مقالات

د.محمد حبش- سورية عاصمة الروح … لقاء في مهرجان النور…1/5/2009

سوريا عاصمة الروح عن محاضرة في كنيسة حلب

مهرجان النور اسم للقاء فريد أطلقته مطرانية حلب للروم الأرثوذكس لجمهور الرعية وذلك للبحث عن المشترك بين أبناء الوطن الواحد في بناء حاضرهم ومستقبلهم.
لا أجهل في الواقع حجم التكريم الذي خصني به العزيز المبجل المطران بولس يازجي وهو يقدم إلى جمهور حلب كتابي الجديد سورية عاصمة الروح نجمة لمحمد ونجمة للمسيح، لقد كانت عيون حلب تشهد ذلك المهرجان الروحي، وكان القوم الذين يشهدون هذا اللقاء الكبير من نخبة المثقفين الذين قصدهم أبو تمام بقوله:‏
“وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبـه ولعـله أدرى به”‏
تحدث المطران العزيز عن المشترك بين الإسلام والمسيحية في حقل العرفان الإسلامي وكان مدهشاً أن يقدم الرجل قراءة واعية للمشترك بين الخطاب الإسلامي والخطاب المسيحي في حقل العرفان، وبالفعل عادت بي الذاكرة إلى مطالعاتي في طلب العلم وأنا أقرأ أخبار الرهبان والكهنة بين أخبار السادة الصوفية، حيث كنا نروي بسعادة شهادات الراهب بحيرا إلى جوار حنيفية ورقة بن نوفل وزيد بن عمر بن نفيل، وعرفان رابعة العدوية إلى جوار سمعان العامودي العجائبي وإشراق ابن عربي إلى جوار توما الأكويني وفي كل ذلك كنا نلتمس التأمل مع السالكين إلى الله في روحانية الكتاب المقدس في حقل العرفان الإسلامي والمسيحي، في حقل العرفان لا تظهر الحواجز التي ألقاها الدهر بين أتباع الأديان ويتحد الكل في البحث عن الإشراق على دروب السالكين إلى الله.‏
الشواهد التاريخية للحوار بين الإسلام والمسيحية أكثر من أن تحصى، عندما اختار النبي الكريم أن يتوجه بقبلته صوب بيت المقدس بدلاً من قبلة أهله وقومه كانت هذه إيماءة واضحة وجلية يرجو من خلالها بناء جسور الثقة والمودة مع الذين يؤمنون بالله من أتباع عيسى بن مريم، وفي أربعة عشر موضعاً في الكتاب العزيز تكررت عبارة مصدقاً لما بين يديه، إنه لم يقل مبطلاً أو ملغياً أو ناسفاً، لقد قال بوضوح مصدقاً ومتمماً وهادياً، جاء مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وهي إشارة حكيمة تشمل النبوة السابقة والحمة اللاحقة والحمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها.‏
وعندما تعرض أصحابه للاضطهاد من قبل مشركي قريش قال لهم: (اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد) وبالفعل ذهبوا إلى الحبشة، ولم تمض فترة طويلة حتى كان المسلمون يجولون في الحبشة في غاية الأمان، وعندما عرض على النجاشي بعض المتمردين عليه كان الصحابة في كتيبة واحدة يقاتلون إلى جانب النجاشي، ولقد ارتقى التعاون الفكري إلى رتبة التعاون العسكري والوفاء للدولة التي احتضنتهم وآوتهم.‏
ما أريد هنا أن أؤكده هنا أن النجاشي لم يدخل في الإسلام، النجاشي قال: إن هذا وما جاء به عيسى بن مريم يخرج من مشكاة واحدة، طبعا هناك روايات في غير الكتب الستة أن النجاشي نطق بالشهادتين، ولم توجد أي رواية تدل أن النجاشي صلى صلاتنا، أو صام صيامنا، أو حج حجنا، أو هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا توجد أي رواية تدل على أنه استقدم خبراء إسلاميين من المدينة من أجل أن يعيد تأصيل الدستور، وأن يشرع وفق الأحكام الإسلامية، كان غاية ما فعله أنه رأى في الإسلام وفي مقاصد الشريعة التي جاء بها النبي الكريم أنها تماثل وتطابق الشريعة التي جاء بها المسيح عليه السلام، وكان هذا يكفيه، وعندما مات لم يتردد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أصحابه للصلاة عليه، ففي صحيح البخاري أن النبي نعى لأصحابه النجاشي صاحب الحبشة اليوم الذي مات فيه، فقال: (استغفروا لأخيكم ) وفي رواية أخرى يقول النبي الكريم: “مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة”
وعندما صلى عليه قال بعض الأصحاب: أنصلي على علج من علوج الروم لم يدخل في ديننا، ولم يهاجر إلينا؟! فأنزل الله تعالى: « وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب » ومرة أخرى كرر بعض الصحابة الاعتراض إياه وقالوا: يارسول الله ! إن الرجل أصلا لم يكن يصلي إلى الكعبة، كان يصلي إلى بيت المقدس ولم يكن يتوجه إلى الكعبة، فأنزل الله تعالى: « ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم »‏
لا يوجد في أدبيات الأديان خطاب تسامح أوسع من هذا، تشرق به القلوب ويتسع به فؤاد المؤمن لرضوان المحبة.‏
لقد كانت ندوة لقاء للروح بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وحين تكررت الأسئلة من الحاضرين حول قصة الميلاد أشار المطران العزيز إلى قصة الميلاد في القرآن الكريم وكانت مناسبة طيبة لي أن أقدمها من النص القرآني تلاوة مباركة كما نقرؤها في الصلاة، وكانت فرصة فريدة لي أقدم فيها هوى قلبي في قراءة القرآن الكريم في هذا البيت الفريد من بيوت الله في الأرض، وحين رتلت الآيات الكريمة في قاعة الكنيسة رأيت بعيني أولئك الذين إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، ورأيت بعيني أولئك الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون.‏
هنا في سورية عاصمة الروح التي تحج إليها أشواق المؤمنين في الأرض من أبناء محمد وأبناء المسيح، وهم يطوفون بأشواقهم بين الشام الشريف وسورية المقدسة أرض المحشر والنشر، وترسم تلك الأشواق شكل الإخاء الروحي الذي لا يتجلى في مكان في الأرض كما يتجلى في سورية.‏
في المسجد الأموي اختار الخلفاء أن يكرسوا ضريح النبي الكريم يحيى عليه السلام على الرغم من أن عادة المسلمين إخراج القبور من المساجد ولكن سائر فقهاء الإسلام وعلمائه رغبوا أن يبقى قبر يحيى عليه السلام أو يوحنا المعمدان كما يسميه أبناء السيد المسيح في قلب الجامع الأموي، في رسالة حب واضحة، حيث يسكن قديس مسيحي في قلب مسجد إسلامي!! ويزوره باحترام أبناء محمد وأبناء المسيح يشهدون الله على الإخاء الفريد الذي قدمه الأنبياء في الأرض لبناء المحبة والسلام.‏
إنه معنى فريد يتأكد حضوره عندما تعود قافلاً من حلب فتمر بدير سمعان الشرقي الذي يحمل ذكرى القديس الراهب سمعان العمودي، الذي وعظ أربعين عاماً على عمود أقام فيه غرفة صغيرة، وفي معرة النعمان وفي الدير الشرقي الذي بناه أهل المعرة وفاء لذكرى القديس سمعان العمودي اختار الخليفة الراشدي عمر بن عبد العزيز أن يكون رحيله إلى لقاء ربه، ولا يزال قبره في الدير شاهداً على مشهد الإخاء الخالد بين أبناء محمد وأبناء المسيح في هذه الأرض الطيبة.‏
ولكن ما تعلمته في هذه الرحلة أن فاطمة بنت عبد الملك وهي زوجة عمر بن عبد العزيز وهي بنت خليفة وأخت خليفة وزوجة خليفة، وحين واجهت مرض الموت بعد رحيل زوجها بسنين طويلة اختارت هي الأخرى أن ترقد هناك في الدير إلى جوار زوجها عمر في رسالة فريدة من الإخاء والمحبة بين أبناء الرسالتين.‏
عمر بن عبد العزيز وفاطمة بنت عبد الملك في دير سمعان، ويوحنا المعمدان في مسجد بني أمية، وقصة الميلاد في سورة مريم، ومولد السيدة زينب في كنيسة محردة، ومهرجان النور وتلاوة القرآن الكريم في كنيسة حلب، كل ذلك يؤكد مكانة سورية في العالم عاصمة أبدية للروح.‏
إنه شيء يحصل فقط في سورية

Related posts

د.محمد حبش- في عيد الميلاد : نعم .. سورية ميقات الأرض .. الأنبياء مروا من هنا 28/12/2007

drmohammad

كورونا.. دعوة للوعي

drmohammad

ميلاد مجيد

drmohammad

Leave a Comment