، وانتهاك قانون الإيمان! وللأسف تزدهر هذه التطورات القروسطية اليوم في وقت باتت العدالة الدولية تدعو إلى إلغاء عقوبة الإعدام في كل حال، وبات العالم المتحضر يشعر بأشد الخجل من ممارسات الأجداد في العصور الوسطى من نصب المشانق والمحارق ضد المخالفين في المذهب أو الدين، وصار المثقف الأوروبي يذكر قديسي العصور الوسطى الذين كرستهم الكنيسة شفعاء ورسلاً، على أنهم مجرمون محاربون قتلة شاركوا في الحروب الغاشمة التي تورطت فيها الكنيسة تحت اسم الرب وصليبه!

بصفتي إنساناً، لا أستطيع إلا أن أكون ضد عقوبة الموت مهما كانت مبرراتها، وربما أتقبل القصاص في حالات جد خاصة ومحدودة في الجرائم البشعة المتوحشة التي لا تبررها أي قناعة، ولكن بعد تطبيق القيود الأربعة عشرة التي فصلها القرآن والسنة لوقف عقوبة الإعدام، لا أستطيع أن أتصور رأسي تحت العمامة وأن أقبل لثانية واحدة أن أكون شريكاً في جريمة قتل، إن ذرة ضمير ستجعلني ضد الموت ولو صارت عمامتي مشنقتي!

لن أستطيع التأثير في القرار السياسي في مكتب الأمن القومي، ولا في مكتب ولاية الفقيه، ولا في مجلس تشخيص مصلحة النظام، ولكنني أطمع أن أؤثر على القاضي الذي يمثل الضمير والإيمان، وعلى كاتب المحكمة، وعلى الإعلامي المؤيد لتيار المقاومة، وعلى السجان وعلى الجلاد وعلى نجار المشنقة وصانع الحبال والعسكري في كتيبة الموت وعلى سائق الرافعة وعلى الصحفي وعلى كاتب التقرير الإعلامي.

الإنسان بنيان الله… ملعون من هدم بنيان الله! يجب أن يكون للمثقفين موقف واضح ضد الإعدام كله، وخاصة الإعدام السياسي، ويجب أن يعلم الشريك في عقوبة الإعدام سواء كان رئيساً أو وزيراً أو قاضياً أو فقيهاً أو جلاداً أنه شريك في الجريمة الثانية… وذات يوم سيدعى إلى المحكمة الجنائية الدولية لينال عقابه ولن يغني عنه شيئاً أن يقول إننا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا… تحت هذه العناوين الزئبقية اللئيمة: إهانة الدولة وإهانة رئيس الدولة، إضعاف الشعور القومي، تجسس، تخابر، خيانة، تآمر… يحكم النظام السوري الآن على أكثر من مليون سوري بعقوبة الموت… ومن المؤسف أن كثيراً منهم ذاقوا الموت بوحشية دون محاكمة ولا اتهام! ثم يتم تبرير القتل كله بعبارة حماية السيادة الوطنية، ومنع توهين نفسية الأمة، ومقاومة المؤامرة الكونية وهي المؤامرة التي لا يتردد النظام في اعتبار عدة ملايين من السوريين شركاء كاملين في تخطيطها وتنفيذها، وما زالت أسماء هؤلاء الملايين موجودة في قوائم الترصد على بوابات القدوم في البلد، ولا يوجد أي تطور في هذا الملف على الإطلاق، ولا يوجد أي قوائم معلنة للخونة والمتآمرين فهذه من أسرار الدولة العميقة، وعليك أن تحضر إلى منافذ الحدود، وحين تحضر إلى شباك موظف الجوازات فحظك يا بو الحظوظ، فإما أن تعبر إلى قاعة استلام الحقائب محفوفاً بالخوف والذعر أو تعبر مباشرة إلى سجن صيدنايا حيث تنتظر اسمك في القوائم المليونية للخونة والامبرياليين والمتآمرين وعملاء الصهيونية وأذناب الاستعمار!

مواجهة هذه الجرائم اللاإنسانية غير ممكنة دون تجريم كامل لكل ثقافة الموت، وطالما يجد الضابط والعسكري والسجان من يبرر له جرائمه ويحيمه فنحن لا نزال أبعد ما نكون عن حرية الإنسان وكرامته، وعن العودة بالوطن المنكوب إلى شاطئ النجاة، وسيستمر المجرمون في توحشهم فهم يقاومون المؤامرات والتآمر العالمي والمؤامرة الكونية، ويمكنني أن أقول بثقة إن الفقه الإسلامي يملك من الأدوات التأصيلية ما يقاوم بشدة كل أحكام الإعدام العبثية السياسية الجائرة، أو على الأقل إن فقهاء كبار استطاعوا أن يقاوموا كل هذه الميول الإعدامية، واستطاعوا أن يكتبوا باحترام عن ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت، تأسيساً على قاعدة القرآن الكريم: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]، فقط عندما يعلم البشر جميعاً أنه لا تبرير لجريمة قتل على الإطلاق، وأن أي شريك في إعدام إنسان هو شريك في جريمة كاملة، لا يبررها قضاء ولا سلطة، فقط في حالة كهذه سيتمرد الناس على أوامر السلطة الغاشمة وسيفضلون الخروج من وظائفهم على المثول أمام المحكمة الدولية ذات يوم، التي سترفض أي تبرير لارتكاب جرائم القتل تحت عنوان تنفيذ الأوامر والحفاظ على السيادة الوطنية.

Related posts

د.محمد حبش- لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني 1/12/2006

drmohammad

إرادة الحرب وغرائز السلام – عمر بن عبد العزيز

drmohammad

د.محمد حبش- الضريبة والزكاة … 3/4/2009

drmohammad