Uncategorized

د.محمد حبش- الترابي… بين الدين والسياسة 6/3/2016

رحل الشيخ حسن الترابي بعد حياة طويلة حافلة بالجدل والعناء، ترسم ملامحها جدل الصراع الحضاري، وخصام الجديد والعتيق، ونزاع الدين والسياسة.
لم يكن الترابي فقيهاً تقليدياً كسائر الفقهاء، كان صوتاً صارخاً في برية الفقه الإسلامي يطالب بثورة عاصفة تقلب الأيقونات جميعاً، وتعيد للعقل اعتباره ومكانه في مواجهة تغول التراث.
لقد واجه استبداداً مزدوجاً ودفع أثماناً مضاعفة، فقد صاح في وجه الاستبداد السياسي وذاق كل سجونه، ولم يقم نظام حكم في السودان إلا دفع بالترابي الى سجونه، حتى نظام الجبهة الاسلامية للانقاذ الذيأعلنه مرشداً وزعيماً فكريا ورئيسا لبرلمانه سرعان ما انقلب عليه وانتهى به الأمر سجيناً في عنابره لسنوات عديدة.
كما واجه بصلابة رموز الاستبداد الديني وأعاد مكانة العقل في مواجهة النص، دون أن يخلع عمامته التي ترتل بانتظام وكفاءة نصوص القرآن الكريم بقراءاته السبع المتواترة وما طاف حولها من علوم الرواية والدراية.
لا أريد الحديث عن تجربته السياسية فهذا جدل يفسد رونق الكتابة فيه مجدداً وفقيهاً ثائراً، فالرجل الذي تخرج من جامعة أكسفورد في الماجستير والدكتوراه في الصوربون وأتقن أربع لغات عالمية أساسية الفرنسية والانكليزية والألمانية إلى جانب لغته الأم كان يتقن تماما ثقافة الديمقراطية والحضارة وكان يعيش في الواقع عقلاً كنديا وظروفاً سودانية.
موقفه السياسي لا يحسد عليه، ولكنني أقرؤه في خيبته على نهح ابن رشد الذي عرفه العالم فقيها فيلسوفاً عميقاً، أيقظ الغرب الأوروبي من سبات العصور الوسطى، ولكنه بدا في ممارساته السياسية ساذجاً مضحكاً، وسرعان ما وجد نفسه في خدمة السلاطين وتالياً في سجونهم، والحكام الذين منحوه الأوسمة هم نفسهم الذين أوصدوا عليه أبواب السحون وأحرقوا كتبه وثقافته.
لو قرأت ابن رشد في الفلسفة لوقفت أمام عملاق ليس له نظير، ولكن لو قرأته في السياسة لخجلت من ممارسات ساذجة وسطحية لا تليق بسمعته ومكانته، ومع أنه كان ينظر للسياسيين ولكنه لم يكن يمتلك يقظتهم ولم يحسن قراءة المجتمع السياسي كما ينبغي فدفع من حياته وكرامته ثمناً لهذا الطموح الابله.
أقام ابن رشد في كنف السلطان أبي يعقوب الموحدي نحو عشر سنوات يعتبر الفقيه المحظي المطاع، وكان السلطان يرسله في المهام الخاصة والشخصية، وكان يتقبل ذلك بطيبة قلب رجاء ان يساعده ذلك في نشر رسالته، وحين رحل السلطان أبو يعقوب وخلفه المنصور الموحدي زاده حظوة في أيامه الأولى ولكنه انقلب عليه وأمر بنفيه وتلامذته إلى قرية اليسانة التي كان أغلب سكانها من اليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشورًا إلى المسلمين كافَّة ينهاهم عن قراءة كتبه في الفلسفة، ويعد بالويل والثبور كل من تجرأ على رواية شيء من ضلالات ابن رشد، وبقي بتلك القرية لمدة سنتين، ومع أنه حصل على عفو من السلطان بعد ذلك ولكنه عناءه وشراده لم ينته وسرعان ما أدركته المنية ودفن في مراكش بعيداً عن ديار الأندلس التي شهدت إبداعه وفكره وتالقه.
لست معحباً بالترابي فينشاكه السياسيوهو ينتقل من عناء إلى عناء يرسم صورة طموح عاثر مضطرب، وقد تقلب في المواقع من وزير للخارجية ثم قائداً لثورة انقاذ ورئيساً لبرلمانها إلى سجين في سجون هذه الثورة إياها، وهدف إعلامي مباشر لرموزها البارزين من رفاقه وتلامذته ومريديه.
ولكنني أقف باحترام عميق امام رسالته الجريئة في تجديد الفقه الإسلامي ونجاحه في أعادة الاعتبار لمدرسة العقل في الإسلام بعد أن تغولت مدرسة النص في القرن الاخير إلى مستوى صارم من الظاهرية لم يعرفه العالم الإسلامي من قبل.
ربما كان الترابي أول من تجرأ على القول بأن النص الديني نور يهدي وليس قيداً ياسر، وأن الفقهاء يملكون من الصلاحيات في التنوير والتجديد مثل ما كان يملكه الأنبياء الذين كانوا يتعاقبون في إصلاح أقوامهم ويحملون لك لجيل جديد ما يناسبهم من الشريعة والحكمة.
وفي موقف لافت لم يكرر الترابيما يقوله التجديديون بانه يعملون للعودة إلى أصول الإسلام ومنابعه الأولى، بل تحدث بوضوح أن الإسلام كأي ذات حية يغتني بالتطوير والإضافة، وان الشيغة الأولى التي تركها الرسول ليست إلا النواة التي مضت تكتمل كل يوم، وأننا نملك اليوم إسلاماً أوفر غنى وثراء مما ملكه الأولون، وبذلك فإنه تجاوز الحديث عن تجديد الدين إلى تطويره، واعتبر أن الزمن والتجارب الإنسانية هي قيمة مضافة للغسلام تزيد في غناه وثرائه ونبله.
لقد تحدث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان من أفق إسلامي بصير، وكشف خطوط التقاء مذهلة بين القيم الإسلامية وبين قيم الديمقراطية الحديثة كما علمها فولتير وروسو ومونتسكيو وجون لوك وتوماس هوبز، وحين كان يتحدث عن فكرهم وفلسفتهم كان يدهش محاوريه من الجامعات الغربية بقوة اطلاعه وإحاطته بما كتبوه.
وأنكر الترابي بشكل واضح مبدأ قتل المرتد الذي تؤصل له كل المعاهد الدينية تقريباً واعتبر ذلك مضادة لروح الإسلام في منع الاكراه في الدين، وسخر بشكل لاذع من مدارس الفقه الإسلامي التي تؤسس لقتل المرتد ثم تتحدث عن الحرية الدينية في الإسلام..
وفي حوار الأديان أطلق مشروعه الجريء عبر الدعوة إلى جيهة أهل الكتاب وهي جبهة تقوم على العمل المشترك وينص ميثاقها على أن جميع أهل الكتاب سواءً كان الكتاب قرآناً أم توراة أم إنجيلاً هم مؤمنون، وهم جميعاً يعبدون الله ويسجدون له، لذلك يجب التعاون فيما بينهم والتوحد والوقوف في وجه اللادينيين.
وكان موقفه صادماً للمجتمع السوداني المحافظ حين اعلن بوضوح عن دعوته للاسلام دينا بين الاديان وليس دينا فوق الاديان وأن المسلمين أمة بين الأمم وليسوا أمة فوق الأمم.
وفي إطار المرأة كانت مواقفه الأكثر جدلاً وتحرراً، فقد تحدث عن الحجاب كأدب إسلامي كريم ولكنه لم يقبل أبداً اعتباره من أصول الدين أو شعائره، وسخر من ثقافة لا تزال تمنع مصافحة الرجال والنساء وتدعي أنها تمارس المساواة، ولم يقف توقه لمساواة المراة بالرجل عند هذا بل أعلن بوضوح تأييده لزواج المراة بمن تحب من الرجال سواء كان مسلماً أو غير مسلم، وكانت هذه الفتوى صادمة ومزلزلة فهي تخالف كل قوانين الأحوال الشخصية السائدة في كل البلادالعربية، وأصبح الرجل محل اهتمام كل المؤسسات العاملة من أجل حرية المرأة، وفي حملات تحريم ختان المراة سارت فتواه في كل مكان وأعلن أنها ختان المراة عمل مخالف للعقل والعلم والواقع ومناهض بالمطلق لحرية النساء وكرامتهن.
وفي موقف أكثر فرادة أعلن الترابي تأييده لدخول المرأة في سلك التوجيه الديني وجدارتها لمهمة الإمامة والخطابة، وحيا مريم العذراء التي استطاعت أن تكسر الكهنوت الصارم الذي كان يمنع المرأة من المشاركة في خدمة العيكل والمشاركة في الحياة العامة.
ولم يتردد الترابي ابداً في تصريحات متتالية في تأكيد حق المرأة في تولي كل المناصب في الدولة بما فيها القضاء والنيابة ورئاسة الدولة، واعتبر ما ورد من نهي عن رئاسة المرأة محكوماً بظروف مختلفة تماما عن ظروف الواقع الحالي.
وفي إطار الحدود الشرعية كان للترابي موقف جريء وشجاع حيث راى أن الفهم الصحيح للعقوبات في الإسلام يجعلنا نمتنع تماما عن تنفيذ الحدود التقليدية من قطع ليد السارق ورجم للزاني وصلب للمحارب وغيرها، واعتبر أن القراءة العميقة لروح الإسلام وتجدده وتطوره تسمح بإعاد كتابة قانون عصري للعقوبات يؤكد على ردع المحرمات في الشريعة بأساليب أكثر تحضراً وعصرانية، وأعلن تأييده لتحويل العقاب من التعذيب الجسدي بالقطع والجلد والرحم إلى عقوبات إصلاحية تنسجم مع الحضارة الحديثة وتنسجم أولا مع روح الإسلام.
وتحدث الترابي بوضوح عن الروح العلمانية في الإسلام وأعلن تأييده لعلمنة الدولة بمعنى تمييز الدين عن السياسة واعتبار الفقه الإسلامي تراثاً غنياً للأمة يسهم في تشريعاتها دون أن يحتكر الوعي التشريعي لصالحه، ونادى بها فقهاً بين الفقه العالمي وليس فقهاً فوق تجارب الإنسانية.
سيكتب الكثير عن الرجل الذي ظل نصف قرن يشغل العالم الإسلامي بمواقفه في الدين والسياسة، وسيذكره التاريخ مفكراً كبيراً، ولكنه لن ينسى أيضاً أنه ارتكب السياسة بقماطها العربي، ونال منها ونالت منه، ولكنه رحل عن الدنيا ونصيبه من سجونها أكثر من نصيبه من قصورها، ورصيده من المغارم فيها أكبر من رصيده من المغانم.
سيكون الترابي مصدراً ملهماً للثورة السورية وهي تسجل انتقالها من الديني إلى الوطني، وربما كانت فتاويه أكثر فتاوى الواقع إلحاحاً وضرورة في الحوار مع التيار الإسلامي الثائر الذي يريد أن يبقى في فلك الشريعة ولكنه لا يريد أن يخرج من روح العصر.

Related posts

د.محمد حبش-مولد الأنبياء

drmohammad

النبي الديمقراطي

drmohammad

د.محمد حبش- يوم الهجرة…ملامح الكفاح الإنساني 2/3/2006

drmohammad

Leave a Comment