Uncategorized

في وداع الشيخ كفتارو/مقالة نشرت بتاريخ10/9/204

                              في وداع الشيخ كفتارو                            

رسالة الإخاء الإنساني

 

مع انه كان لقاء دقائق في حجرة العناية المركزة ولكن بوسعي أن أنقل لك الكثير مما دار في هذا اللقاء، مما نطقت به الشفتان، وخفق له القلب.

لم أكن اعلم وأنا أودعه في دار الشفاء آخر شهر آب قبل سفري إلى البرازيل أن هذا سيكون آخر عهدي به من الدنيا وأن كلماته البسيطة ستبقى آخر ما تسجله الذاكرة من كلمات الرجل الذي ترك بصمته واضحة في ضمير الشام، وقدم إرهاصاً كافياً لولادة خطاب إسلامي مستنير.

حين خلوت به، وكانت ساعة نادرة أن يتاح لك الجلوس إليه في السنوات الأخيرة من عمره، قلت له أنا ماض إلى أفق آخر في العالم الجديد بالرسالة التي تعودت أن أحملها لأمة إسلامية تعاني ما تعانيه وتكابد ما تكابده في كل أفق.

على الرغم من وضعه الصحي الدقيق ولكنه لم يكن ليوفر النصح والموعظة، وراح يتحدث عن مستقبل الرسالة وخلود الإسلام، ودعا لي بالتوفيق والسداد.

كان يثوي في الفراش الذي ثوى عليه تاريخ نصف قرن صاخب كان هو فيه على رأس المؤسسة الدينية في الشام، ولكن كان له في الواقع شغل من باب آخر، لا علاقة له بالموقع الرسمي، وإنما تحمله إليه آماله التي عاش لأجلها حين كان يتطلع إلى إطلاق رسالة التنوير والتجديد.

لم يكن يجهل أبداً أنه في رسالته التنويرية سيواجه جحافل التعصب والتخلف المزمن، ولأجل ذلك لقي الكثير من العنت وتحمل الشائعات التي لم تدع شيئاً في حياته إلا استهدفته، وكان كالطود في ثباته من أجل مواقفه

ليس سهلاً فقبل بدئك فارجع    يرفض البحر أن يقول لماذا

موقع الدرة الفريدة صعب        وخلال الطريق تدري لماذا

عرفته في طفولتي يوم كان يطلق رسالته في الإخاء الإنساني ويطير من أفق إلى أفق، يبشر بكلمة واحدة: الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره، كان يلقى في ذلك أشد العناء، وحين كنا نصنف الكتب عن الشيخ في سيرة وحياته وكفاحه كان آخرون يحشدون التواقيع لإثبات خروجه عن الثوابت الإسلامية، خاصة عقب لقائه بالبابا وكلمته في ميلانو، ولكن الرجل لم يبدل من رسالته وسياسته، وتخير أن يكون خطابه واحداً الإنسان أخو الإنسان أحب أن كره، وحين اطلعت يومذاك على المعروض الذي حرروه عام 1985ضد رسالته، يتهمونه فيه بما شاء الحسد من تهم ظالمة كدت أفقد الأمل من إصلاح هكذا أمة تستنفر لمحاربة التنوير والتجديد وتستخدم المساجد والمنابر للطعن في العمائم، ولكنه كان يحمل رأياً آخر، قلت له يومذاك: أين نمضي أيها الشيخ! إن خطابكم في الإخاء يواجه حرباً ضروساً ويبدو أنه لن يبلغ موقعه الذي تبتغيه؟ قال لي: ومتى كان الإصلاح والتنوير يستقبل على البسط الحمراء وتفرش له الورود، إنها يا بني درب الأنبياء، وهل هناك من تهمة لم يسمعها النبي بأذنيه: مجنون، ساحر، كذاب، مفتري، ثم قال لي أبياتاً من الشعر وأمرني أن أكتبها بين يديه ولا زلت أحتفظ بها:

والله لو صحب الإنسان جبريلاً     لم يسلم المرء من قال ومن قيلا

قد قيل في الله أشياء مفرقة           تتلى إذا رتل القرآن ترتيلاً

قد قيل إن له نسلاً وصاحبة         وزوجة ورووا فيها الأقاويلا

وذاك قولهم في الله ربهم             فكيف إن قيل فبنا بعض ما قيلا

إنها رسالة البلاغ، لا يمكن أن تمر بدون أهوال، ولكن الدهر فيما يأتي من الأيام هو الذي يقول فيها الكلمة الفصل.

وصحبته إلى ليبيا والسودان وإيران وأمريكا والسعودية، ومثلته في مصر ومالي وليبيا وأمريكا وموسكو ولبنان والرباط، وفي ذلك كله كانت كلمته واحدة الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.

في الواقع إن رسالة الإخاء الإنساني التي حملها الشيخ خلال حياته الطويلة تحتاج إلى تأمل ودراسة، وقد أفردت لذلك كتابي: الشيخ أحمد كفتارو ومنهجه في الإصلاح والتجديد، الذي طبع أربع مرات بنحو ستمائة صفحة وقدم الشيخ بنفسه آخر طبعاته، وفيها توجهت بالنداء إلى أبناء الشيخ ومحبيه أن يقرؤوا غاية رسالته على الوجه الذي ضحى من أجله ولقي في سبيله العناء، وأن لا ترتد صيحاته الجريئة إلى صيغ تصالحية توافقية مع الهمود والتقليد، وأن غاية الرسالة التي كرس حياتها لأجلها أكبر من أن تختصر في بعض الوظائف الرسمية والحلقات التعليمية والآداب الصوفية، وأنها تتصل مباشرة بتقديم خطابي إسلامي مستنير يوحد الأمة، ويقول للناس حسناً، ويعذر المختلف، ويختار شعاره من القرآن الكريم: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً.

إنه الرحيل أيها الشيخ الجليل، إنني أعتقد أن صيحاتك الجريئة لن تخبو في مسمع الأيام، وها هي اليوم قد انطلقت على منابر كثيرة ومواقع شتى، ستحمل للناس رؤيتك في الإخاء الإنساني، وها أنت ترقد اليوم وقد أصبح الناس أكثر فهماً لرسالتك ووعياً بأهدافها، وقد ازدحمت عليها رغائب حملة الرسالة، وسيكون العناء الذي كابدته خلال حياتك الطويلة من تيارات التعصب والجمود ملهماً لمن يختار أن يحمل رسالة التنوير والتجديد في خطاب إسلامي مستنير تنتظره الأيام.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

 

Related posts

د.محمد حبش- مؤتمر الشيشان.. العمائم التائهة 10/9/2016

drmohammad

الدكتور محمد حبش-الإنسان السوري

drmohammad

شذوذ لا مثلية… نقاش في الجندر

drmohammad

Leave a Comment