على ضفاف أثينا
د.محمد حبش
منذ نحو عشرين عاماً يقيم مركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كاليفورنيا UCLA هذا الملتقى السياسي الفريد في أثينا بالتعاون مع وزارة الخارجية اليونانية، ويحضره المئات من المفكرين والإعلاميين وصناع القرار في الشرق الأوسط ليتحاوروا مباشرة مع مجموعة من السياسيين والدبلوماسيين الأمريكان المشاركين في صناعة السياسة الأمريكية.
كانت مشاركتنا في المؤتمر مفاجئة لرعاة المؤتمر الذين تعودوا على رفضنا للمشاركة في هكذا لقاءات، ولكن المشاركة موقف والمقاطعة موقف، والكراسي الفارغة لا تتكلم، ومن حقنا أن نقدم قراءتنا للأحداث على منبر من المنابر بالغة التأثير في الفضاء الاستراتيجي العالمي، حين تكون الرسالة ممكنة ومن واجبنا أن نرفض المشاركة حين يكون حضورنا محض ديكور تجميلي لا يقدم ولا يؤخر.
الأمريكيون الذين تم اختيارهم لهذا اللقاء من عتاة اليمين المتطرف ومعظمهم خدم في المنطقة سفيراً للأمريكيين وكان في خدمة إسرائيل أكثر من الصهاينة أنفسهم، وهم يجيدون الكلام بدبلوماسية باردة، على أساس أن الحلول جاهزة والمسألة مسألة وقت، ولا يتطلب الأمر إلا الاعتراف بالدولة اليهودية وحقها في الوجود والحياة وبناء المفاعلات النووية والانشطارية والجرثومية، وتأمين الهدوء الفلسطيني على حدودها، وعدم إزعاج المستوطنين الأبرياء، وبعد ذلك يمكن النظر في الموافقة على بقاء بعض الفلسطينيين على أرض إسرائيل الكبرى بين الضفة والقطاع في سلطة مؤقتة بدون جيش ولا برلمان ولا أحزاب ولا مطارات ولا وزارة دفاع ولا خارجية ولا سياحة، وستتم الموافقة على الأغلب بتزويد بعض الموظفين الحكوميين المرضي عنهم بسكاكين وهراوات لتنظيم الأمن العام في أراضي هذه السلطة المستباحة! كما يمكن أن تساهم إسرائيل في إرسال وجبات جاهزة لملايين اللاجئين الفلسطينيين والاعتراف بدولة فلسطينية منخورة حتى العظم بالجواسيس والعملاء.
كان معظم المتحدثين بالطبع يكررون عبارة كيسنجر المأثورة لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا، ولكن مشهدهم يذكرني بقول الأول اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، فإذا كان المؤكد أن لا سلام بدون سوريا، فهل يمكن أن يكون لأي حوار من هذا النوع معنى إذا غابت عنه سوريا؟
قلت في مداخلتي: لقد عانت سوريا معاناة كثيرة من السياسة المتهورة للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي بوش، لقد قاد الرجل دبلوماسيته في الشرق الأوسط على أساس متهور مجنون، وازداد غضبه على سوريا بعد أن فشل مشروعه في العراق، وكان قطب الرحى في سياسته تجاه سوريا قوله اتركوا سوريا فالنظام هناك ضعيف وسيسقط تلقائياً، وخلال سنوات عكف بالتناوب مع ممستشارته ووزيرته غونداليزا رايس على إطلاق التهديدات العلنية والمواربة ضد سوريا، وهكذا فقد كانت الماكينة المالية الجبارة في الشرق الأوسط تبذل المليارات في صناعة الأوهام وشراء الضمائر، ولكن النتيجة كانت سلسلة من الكوارث على المنطقة وعلى العالم.
لقد اتهمت أمريكا سوريا علناً بالاغتيالات في لبنان، وسعى في خدمة مشروعها فريق من فاقدي الضمير يفبركون شهود الزور، تم افتضاحهم علناً ووجهوا أسوأ طعنة غادرة لمصداقية الأسرة الدولية ومجلس الأمن والمحكمة الدولية.
مضت سنوات الحصار الظالم وتكرست حلقة الحصار المجنون التي مارستها أمريكا ضد سوريا وظهر أن الاستقرار في سوريا أكبر بكثير مما راهن عليه الأمريكيون ولكن أمريكا لم تعتذر، ولم تقل شيئاً للضمائر التي تم شراؤها وإعدادها لإعلان البلاغ رقم واحد؟
في عام 2007 دخلت الطائرات الأمريكية مباشرة إلى الأراضي السورية وضربت في مدينة البوكمال وقتلت أفراد أسرة من الغلابى الكادحين، ولكن أمريكا لم تعتذر ولم تجد سبباً يدفعها لإنصاف الضحايا والاعتذار منهم، طبعاً لم نكن نطمع أبداً أن يعطى الضحية مبلغ عشرة ملايين دولار كما قبضت أمريكا في لوكربي عداً ونقداً، ولكن موقفاً من الاعتذار والتعويض هو أدنى ما تفرضه طبيعة العلاقات والأخلاق الدولية وحقوق الإنسان وغير ذلك من الشعارات التي ترفعها أمريكا باستمرار.
سوريا ليس في حالة حرب مع أمريكا، هناك علاقات فاترة أو باردة أو جامدة أو أي شيء من هذا القبيل ولكن فتور العلاقة لا يبيح لك أن تقتحم أرض الآخرين وتقتل في رعاياهم ثم لا تجد بعد ذلك ما تبرر به فعلتك، إلا تذكيرنا بالمغامر الأمريكي في غابات تكساس الذي يطلق النار ثم يفكر بعد ذلك.
إن أخطاء السياسة الأمريكية الكارثية لا تتوقف عند حدود ما يدفعه الأمريكيون وقد خرج دافعو الضرائب الأمريكيون مراراً إلى الشوارع يطالبون السيد بوش بوقف مغامراته المجنونة في الشرق الأوسط
ولكن هل شعر الأمريكيون بأن السوري يدفع ضرائب الخطايا الأمريكية ربما أكثر من الأمريكي نفسه؟
يدفع الأمريكي الضرائب لحكومته ويتحمل أخطاء السياسية الأمريكية لأنها أولاً اختياره ورغبته، وثانياً لأنه مستفيد من عوائد هذه الضرائب وما تأتي به.
ولكن لماذا يدفع السوري هذه الضرائب؟ وليس هو الذي اختار هذه الإدارة ثم لا يجني منها إلا العلقم والحصرم، شريك في مغارمها بريء من مغانمها؟
منذ ستين عاماً تؤوي سوريا أكثر من نصف مليون لاجئ فلسطيني وهناك عدد مماثل في لبنان ، ومع أننا ننظر إلى المسألة بدافع إيماني يجزم بأن الخلق عيال الله وان الرزق رزق الله، وبدافع قومي يجعلنا نشترك مع بني قحطان وعدنان وعاد وجرهم وسبا وكهلان وفينيق وآرام الخبز والتمرة، ولكن أثر هذا اللجوء الفلسطيني على الموازنة السورية مستمر منذ أكثر من ستين عاماً، وبالتالي فهذه المظالم نتحملها بسبب أن الأمريكي راعي السلام لا يفعل شيئاً للجم أطماع الإسرائيليين ودفعهم إلى الاستجابة لشرط السلام المعلن في مدريد بصيغة يفهمها الطفل الصغير: الأرض مقابل السلام.
بهد مرور نحو عشرين سنة على مؤتمر السلام في مدريد فإن الجماعة لا يزالون يتجادلون بيزنطياً في تفسير مصطلح: الأرض مقابل السلام، وبين تفسير رابين وتفسير ليبرمان كما بين فيورباخ وتوماس الأكويني، ومع ذلك فهم يقولون نحن مع استحقاق السلام والمسألة مسألة تفسير لشعار مؤتمر مدريد.
في أعقاب مغامراته الهرمجدونية في العراق قذفت الحرب المجنونة نحو مليوني لاجئ عراقي إلى دمشق، وفي حين ختمت دول عربية حليفة لأمريكا حدودها بالشمع الأحمر في وجه العراقيين فإن سوريا آوت نحو مليوني لاجئ عراقي، كأول طلائع الجنة الديمقراطية الموعودة في أرض الرافدين، وفق ما بشرت به مزامير بوش، وبوسع كل خبير استراتيجي أن يقدر ما يعنيه ذلك من رهق على موازنة بلد لا تزيد الطاقة العاملة فيها على خمسة ملايين، لا نستطيع بالطبع أن نخلع جلودنا ونتصرف بدون مسؤولية في محاسبتنا للمستقبل!!
من يدفع ثمن هذه المغامرات كلها؟ وحين تأتي إدارة جديدة تقول علناً لقد كنا في ضلال مبين، أليس من العقل والواجب أن تصحح أخطاء الأولين، وتقوم بمسؤوليتها في إرغام الإسرائيلي على الاستجابة لاستحقاق السلام، وهل من المعقول أن تمضي الإدارة الجديدة نصف عمرها وهي تتردد في فتح صفحة جديدة مع الإدارات الحقيقية وإرسال سفيرها إلى دمشق.
كانت رسالتنا في المؤتمر واضحة وجريئة، ووصلت الرسالة بوضوح للأمريكيين الذين كانوا مكلفين بإعداد التقرير المناسب عن هذا المؤتمر لإدارتهم، ولست أدري هل يحق لي القول إن هذه المشاركة الإيجابية في لقاء أثينا سرعت في صدور المرسوم الأمريكي الأخير بتسمية روبرت فورد سفيراً لأمريكا في سوريا، وآمل بالطبع أن تكون هذه أول المقالات التي يقرؤها فورد في سوريا، وأن يبدأ برنامجه المنتظر في تصحيح السياسة الأمريكية تجاه الدول المقاومة للمشروع الصهيوني والمطالبة بالحق العربي في أرض فلسطين، وأن يدرك تماماً المعنى الأخلاقي لموقف سوريا الثابت منذ أربعين عاماً في دعم المقاومة ورفض المشروع الصهيوني، والاستجابة في الوقت نفسه للسلام خياراً استراتيجياً لحل مشكلة الشرق الأوسط.