مقالات

المواطنة والمساواة مطالب أمريكية أم هدي نبوي؟

هل عرف الإسلام قيم المواطنة والمساواة في الحقوق؟ أم أننا نخترعها اليوم على خلاف قيم الإسلام الأولى كما يتهمنا تيار التشدد ودولة الخلافة؟

تعتبر مسألة المواطنة على رأس اهتمامات الباحثين في الشأن الإسلامي والسياسي في العالم، وذلك لأنها تعد شأناً محورياً في البناء الاجتماعي، وترسم المعايير التي يطبق بها مبدأ العدل والمساواة بين الناس، وهي تقدم نفسها حلاً جذرياً للمشاكل الناشئة من خلال منطق الاستعلاء الديني أو القومي أو العرقي، وهو الاستعلاء الذي يأتي عادة على رأس أسباب الحروب الأهلية الضارية.

ومع تطور المجتمع الإنساني فقد أصبحت الأفكار التي تطالب بنقاء العرق أو الإيديولوجييا مطالب غير واقعية في أي مكان من العالم، فقد تجاوز العالم عصر الكانتونات ودخل بقوة إلى عصر المصالح المشتركة والخيرات المتبادلة، وأصبحت قيم المواطنة على أساس المساواة في الحقوق والواجبات تحظى بإجماع المجتمع البشري، وترسم ملامح العلاقات المتوازنة في القرية الكونية.

ولكن ما هو رصيد منطق المواطنة في التراث الإسلامي؟ وهل ندعو لقيم المواطنة والمساواة تنفيذاً لرغبات أمريكا أم تنفيذاً لقيم الحق واقتداء بهدي رسول الله؟

بدأ النبي كفاحه في بناء الحياة في قراءة مختلفة للمشهد السياسي في الأرض فقد تطلع إلى العالم من حوله وكانت التجارب السابقة قد رسخت مبدأ الناس على دين ملوكها، وكان وصول ملك وثني إلى السلطة في أي مكان في الأرض إيذاناً بتحول المجتمع برمته إلى الوثنية وفق دين الملك، وكانت أي مخالفة لذلك تعني الحرب الأهلية والخوض في الدماء وعادة ما كان ذلك البطش ينتهي بانتصار الملك وسحق المخالف.

ولكن الرسول الكريم بدأ كفاحه من أفق آخر، فقد جاء بشريعة واضحة يؤكد كل سطر من سطورها مبدأ الحرية الدينية، وحق الإنسان في التفكير والتأمل إلى الغاية:

لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.

في دستور المدينة الذي كتبه النبي الكريم نصت العبارات الأولى على تحقيق شرط المواطنة الموضوعي الذي يخول كل من يحمل الوفاء للأرض أن يعيش فيها بغض النظر عن موقفه الديني، ومع أن اليهود كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا ، فإن النبي الكريم لم ير أن خلافهم معه في الدين يفسد حقهم وواجبهم في المواطنة في البلد التي يعيشون فيها، بل إن هذا المعنى نص عليه بوضوح دستور المدينة المنورة الذي كتبه النبي للتأكيد على حق اليهود في العيش في الوطن الإسلامي طالما كانوا أوفياء لحقوق المواطنة المشروعة، وهذا الدستور يعتبر أول دستور مكتوب عرفه العرب، وهو يضمن الحقوق المشروعة للمواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، ومما ورد فيه:

هذا ما عاهد عليه محمد يثرب وأهلها ومن أقام بها من الناس:

“إن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس؛ وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا ظالمين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم”

  إن قراءة هذا النص الدستوري يكشف لك إلى أي مدى قدم الإسلام للمواطنين الحقوق المتساوية بغض النظر عن الانتماء الديني وذلك في عصر كان لا يعرف شيئاً من هذا التسامح.

ويجب التنويه أن اليهود في الوقع لم يكونوا في حالة تقارب ديني مع المسلمين كما هو شأن المسيحيين بل إن القرآن الكريم نص بوضوح: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. 

ووفق هذه التفاقية وعلى الرغم من نكوث ثلاث قبائل النضير وقينقاع وقريظة فإن عدداً من اليهود ظلوا في المدينة المنورة إلى وفاة النبي الكريمe وعاشوا في وضع اقتصادي مريح، ومن أشهر الأحاديث في هذا السبيل أن النبي الكريم مات ودرعه مرهونة عند يهودي بدين كان قد اقترضه منه.

ويمكن أن نقرأ أيضاً في حياة النبي الكريم e موقفاً واضحاً في منح حقوق المواطنة التامة للناس من خلال الآية الكريمة: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم نم دياركم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون

ووفق هذه الآية فإن الموالاة والنصرة والتعاون مع غير المسلم ممكنة إذا هو كان من الذين لم يقاتلونا في الدين ولم يخرجونا من ديارنا وبمعنى آخر إذا لم يكن ذلك من أولئك الذين لا يحترمون المواطنة والمساواة.

ويجب البيان هنا أن هؤلاء الذين نزلت الآية الكريمة بالعدل والإحسان معهم ليسوا أهل الكتاب الذين جاء ديننا مصدقاً لما معهم، بل هم الوثنيون المشركون من قريش، الذين لا شك أبداً في كفرهم وفساد عقيدتهم،  والآية نص في وجوب معاملتهم بالعدل والإحسان على الرغم من الاختلاف الواضح في الدين بين الفريقين.

وفي موقف آخر يمكن أن نقرأ موقف النبي الكريم في الوعي بمبدأ المواطنة من خلال صلح الحديبية، فقد عقد النبي عهده مع قريش على أساس سياسي لا على أساس ديني، وأقر بالموافقة على إيقاف التبشير بالإسلام في أرض مكة، بل وافق على رد من جاءه مسلماً من قريش إذا لم يكن قد حصل على موافقة عشيرته (من المشركين بالطبع)، ولكن أهم ما في العهد كان نصه على أن من شاء أن يدخل في حلف محمد وعهده دخل فيه ومن شاء أن يدخل في حلف قريش وعهدها دخل فيه، ودخلت خزاعة في عهد النبي الكريم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وهكذا فقد أصبح لخزاعة وهم وثنيون مشركون سائر الحقوق السياسية التي كان يتمتع بها أهل المدينة من المواطنة.

بل إن فتح مكة وهو أعظم فتح في تاريخ الإسلام إنما كان في الحقيقة انتصاراً لقبيلة خزاعة الذين كانوا مواطنين غير مسلمين في الدولة، ولكن حقوقهم كانت كاملة غير منقوضة.

وكما هو معلوم في كتب السيرة فإن النبي الكريم سير جيشاً من عشرة آلاف مقاتل من أجل نصرة هؤلاء المواطنين مع الاتفاق أن معظمهم كانوا لا يزالون على دين قريش.

هل ستقنعنا هذه المواقف المتقدمة للرسول الكريم قبل أربعة عشر قرناً أن الدولة الناجحة هي تلك التي تتسامى على الانتماء الديني وتلتزم معايير المواطنة والمساواة والحقوق؟

Related posts

د.محمد حبش-ويسألونك عن الأهلة 9/9/2007

drmohammad

إخاء الأديان

drmohammad

الاستبداد والكهنوت… تحالف أم تخادم؟

drmohammad