مقالات

قراءة في القيم الدبلوماسية في الإسلام

الإسلام والدبلوماسيةإعداد

د.محمد حبش

مستشار مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾

[الحجرات:13]

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الدبلوماسية في الإسلام عنوان دقيق، يعكس الحاجة المتجددة لفهم القيم الكريمة التي بشر بها الإسلام في العلاقات الدولية، ويجتهد أن يقدم للمكتبة العلمية ملامح التوجه الحضاري للإسلام في الحياة الدبلوماسية.

تنطلق هذه الدراسة من مسلمة منطقية يتفق عليها العقل والنقل، وهي أن هذه الرسالة الخاتمة جاءت لخير الإنسانية العام، وأنها بسطت خطاب المحبة والسلام في الأرض على أساس من مصالح الناس، وأن الأصل في العلاقات الدولية التوازن والاحترام والمصالح المتبادلة، وليس الخصام والحروب، ولا شك أن ذلك لا ينفي حق الأمة في مواجهة الأخطار والتحديات الدولية، وبناء أمنها الوطني والدفاع عنه، ولأجل ذلك شرع الجهاد، الذي هو حق للأمة وواجب الراعي والرعية، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر.

ولكن الغاية التي يتشوف إليها الإسلام هي الأمن والسلام العالمي، ونشر الإخاء والتراحم، بل إننا نؤكد هنا أن مصطلح السلام ليس هو الخيار القرآني في العلاقات الإنسانية، فالسلام هو هدنة بين متحاربين قد يكون على قلوب تغلي بالضغائن، وتأكيداً على هذه الحقيقة فقد أعلن الإسلام رسالته من أفق أعلى حين جعل الرحمة وليس السلام غاية كفاحه، فعكس بذلك أرقى هدف تسعى له البشرية وهو الإخاء الإنساني وهو الرحمة التي عبرت عنها الآية الكريمة في سورة الأنبياء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.

ومن المدهش أنه لم يقل رحمة بالمسلمين أو بالمؤمنين أو بالمتقين، وإنما قال للعالمين، وهي صيغة لا يمكن تفسيرها بأقل من الأسرة الإنسانية الواسعة التي تعيش على كوكب الأرض.

ولكن الوصول إلى هذا الهدف الكبير لا يتم بإلقاء المواعظ ونثر الحكم، بل إنه يتطلب وعياً حقيقياً بالعلاقات الدولية وبناء منظومة علاقات دولية متوازنة على أسس دبلوماسية حكيمة، تحترم فيها الخبرة والكفاءة وتجارب الأمم، ويعمل فيها المخلصون من أجل الوصول إلى عالم تسوده العدالة والمساواة والسلام.

وتتعاظم الحاجة لوضع هذه الحقائق أمام كوادرنا في السلك الدبلوماسي الذين يحملون صورة الوطن وقيم الإسلام إلى كل مكان يرحلون إليه في العالم، ليقدموا صورة طيبة عن الأمة الإسلامية، ويوفرون سبل الإحياء الحضاري، وتوفير صلة ماضي هذه الأمة بحاضرها ومستقبلها.

إن توافر هذه المعارف الدبلوماسية وفق قيم الإسلام أصبح اليوم أكثر حيوية وضرورة لشرح قيم الإسلام العليا التي تتعرض لقدر غير قليل من التشويه والاتهامات تقوم بها حملات فوبيا منظمة يقوم بها إعلام يعادي الإسلام والعرب، وتحركه ماكينات معروفة بكراهيتها للإسلام وانحيازها ضد قضايا العرب.

ولكن الدور الأكبر لنشر الاسلاموفوبيا في العالم اليوم إنما يقع على عاتق أولئك المتطرفين الذين يرسمون صورة قاسية عن الإسلام في العالم، حين يقسمون العالم إلى فسطاطين اثنين، يتبادلان ثقافة الكراهية، ويتناوبان النفخ في كير الحروب، ويقدمون موقفهم هذا على أنه الجهاد الذي فرضته الشريعة، ويتبع ذلك بكل تأكيد رفضهم لأي علاقة ودية بين المسلمين وبين أمم الأرض، ويحولون دون قيام دبلوماسية ناجحة تتأسس على قيم الإسلام في الرحمة وتدعو إلى عالم من التفاهم والحوار وفق ما دعا إليه القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾.

إنني متمسك بما كتبته من قبل أن هذه الحضارة التي نشهدها اليوم هي حضارة إنسانية بامتياز وليست شرقية ولا غربية، وإن القيم التي أعلن عنها القرن العشرون في الحرية والتسامح والعدالة والديمقراطية والعلاقات الدولية هي قيم إنسانية كافح الإنسان طويلاً في الشرق والغرب لتحقيقها، واشتركت فيها الحضارات جميعاً من يونانية ورومانية وإسلامية وأوربية، وإن ربط هذا المنجز الحضاري بأمريكا أو أوربا أو أي مكان في العالم يتبنى هذه القيم الحضارية ليس موقفاً صحيحاً، وإن الناس من سائر الأمم شركاء في هذه الحضارة الإنسانية، بما أنجزه آباؤهم وأجدادهم من كفاح شريف للوصول إلى هذه القيم الإنسانية المشتركة.

ويجب القول إن منطق صدام الحضارات الذي تبناه متطرفون في الغرب ومنطق الفسطاطين الذي يتبناه متطرفون في الشرق كلاهما مجاف للحقيقة وبعيد عن هدي الأنبياء، وإن السبيل الوحيد لقيام عالم آمن هو التعاون والتواصل والتكامل.

لقد دخلت هذه الحقائق الوعي الجمعي لدى المثقفين في العالم، ويتحد العقلاء اليوم في مواجهة ثقافة الإلغاء والإقصاء، وهي حقيقة جسدتها الدول الإسلامية في منظمة التعاون الإسلامي (منظمة المؤتمر الإسلامي سابقاً) حين اتفق زعماء العالم الإسلامي على رفض منطق صدام الحضارات، وقامت المنظمة بتحرك دبلوماسي مسؤول وتوجهت باقتراحها إلى الأمم المتحدة ونجحت في تسمية العام التالي عام حوار الحضارات، والذي أسس تالياً لما بات يعرف بتحالف الحضارات وهو ما تشارك فيه اليوم أكثر من مائة دولة في العالم، وتتولى قطر رئاسة الدورة الحالية لتحالف الحضارات العالمي.

ولا يخفي كاتب هذه السطور رأيه في هذه المسألة في وجوب تجاوز مصطلح الحوار إلى مصطلح الوحدة، فالحضارة الإنسانية في الواقع حضارة واحدة تعاقبت الأمم على بنائها خلال تاريخ طويل، انتقلت فيه شعلة الحضارة من الشرق الأدنى والشرق الأقصى إلى اليونان إلى فارس إلى الرومان إلى الحضارة الإسلامية ثم إلى الحضارة الأوربية والأمريكية، وهي اليوم نتاج كفاح الأمم جميعاً، وبإمكانك أن ترى في مشافي كليفلاند في أمريكا أثراً واضحاً للرازي وابن سينا تماماً كما كنا نرى في بيمارستانات بغداد والأندلس أثراً واضحاً لأبقراط وجالينوس، والأمر نفسه في سائر العلوم الكونية، وكدلك في السنن الاجتماعية من الحرية والعدالة والمساواة والإخاء التي شاركنا فيها خلال التاريخ، وحين يتم إنجاز الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويتم الإعلان عنه في نيويورك فإنني أبصر بين الرجال الذين حققوه عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي، وكفاح الأنبياء من قبل، فهؤلاء جميعاً شركاء في شرعة حقوق الإنسان التي مرت عبر التاريخ في مواجهات كثيرة ضد الاستبداد والقهر، وشارك حكماء هذه الأمة صيحتهم في وجه العالم (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً).

إنها إذن شعلة واحدة للحضارة الإنسانية، فالحضارات تتكامل ولا تتقاتل، وتتواصل ولا تتدابر، فالصراع لا يكون بين الحضارة والحضارة أو بين النور والنور، وإنما يكون الصراع والصدام بين الحضارة والتخلف، وبين العلم والجهل، وبين الظلمات والنور، وإنها إذن الأسرة الإنسانية الواحدة التي جاءت من نسل آدم، ومسؤولية أبنائه أن يتعاونوا لاستثمار خيرات هذه الأرض وضبط مقاطع الحقوق فيها وتوفير العيش الكريم لسائر الأمم والشعوب.

إن من المدهش أن الخطاب القرآني جاء عالمياً إنسانياً بامتياز، ونادى الناس بصيغة يا بني آدم، ويا أيها الناس، وهي الصيغة التي أعلنها النبي الكريم في آخر أيام الرسالة في حجة الوداع: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد وإن دينكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب).

وقد افتتح القرآن الكريم بآية ذات دلالة وهي قوله تعالى: ﴿ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ﴾، فلم يقل رب المسلمين ولا رب العرب ولا رب المتقين، واختتم بقوله: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ . مَلِكِ النَّاسِ . إِلَهِ النَّاسِ﴾، ولم يقل رب المؤمنين أو العرب أو العجم، وما بين الفاتحة والخاتمة جاء بيان القرآن العظيم: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.

وفي سياق توضيح هذه الحقائق تأتي هذه الدراسة التي أعددتها للمعهد الدبلوماسي في وزارة الخارجية بدولة قطر، كما أنها تأتي في سياق نجاحات متتالية قامت بها دولة قطر في الدبلوماسية الدولية، وحوار الحضارات والأديان، وقدمت بما يقطع الشك قدرة الدبلوماسية الحكيمة على التأثير إيجابياً في القضايا الدولية، وقدرة الدبلوماسية في فض النزاعات، وقيام المصالحات، وهو الدور الذي قامت به دولة قطر دبلوماسياً لإنهاء الصراع وإجراء المصالحات في لبنان واليمن وليبيا وفلسطين ودارفور، وهو دور آمل له النجاح أيضاً في بلادي المعذبة الجريحة سوريا.

وإذ أكتب هذه السطور فإنني أرجو أن أضع بين يدي زملائنا الباحثين، وأبنائنا الصاعدين في السلك الدبلوماسي هذه المعارف الدبلوماسية التي نتقتبسها من ضياء القرآن ونور السنة وتاريخ الأمة، وهي تلتقي مع كثير من القيم الدبلوماسية العريقة وتغنيها وتثريها وتفيد منها.

ولن يفوتني في هذه المقدمة أن أزجي الشكر لسعادة وزير الخارجية القطري الدكتور خالد بن محمد العطية ومساعديه سعادة السيد راشد بن خليفة آل خليفة وسعادة الشيخ أحمد بن محمد بن جبر آل ثاني، اللذين وفرا لي فرصة التفرغ للبحث العلمي في مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان.

وأخص بالشكر سعادة السفير الدكتور حسن بن إبراهيم المهندي مدير المعهد الدبلوماسي الذي أشرف على إعداد هذا البحث وتقديمه للمكتبة الدبلوماسية العربية.

وكلي أمل أن تجد هذه الدراسة مكانها في المكتبة العربية، وأن ينتفع منها أبناؤنا الصاعدون في السلك الدبلوماسي، وأن يدرك شبابنا المتقدمون إلى العمل في السلك الدبلوماسي غنى الحضارة الإسلامية في هذا السبيل، وحكمة الشريعة الإسلامية وخصوصيتها، وبالتالي معرفة بعض التحفظات التي تمسك بها الفقهاء في السلوك الدبلوماسي، وأن يدركوا الآفاق البعيدة التي قدمتها الحضارة الإسلامية في حقل الدبلوماسية، وحجم المشترك الإنساني في الحقل الدبلوماسي، والمسؤولية الملقاة على عاتقهم لنقل صورة حضارية وحكيمة للدبلوماسية الإسلامية التي شاركت وتشارك بفاعلية ونجاح في تحقيق ازدهار الشعوب.

المحتويات

الفصل التمهيدي:

  • الدبلوماسية.. المصطلح والاستخدام
  • تاريخ الدبلوماسية
  • أهم الأعمال التي صنفها الفقهاء في الدبلوماسية الإسلامية
  • الفصل الأول:

                 الفقه الدبلوماسي في الإسلام

  • التأسيس الاعتقادي للعلاقات الودية في الإسلام
  • مصطلح الدبلوماسية في التراث الإسلامي
  • الدبلوماسية في العهد النبوي
  • الدبلوماسية في التاريخ الإسلامي
  • التطور الإيجابي والسلبي لعلاقة الأمة الإسلامية بالمجتمع الدولي
  • مشروعية التمثيل الدبلوماسي في الإسلام
  • حكم التمثيل الدبلوماسي الدائم في الإسلام
  • تعيين السفراء واختيارهم
  • مشاركة المرأةفي الحياة الدبلوماسية
  • مسائل تحول بين المرأة والعمل الدبلوماسي
  • سفر المرأة
  • مصافحة النساء
  • النقاب
  • حصانةالسفراء
  • الحصانة الشخصية
  • الحصانة القضائية
  • الحصانة الماليــــة
  • الحصانة السياسية
  • الملحقيات
  • الملحقية التجارية
  • الملحقية العسكرية
  • الملحقية الثقافية
  • الملحقيات الثقافية ورسالة الدعوة
  • الفصل الثاني: القيمالدبلوماسية في الإسلام
  • آداب السفراء
  • مبدأ المعاملة بالمثل
  • مسؤولية السفير بين وطنه ودار إقامته
  • الدبلوماسية واختلاف العقائد
  • الفصل الثالث:الدبلوماسية في الكتاب والسنة
  • السفارات في القرآن الكريم
  • سفراء الرسول في حال السلم
  • دبلوماسية الرسول في حل النزاعات
  • الفصل الرابع: المشترك بين الإسلام والدبلوماسيةالحديثة

        الملاحق:

  • نموذج من التعامل الدبلوماسيلرسول الله
  • نموذج من الخطاب الدبلوماسي لرسول الله

النتائج والتوصيات

المراجع

الفصل التمهيدي: الدبلوماسية

                           المصطلح والاستخدام

تمهيد

مصطلح الدبلوماسية:

الدبلوماسية مصطلح لاتيني مشتق من الكلمة اللاتينية Diploma  والتي تعني وثيقة رسمية([1])، حيث كانت مراسلات الملوك وأوامرهم وبلاغاتهم ومفاوضاتهم تدون في وثائق محكمة ثم تطوى في سجلات خاصة، وقد اكتسبت الكلمة شهرة عالمية للدلالة على الكفاءة والجدارة، ولا تزال مستخدمة بشكل واسع في الحقل الأكاديمي للدلالة على الوثائق التأهيلية التي يحصلها المتخرجون من الجامعات في إطار اختصاص معين، وهي تستخدم اليوم بكثرة في الحقل الأكاديمي العربي بعنوان دبلوم الاختصاص.

وﻴﻌﺭﻑ ﺭﺠﺎل ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﺒﺄﻨﻬﺎ: ﻓﻥ ﻭﻋﻠﻡ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﻌﻼﻗـﺎﺕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴـﺔ([2])، وتكون عادة بين دولتين، وهي تختلف عن العلاقات بين الأفراد أو الأحزاب أو المنظمات أو الهيئات.

وقد تناولت الموسوعة العربية تفصيل الاستخدامات المتعددة للدبلوماسية على الشكل التالي:

1ـ فمن حيث أطراف العلاقة الدولية: هناك الدبلوماسية الثنائية أي الدبلوماسية بين دولتين، وهناك الدبلوماسية الجماعية، أي الدبلوماسية بين مجموعة من الدول عن طريق المؤتمرات أو المنظمات الدولية، يسمي بعضهم النوع الأخير الدبلوماسية البرلمانية parliamentary diplomacy وقد شاع هذا النوع الثاني، بتواتر وتصاعد، منذ عصبة الأمم وحتى اليوم.

2ـ ومن حيث الشكل الذي تأخذه إدارة العلاقات الدولية: هنالك الدبلوماسية السرية وهي التي تجري بين الكواليس وتكتم نتائجها كلاً أو بعضاً عن الغير أو حتى عن رعايا الدول المتفاوضة. وهناك الدبلوماسية العلنية وهي التي تتضح نتائجها فور انتهائها حتى لو جرت المفاوضات بشكل غير علني. وقد كان إنشاء عصبة الأمم بهيئاتها ومجالسها العلنية واشتراط ميثاقها تسجيل المعاهدات المبرمة بين الدول ونشرها تحت طائلة بطلانها، كان محاولة من جانب مؤسسي العصبة للخلاص من عهد الدبلوماسية السرية secret diplomacy الذي ساد حتى ذلك التاريخ.

3ـ ومن حيث الوسائل المستخدمة في إدارة العلاقات الدولية: يمكن القول بوجود دبلوماسية سلم تقوم على أساس المفاوضة بين الدول المعنية وهذا هو الأصل، ودبلوماسية عنف أو ما سمي دبلوماسية السفن الحربية Gun Boat Diplomacy تتجلى في تحقيق الدولة لأغراضها عن طريق اتباع وسائل الزجر والعنف بما في ذلك الحرب التي يعدها بعضهم استمراراً للنشاط الدبلوماسي للدولة في ميدان آخر غير ميدان المفاوضات([3]).

ويطلق تعبير الدبلوماسية اليوم على النشاط السياسي الذي يقوم به مفاوضون رسميون لشرح مواقف الدول ومصالحها، والحيلولة دون تحول الخلاف إلى نزاع وحرب.

ومن الناحية التقنية يُشار إلى فن التفاوض على أنه الممارسة الرسمية التي تتبعها معظم الأمم في إرسال ممثلين يعيشون في بلدان أخرى. وهؤلاء الممثلون المفاوضون يُعرفون بالدبلوماسيين ويساعدون على استمرارية العلاقات اليومية بين بلادهم والبلاد التي يخدمون فيها، وهم يعملون من أجل مكاسب سياسية أو اقتصادية لبلادهم ويعملون لبناء علاقات دولية جيدة لبلادهم في العالم.

تاريخ الدبلوماسية:

ربما كانت أقدم اتفاقية في التاريخ في الإطار الدبلوماسي اتفاقية قادش بين الفراعنة والحثيين سنة 1279 ق.م وتعكس هذه الاتفاقية رؤية متقدمة في حقل العلاقات الدبلوماسية الدولية.

وفي عصر الثنائية الإمبراطورية التي طبعت الشرق الأوسط نحو ستة قرون في إطار الصراع الفارسي الرومي، فإن الدبلوماسية لم تسجل نجاحاً حقيقياً، وكان المبعوثون الدبلوماسيون بين الطرفين مجرد مخبرين وأدوات غير فاعلة لا تؤثر في قرار الحرب الذي كانت الإمبراطوريتان الفارسية والرومانية تتخذانه وفق اعتبارات القوة والضعف والاستعداد الحربي وليس وفق اعتبارات الحق والعرف الدبلوماسي، وقد أسهم غياب دبلوماسية حقيقية فاعلة في إنهاك الإمبراطوريتين، ومن ثم زوال الإمبراطورية الفارسية نهائياً وانحسار الأخرى إلى بلاد الروم والجانب الأوروبي، وقيام الحضارة الإسلامية الصاعدة.

وقد مضت هذه العلاقات تاريخياً على هيئة اتفاقيات محددة بين دولتين، أو أعراف تحترمها الدول كحماية الرسل وحصانتهم، واستقبال الوفود وتبادل الرسائل، وقد ازدهرت العلاقات الدبلوماسية إبان ازدهار الدولة الإسلامية العباسية، وكان هذا الازدهار يترافق عادة مع رغبة الدولة بالانفتاح والتعاون، وتركت الدولة العباسية كثيراً من التقاليد الدبلوماسية الناجحة التي أغنت التراث البدلوماسي، كما حقق صلاح الدين الأيوبي خلال الحروب الصليبية سلسلة من النجاحات الدبلوماسية في وقت الحرب، منحته مكاناً محترماً حتى عند محاربيه من الصليبيين.

وربما كان من أهم التطورات الدبلوماسية ما أنجزه السلطان العثماني الشهير سليمان القانوني الذي كان يؤمن بدور الدبلوماسية ويسعى لتحرير أصولها وقواعدها، وقد نجح في عقد سلسلة اتفاقات مع الملوك الأوربيين لضبط العلاقات الدبلوماسية، أشهرها اتفاقية عام 1535 مع الملك الفرنسي فرانسوا الأول والتي نظم بها شكل العلاقات الدينية والحج المسيحي إلى الأماكن المقدسة في فلسطين.

وفي أوروبا فقد كانت الإمبراطورية الجرمانية المقدسة تفرض تقاليدها الدبلوماسية، ولكنها سرعان ما كانت تتغير بظروف الحروب المستمرة، وشهدت العلاقات بين الإمبراطورية والعالم الإسلامي سلسلة من التجارب الدبلوماسية الهامة، عصفت بها الحروب الصليبية فيما بعد، وخلال التاريخ جدت الحاجة لتنظيم هذه العلاقات الدبلوماسية، وكانت في البداية تقوم عبر اتفاقات ثنائية أو إملاءات إمبراطورية تلزم من يدور في فلكها، وأحياناً أوامر ملكية تفرض بالغلبة، وبعد سلسلة من الحروب الدينية الطاحنة في أوروبا جاءت معاهدة وستفاليا التي أرست لمبدأ سيادة الدول 1648، ثم أعقبتها سلسلة معاهدات واتفاقيات، أشهرها اتفاقية جنيف 1815 التي تحددت فيها طبيعة الدولة الحديثة، ثم توجت أخيراً باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 ثم اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963 حددت بموجبهما ركائزعامة وتراتيب تفصيلية للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية، وقد تمت الاتفاقيتان في إطار الأمم المتحدة وأصبحتا مرجعاً للعمل الدبلوماسي في العالم.

وقد أصبحت الدبلوماسية علماً مستقلاً، وتقدم الجامعات الكبرى مناهج دقيقة لإعداد الدبلوماسيين وتأهيلهم، ونشأت مدارس متعددة للدبلوماسية الحديثة، خاصة مع تطور أدوات الدبلوماسية ووسائلها في عصر العولمة وتحول العالم إلى قرية صغيرة.

والطريف في المعارف الدبلوماسية أنها تتجه دوماً إلى التوحد وليس إلى التفرق، وأن نجاحها يرتبط ارتباطاً كاملاً بمدى قدرتها على تقديم نسق اتفاقي بين الأمم، وإن أي تطور أحادي في الدبلوماسية لن ينظر إليه على أنه إنجاز، بل سيكون عقبة في وجه قيام الدبلوماسية بدورها الصحيح في بناء السلام والتعاون الدولي.

وظلت الصيغة الغالبة على العمل الدبلوماسي خلال التاريخ أنه نشاط سياسي ليس له لون ديني، فلم تعرف التقاليد الدبلوماسية مثلاً تسميات دبلوماسية مسيحية أو دبلوماسية يهودية أو دبلوماسية إسلامية.

ومن المفيد أن نقول إننا لا نتجه هنا إلى أسلمة الدبلوماسية ومنحها عباءة دينية وإنما نتجه لتأكيد المشترك بين القيم الإسلامية الأصيلة وبين المعارف الدبلوماسية، وبالتالي نتجه إلى إغناء المعارف الدبلوماسية التقليدية وليس إلى إلغائها أو استبدالها.

 أهم الأعمال التي صنفها الفقهاء في الدبلوماسية الإسلامية:

وقد ظل هذا الجانب من المعرفة منثورا في كتب السيرة النبوية وفي أبواب متفرقة في الفقه الإسلامي في باب الجهاد خاصة، وكتب السياسة الشرعية، وآداب الملوك وسيرها، كما قام العلماء خلال التاريخ الإسلامي بتصنيف دراسات خاصة في الأدب الدبلوماسي، وكانت تسمى عادة آداب الملوك، أو الأحكام السلطانية، أو السياسة الشرعية، ومن أهم هذه الأعمال:

ﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﺴﻴﺭ ﺍﻟﻜﺒﻴﺭ ﻟﻺﻤﺎﻡ ﻤﺤﻤﺩ ﺒﻥ ﺍﻟﺤﺴﻥ ﺍﻟﺸﻴﺒﺎﻨﻲ ﻭﺸﺭﺤﻪ ﻟﻺﻤﺎﻡ ﺍﻟﺴﺭﺨﺴﻲ، ﻭﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﺨﺭﺍﺝ ﻟﻠﻘﺎﻀﻲ ﺃﺒﻲ ﻴﻭﺴﻑ، وكتاب: رسل الملوك ومن يصلح للرسالة والسفارة لابن الفراء، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وكتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، وكتاب مآثر الأنافة في معالم الخلافة للقلقشندي، وكتاب الإبريز المسبوك في كيفية آداب الملوك للقاضي ابن الأزرق الأندلسي، وله أيضاً كتاب تخيير الرياسة وتحذير السياسة، وكتاب أخلاق الملوك للجاحظ.

ﻭﺃﻤﺎ ﺍﻟﺩﺭﺍﺴﺎﺕﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭﺓ، ﻓﻘﺩ ظهرت أعمال كثيرة هامة منها:

ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﺴﻼﻡ، ﻟﻠﺸﻴﺦ ﻤﺤﻤﺩ ﺃﺒﻭ ﺯﻫﺭﺓ، ﻭﻜﺘﺎﺏ ﺁﺨﺭ ﺒـﺎﻟﻌﻨﻭﺍﻥ ﻨﻔﺴـﻪ ﻟﻠـﺩﻜﺘﻭﺭ ﻭﻫﺒـﺔ ﺍﻟﺯﺤﻴﻠﻲ، ﻭﻤﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻟﺩﺭﺍﺴﺎﺕ ﺃﻴﻀﺎﹰ: ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﺍﻟﺤﺩﻴﺜﺔ، ﻟﻠﺩﻜﺘﻭﺭ ﺴﻤﻭﺤﻲ ﻓـﻭﻕ ﺍﻟﻌـﺎﺩﺓ، ﻭﺍﻟـﻨﻅم ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﻟﻠﺩﻜﺘﻭﺭ ﻋﺯ ﺍﻟﺩﻴﻥ فودة، وكتاب الدبلوماسية بين الفقه الإسلامي والقانون الدولي لأحمد سالم باعمر، والدبلوماسية في التاريخ الإسلامي لعباس حلمي، والشرع الدولي في الإسلام لنجيب الأرمنازي، كما كتب الدكتور إبراهيم العدوي السفارات الإسلامية إلى أوروبا في العصور الوسطى، ولعلي بن مقبول اليمني كتاب الحصانات الدبلوماسية والقنصلية والمعاهدات في الفقه الإسلامي والقانون الدولي.

وكتب الدكتور محمد إبراهيم أبو جريبان بحثاً موثقاً بعنوان الأمن الدبلوماسي في الإسلام نشرته مجلة جامعة دمشق، كما كتب الدكتور إبراهيم أحمد العدوي: السفارات الإسلامية إلى أوروبا في العصور الوسطى.

وتجدر الإشارة هنا إلى كتاب بالغ الأهمية وهو كتاب التراتيب الإدارية في الدولة النبوية، للسيد عبد الحي الكتاني المتوفى 1961، وقد أشار الكتاني أنه اعتمد اعتماداً كلياً في كتابه على كتاب تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية تأليف أبي الحسن علي بن محمد الخزاعي المتوفى 1387م  الملقب بذي الوزارتين وقد كان وزيراً في الدولة المرينية بالمغرب.

وقد تضمن الكتاب قراءة واعية للآداب الدبلوماسية التي ظهرت في الدولة الإسلامية، ومن العناوين التي أفردها بالبحث والتفصيل:

  • باب في الرسول (السفير) وفيه فصول
  • فصل في صفات رسله عليه السلام من وفور العقل وطلاقة اللسان وقوة الحجة المقنعة للخصم
  • باب في اختياره عليه السلام لرسله أن يكونوا أحسن الناس وجهاً
  • فصل في الترجمان الذي يترجم كتب أهل الكتاب ويكتب إليهم بخطهم ولسانهم
  • فصل في كيفية مخاطبة الملوك وغيرهم من المعاصرين له عليه السلام في زمانه
  • باب ذكر ما كان يفتح به كتبه عليه السلام
  • احتياطه عليه السلام في مكاتيبه الرسمية
  • باب ذكر كيفية مخاطبته عليه السلام للمعاصرين له من الملوك
  • باب ذكر عنوان المكاتب التي كانت توجه له عليه السلام
  • باب ذكر عمله عليه السلام إذا لم يحضره الختم
  • باب اتفاق القوم على من يمثلهم تمثيلاً رسمياً في محفل ديني رسمي
  • باب ذكر المؤقت، وأهميته في التشريفات النبوية واستقبال الوفود
  • باب في الرسول يبعث بالهدية
  • باب في إنزال الوفود
  • باب جوائزه عليه السلام للوفود
  • باب تجمله عليه السلام للوفود([4]).

وهكذا فقد كتب كل فقيه بلغة عصره، واختلفت المصطلحات والتسميات ولكن ما تؤكده الدراسات جميعاً هي أن الآداب الدبلوماسية كانت في الواقع محل اعتبار في التصرفات النبوية، وأنها كانت تنطلق من روح الإسلام القائمة على حسن الجوار والتعاون الإنساني.

وتتأكد الحاجة لجمع هذه المعارف الرائدة، في كتاب واحد يجمع آداب العمل الدبلوماسي في الإسلام ويكون مرجعاً للمتخصصين في هذا الأمر، ويقدم صورة مشرقة للحضارة الإسلامية والعربية في هذا السبيل، وتسعى هذه الدراسة لتلخيص ما حرره السلف في الأدب الدبلوماسي، ومراجعة ما كتبه الخلف في هذا السبيل والمقارنة مع النظم الحديثة والأعراف الدولية في الشأن الدبلوماسي، للوصول إلى موقف متوازن في القواعد الدبلوماسية التي أسس لها الإسلام وتم إقرارها في المحافل الدولية.

كما تتأكد الحاجة إلى إدخال القيم الإسلامية إلى التقاليد الدبلوماسية في مناهج الإعداد الدبلوماسي، وهي قيم متينة وواقعية، ولها اعتبار رسمي حقيقي لدى أكثر من 57 دولة في العالم الإسلامي، كما أنها محل احترام وتقدير لدى الدول المحبة للسلام من خارج العالم الإسلامي.

الفصل الأول

الفقه الدبلوماسي في الإسلام

التأسيس الاعتقادي للعلاقات الودية في الإسلام:

جاءت الشريعة الخاتمة بالدعوة إلى الحوار والإخاء الإنساني، وعززت ثقافة القرآن الكريم وجوب احترام الإنسان وبناء علاقات صحيحة بين البشر، وأكدت طبيعة نزوع البشر إلى الاختلاف والتنوع، ودعا القرآن الكريم إلى فهم الجانب الإيجابي من الاختلاف بين الشعوب والأقوام، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾، وقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، وأوصى القرآن في آيات كثيرة بوجوب بناء علاقات حسنة بين المسلمين وبين الناس، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾، ومثل هذه الآيات كثيرة في القرآن الكريم فهو يأمر بالقول الحسن للناس بغض النظر عن أديانهم وألوانهم وقبائلهم، ثم يأمر بالإحسان إلى الأرض وهي أمنا جميعاً بغض النظر عن أي انتماء ديني أو مذهبي.

وهذه الروح من الانفتاح على العالم وبناء العلاقات الإيجابية هي في الواقع روح الإسلام ورسالته الأولى، ولكن يجب القول هنا بأن عدداً من فقهاء السلف لم يقبلوا هذا اللون من العلاقات الودية واختاروا تصنيف العالم إلى فسطاطين اثنين دار إسلام ودار كفر، أو دار إسلام ودار حرب([5])، وهذا الموقف الفقهي تتبناه اليوم التنظيمات الجهادية التي لا ترى في العالم إلا عدواً ينبغي قتاله، وهي ترفض منطق العلاقات الدبلوماسية بكل أشكاله، وتطالب بمواجهة عسكرية مع العالم حتى يدخل في الإسلام.

ولا بد من القول أن ما روي عن كبار الفقهاء من آراء متشددة إنما كان نتيجة ظروف سياسية خاصة إبان الحروب الصليبية على وجه التحديد التي اشترك فيها الغرب في محاربة الإسلام، وأدت إلى تعاظم الريب وانهيار فرص الحوار والدبلوماسية.

ويقدم هؤلاء موقفهم على أساس أنه خيار السلف في العلاقات الدولية، ويشيرون إلى اختيار الإمام أبي حنيفة وكذلك فقهاء كثير من المالكية والحنابلة في تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب.

وقد ثار الجدل قديماً في طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى وهل الأصل في هذه العلاقات السلم أم الحرب، وقد كتبت دراسات كثيرة لتأصيل هذه المسألة واستعرض أدلة الفريقين، ومنها ما حققته مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وحاصل القول انه ﺍﺨﺘﻠﻑ الفقهاء ﻓﻲ ﺃﺼل ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ ﻋﻠﻰ ﺜﻼﺜﺔ ﺃﻗﻭﺍل:

“ﺍﻟﻘﻭل ﺍﻷﻭل: ﺫﻫﺏ كثير من الفقهاء ﻤﻥ ﺍﻟﺤﻨﻔﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺎﻟﻜﻴﺔ ﻭﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﺤﻨﺎﺒﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺍﻷﺼـل ﻓـﻲ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴﺭﻫﻡ ﺍﻟﺤﺭﺏ، ﻭﺇﻟﻰ ﻫﺫﺍ ﺍﻟﺭﺃﻱ ﺫﻫﺏ ﻋﺩﺩ ﻤﻥ العلماء ﺍﻟﻤﻌﺎﺼـﺭﻴﻥ ﻤـﻨﻬﻡ ﺴﻴﺩ ﻗﻁﺏ، ﻭﺼﺎﻟﺢ ﺍﻟﻠﺤﻴﺩﺍﻥ، ﻭﺃﺒﻭ ﺍﻷﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻭﺩﻭﺩﻱ.

ورأى أصحاب هذا القول أن تشريع الجهاد والأمر بالنفير في سبيل الله لمحاربة الكفار، والأمر بالاستعداد لمواجهة الكفار بالقوة ورباط الخيل يجعل الأصل هو الحرب، وأن السلم استثناء يقدر بقدره.

ﺍﻟﻘﻭل ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ: ﺫﻫﺏ ﺒﻌﺽ الفقهاء ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﺃﺼل ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ ﻫـﻭ ﺍﻟـﺴﻠﻡ، ﻭﺃﻥ  ﺍﻟﺤﺭﺏ ﺃﻤﺭ ﻁﺎﺭﺉ ﻻ ﻴﻠﺠﺄ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺇﻻ ﻋﻨﺩ الاعتداء ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺃﻭ ﻅﻠﻤﻬﻡ ﺃﻭ ﻓﺘﻨﺘﻬﻡ ﻋـﻥ ﺩﻴـﻨﻬﻡ، ﻭﻗﺩ ﺫﻫﺏ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻙ ﺍﻟﺜﻭﺭﻱ ﻭﺍﻷﻭﺯﺍﻋﻲ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎل ﺒﻥ ﺍﻟﻬﻤﺎﻡ ﻭﺍﺒﻥ ﺘﻴﻤﻴﺔ ﻭﺍﺒﻥ ﺍﻟﻘﻴﻡ، ﻭﻤـﻥ العلماء ﺍﻟﻤﻌﺎﺼﺭﻴﻥ ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭ ﻭﻫﺒﺔ ﺍﻟﺯﺤﻴﻠﻲ، ﻭﺍﻟﺸﻴﺦ ﻤﺤﻤﺩ ﺃﺒﻭ ﺯﻫﺭﺓ ﻭﻋﺒﺩ ﷲ ﻏﻭﺸﺔ ﻭﻤﺤﻤـﻭﺩ ﺸـﻠﺘﻭﺕ ﻭﻋﺒﺩ ﺍﷲ ﺒﻥ ﺯﻴﺩ ﺁل ﻤﺤﻤﻭﺩ ﻭﻏﻴﺭﻫﻡ.

ﺍﻟﻘﻭل ﺍﻟﺜﺎﻟﺙ: إن ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴﺭﻫﻡ ﻤﻥ ﺍﻷﻤﻡ ﻋﻼﻗﺔ ﺩﻋﻭﺓ ﺘﺘﻨﻭﻉ ﺤﺴﺏ ﺍﻟﻅﺭﻭﻑ ﻭﺍﻷﺤﻭﺍل ﺘﺒﻌﺎً ﻟﻠﻤﺼﻠﺤﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻷﻫل ﺍﻷﺭﺽ ﺠﻤﻴﻌﺎً، ﻓﻘﺩ ﺘﻜﻭﻥ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴﺭﻫﻡ ﻋﻼﻗﺔ ﺴـﻠﻡ ﻗﺒـل ﺇﺒﻼﻏﻬﻡ ﺍﻟﺩﻋﻭﺓ ﺃﻭ أثناء ﺘﺒﻠﻴﻐﻬﺎ، ﻭﺇﺫﺍ ﺘﺠﺎﻭﺒﺕ ﺍﻷﻤﻡ ﻏﻴﺭ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﻤﻊ ﺍﻟﺩﻋﻭﺓ، ﻭﻗﺩ ﺘﻜﻭﻥ ﻋﻼﻗـﺔ  ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺒﻐﻴرهم ﻋﻼﻗﺔ ﺤﺭﺏ ﺒﻌﺩ ﺇﺒﻼﻏﻬﻡ ﺍﻟﺩﻋﻭﺓ، ﻭﻋﻨﺩﻤﺎ ﺘﻭﻀﻊ ﺍﻟﻌﻘﺒﺎﺕ ﺃﻤﺎﻡ ﺘﺒﻠﻴﻐﻬﺎ” ([6]).

ولا يخفي كاتب هذه السطور ميله إلى القول الثاني الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الثوري والأوزاعي وابن القيم وآخرون، وهو أن الأصل في علاقات الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم إنما هي السلم، وقد دلت على ذلك آيات ونصوص كثيرة، في الكتاب والسنة، منها قوله تعالى:

  • ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾([7]).
  • وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾([8]).
  • ومنها قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾([9]).
  • وقوله تعالى: ﴿تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْن لهُ مُسْلِمُونَ﴾([10]).
  • وقوله تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوْكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوْكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيْلاً﴾([11]).

ولا أعتقد أن الذين ذهبوا إلى القول الأول أو الثالث يقصدون بالفعل أن تبقى الأمة في حالة حرب مع الناس، وإنما كانوا يتحدثون عن ظروف خاصة عاشتها الدعوة الإسلامية في مواجهة أعداء طامعين، كما جرى إبان الحروب الصليبية أو المغولية أو الاستعمارية، عندما أكلتهم الناس عن قوس واحدة، وهو الحال نفسه الذي سبق أن واجهته الرسالة بعد أن تم فتح مكة، واتفق العرب على غزو مكة، وأقبل المشركون من ثقيف وهوازن وغطفان وحشدوا في وادي حنين أربعين ألفاً للقضاء على الإسلام واجتياح مكة، وعندها نزلت آية السيف في سورة التوبة وغيرها من الآيات التي تأمر بالقتال وتدعو إلى مواجهة شاملة مع قوى الكفر من المحاربين ومن يقف إلى جوارهم من أعداء الإسلام.

والحقيقة أن هذا الاختيار المنسوب للإمام أبي حنيفة بقسمة العالم إلى دار إسلام ودار حرب، له اعتباراته وضوابطه، ولا يعني أبداً أن أبا حنيفة قصد إلى استعار الحرب بين المسلمين وشعوب الأرض، بل كانت عنده محض ثنائية توضيحية أراد من خلالها تمييز دار الإسلام من سواها، بدليل أن فقه الحنفية أفرد في فصولاً متعددة للعهد والأمان والذمة، وفقهه رحمه الله طافح بالتسامح والتراحم والحكمة، ولكن هذا الموقف التصنيفي يقدم اليوم تبريراً للفكر الجهادي التكفيري الذي يدعو الناس إلى حمل السلاح وقتال الآخر غير المسلم حتى يدخل في الدين الحق.

ويرى هؤلاء أن الأمر على مات عليه الرسول وأن كل ما ورد من نصوص الشريعة في إطار العلاقات الحسنة مع غير المسلمين والتعاون معهم فإنه منسوخ بآية السيف في سورة التوبة، وربما استدلوا بقول السلف أن آية السيف نسخت جميع الموادعات، وفي نص آخر آية السيف نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية في كتاب الله([12]).

وآية السيف على المشهور هي قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ([13]).

ومن المعلوم أن الأخذ بموقف كهذا يؤسس لعالم قائم على النزاع والخصومة والحروب، ويتنافى مع مقاصد الإسلام في نشر المحبة والإخاء، وفق ما أشارت إليه الآيات البينات: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ﴾.

ولا ينكر هؤلاء ما في القرآن الكريم والسنة النبوية من نصوص التسامح والرحمة والتعامل الإيجابي مع الناس، ولكنهم يعتبرون ذلك منسوخاً بآخر ما نزل من آيات سورة التوبة.

وفي الحقيقة فقد فند العلماء قديماً ما روي من أن آية السيف نسخت سبعين آية أو أكثر من ذلك، وقد حرر الإمام السيوطي ذلك في كتابه الإتقان في علوم القرآن، مبيناً أن السلف ذكروا النسخ في غير المعنى الذي استقر عند علماء الفقه والأصول، وكانوا يقصدون بالنسخ تقييد المطلق أو تخصيص العام، وبشكل أدق فإن الأمة في أول الإسلام كانت منهية عن القتال حتى في إطار الدفاع عن النفس، وقد قضى ياسر وسمية وغيرهما شهداء على يد المشركين ولم يؤذن للرسول ولا للصحابة بالدفاع عن المستضعفين بالسيف أوغيره من السلاح، ونهى رسول الله سعداً عن رمي المشركين بالسهام، على الرغم من عدوانهم وأذاهم، مستدلاً بآيات العفو والرحمة: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾، ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾، وغيرها من نصوص العفو والرحمة، ولكن الإسلام اشتد عوداً بعد ذلك، ونزلت الآيات المحكمات في مشروعية الجهاد، وأصبحت دلالة هذه الآية على ترك الدفاع عن النفس ضد الظالمين منسوخة، ونزول آية السيف رفع دلالة آيات العفو على ترك الجهاد والدفاع عن النفس، وهو ما كان ممنوعاً على أفراد المسلمين وجماعتهم قبل أن يصبح لهم دولة وقضاء وجيش وسلطان([14]).

ومن جانب آخر فقد أطبق العلماء على أن القول بالنسخ يتطلب شروطاً كثيرة أشهرها ثلاثة وهي أن يتعذر الجمع بين النصين، وأن يكون الناسخ في قوة المنسوخ أو أقوى، وأن يعلم المتقدم والمتأخر ليصار إلى القول بنسخ المتأخر([15])، وذلك كله غير متحقق في ما يذهبون إليه، ولاسيما أن الجمع بين هذه النصوص ممكن وميسور، ولا نقول بالنسخ إلا عندما يتوفر نصان متناقضان لا يمكن قبول أحدهما دون رد الآخر.

وهكذا فقد نزلت الآيات الكريمة في القرآن الكريم تنظم علاقة المسلمين بالناس على مستويات كثيرة رصدتها في دراسة سابقة بسبع عشرة مستوى، ويمكننا ملاحظة ذلك وتتبعه في القرآن الكريم حيث تبدأ من مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾[16]، ومثلها قوله تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾[17]، وقوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾[18]، ثم قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾[19]، ثم قوله: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾[20]، ثم قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم﴾[21].

وهذه المستويات كلها كلام إلهي حكيم، ولكل منها موقعه وزمانه ومكانه، فما نزل في ساعة المواجهة والجهاد من الأمر بالقتال لا يلغي ما نزل في وقت السلم، ولا يلغي ما نزل في حق الجوار والعيش المشترك مع غير المسلم ممن لا يروم سوءاً بالإسلام أهله….

وحتى لا نذهب في بحثنا هذا بعيداً، فإننا نكتفي بالوقوف عند البيان القرآني الصريح في سورة الممتحنة الذي يصنف الناس على مستويات متعددة بحسب موقفهم من الإسلام والمسلمين:

﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾([22]).

وأمام هذا النص القرآني الواضح فإنه لا مندوحة من القول بأن قسمة العالم إلى فسطاطين اثنين لا ثالث لهما هي قسمة غير حكيمة ولا مستقيمة.

وفي محاولة للاقتراب من النص القرآني الكريم في توجيهه للأمة حول شكل العلاقة مع الآخرين، فقد اخترت أن أضم هنا تطور الخطاب القرآني على سبع عشرة مرحلة، تدور بين العفو والمعاهدة والقتال، ولكنها في النهاية تستجيب للظروف الموضوعية المحيطة بتنزلها فيما يتصل بحال الأمة ضعفاً وقوة، وحال أعدائها من الموادعة أو المخاصمة أو المحاربة.

م الآية البيان الزمان
1 ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ﴾ الغفران والتسامح مع غير المؤمنين مكية
2 ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ﴾ الكف عن إساءاتهم واستهزائهم مكية
3 ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ حق أتباع كل دين باختيار ما يؤمنون به مكية
4 ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الامتناع عن مهاجمة آلهتهم حتى نضمن حيادهم  مكية
5 ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ إعلان الحرية الدينية مكية
6 ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ احترام الخيار الاعتقادي والنوايا مدنية
7 ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا﴾ تقسيم الناس بحسب خياراتهم، وإقرار دار الحرب ودار العهد مدنية
8 ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوْكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوْكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيْلاً﴾ لا عدوان على الشعوب والدول المسالمة مدنية
9 ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ الإذن بالقتال ضد المعتدين مدنية
10 ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا﴾ نقاتل من قاتلنا ولا نعتدي مدنية
11 ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ وجوب مقاتلة الجماعات الكتابية التي رفضت الانضمام للدولة الناشئة حتى يدخلوا في طاعة الدولة مدنية
12 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ نقاتل الكفار من الدول المجاورة إذا تواطأوا على قتالنا مدنية
13 ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ نقاتل المشركين كافة إذا اتفقوا على قتالنا كافة مدنية
14 ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ نقاتلهم ولو لم يكونوا في ساحة المعركة إذا سبق منهم العدوان والقتل مدنية
15 ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ نقاتلهم في ساحة المعركة دفاعاً عن أنفسنا مدنية
16 ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه﴾ السلم والموادعة أفضل عند الله حين تصح نواياهم في السلم مدنية
17 ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ الدعوة للسلام الشامل مدنية

ومن خلال قراءة النصوص فإن من الواضح القول بأن تنزّل الآيات الكريمة كان وفق الأحداث والظروف التي تواجهها الأمة، وأن الأوامر القرآنية إنما كانت تختص بظرف محدد، ولا بد أن نفهمها في سياق سبب النزول الذي وردت به، وأن ندرك أن هذه النصوص جميعاً وإن كانت بصيغة العموم ولكنه من باب العموم الذي أريد به الخصوص، والمطلق الذي أريد به المقيد، وهي قواعد واضحة عند علماء الأصول، ولا يجوز إطلاق التعميم فيما سبق ليس فقط لأنه كما يظن المتشددون سيلغي العلاقات الودية مع غير المسلمين ولكن لأنه سيؤدي إلى التناقض وتعارض الأدلة، والحق الذي لا شك فيه أن سائر هذه النصوص تنزيل حكيم من الله، ولا سبب للقول بنسخ بعضها ببعض وإنما العمل بها جميعاً كل في الظرف الذي تنزل فيه.

وهكذا فإن العلاقات الودية مع الدول المسالمة في الإسلام مؤسسة بنص القرآن الكريم، كما أن الجهاد ضد المعتدين هو أيضاً أمر قرآني كريم.

وقد سبق الإمام الشافعي في تصنيف العالم إلى قسمة ثلاثية: دار إسلام ودار حرب ودار عهد، وربما استخدم مصطلح دار أمان أو دار مصالحة، وبهذا التصنيف أكد الإمام الشافعي على وجود بلاد كثيرة ليست من أرض الإسلام، والناس فيها يحتكمون إلى أديان أخرى، أو لا يدينون بدين ولكن يحكم علاقتهم بالمسلمين السلم وفق العهود والمواثيق التي يقبلها الطرفان.

وهكذا فقد استقر في الفقه الإسلامي التحول إلى القسمة الثلاثية في إطار العلاقات الدولية([23]):

  • دار الإسلام
  • دار الحرب
  • دار المعاهدة

فتكون دار الإسلام هي الأرض التي يعيش عليها المسلمون وتطبق فيها أحكام الشريعة، ودار الحرب هي الدولة التي تعلن الحرب على المسلمين ولا تحترم شعائرهم ودينهم ونبيهم، وما تبقى بعد ذلك فهو دار عهد يحكمها طبيعة الاتفاق الذي تبرمه الدولة الإسلامية مع هذه الدولة في إطار العلاقات الدولية، وهذه العلاقات والاتفاقيات تدور في فلك المباح الذي ترك لولي الأمر أن يتصرف فيه من خلال مؤسسات الشورى والحكم التي تتبناها الأمة.

وقد أفردت موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته تحرير هذا الموقف الفقهي تحت عنوان الاعتراف ونتائجه:

“إن تنظيم المجتمع الدولي الحاضر تنظيم حديث لم يكن على هذا النحو وقت ظهور الإسلام وفي عصور دوله المتتابعة كما هو معروف، لذا كان مرجع تفصيل الأحكام الدولية إلى القانون الدولي العام، إلا أن المبادئ الأصلية والأخلاق الدولية السائدة مقررة بوضوح في الإسلام.

وبما أن الإسلام ينشد في الحقيقة الوصول إلى سلم مستقرة في علاقاته مع الشعوب الأخرى على أساس أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، أو المعاهدة والأمان، فإن الاعتراف بوجود الدولة الأخرى غير المسلمة (دار الحرب) أمر لا مانع منه استصلاحاً في مبدأ الإسلام وفقهه المتمثل في تقسيم العالم إلى دارين: دار إسلام ودار حرب، لأن دار الحرب تشمل كل الدول غير المسلمة التي كانت في الأصل غير مسالمة للمسلمين ولا متعاهدة معهم، فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة الإسلامية وغيرها من دول دار الحرب، أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقاً واحداً ينص على احترام السلم والأمن الدوليين، وتحريم التدخل في شؤون الدول الأخرى كان ذلك اعترافاً ضمنياً من الدولة الإسلامية بغيرها، فضلاً عن أن الاعتراف يصدر في الغالب صراحة بإرادة حرة.

وهذا موافق لقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾([24]).

وبناء عليه يجوز للدولة المسلمة الاعتراف بدولة غير مسلمة اعترافاً علنياً أو ضمنياً حقوقياً أو واقعياً بحسب الحال.

وكون الدعوة الإسلامية ذات نزعة عالمية عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، وبالتالي امتداد سلطان الدولة الإسلامية مع انتشارها في المعمورة: لا يعني تجاهل ظروف الإمكان وضرورات الواقع ومصلحة السلام التي تجعل من دولة الإسلام إحدى دول هذا العالم التي تتبادل بينها أمر الاعتراف لفض منازعاتها على أساس سلمي يتمشى مع منطق الإسلام ووحي رسالته([25]).

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لاتدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا .. فإن في الصلح دعة لجنودك وراحة من همومك، وأمناً لبلادك ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فان العدو ربما قارب ليتغفل”([26]).

على أنه يجب القول بأن الدبلوماسية ليست متخصصة بالعلاقات الودية، بل تشتد إليها الحاجة حين تكون العلاقات مضطربة ومتوترة، بل إنني أجزم أن الغاية العليا للعمل الدبلوماسي هي النجاح في فض المنازعات، ومنع وقوع الحرب، وتعزيز فرص السلام.

ونستميح القارئ عذراً من هذا التوسع والتفصيل في مسألة القول بالنسخ في آيات العفو والرحمة والسلم، لأن ذلك أمر جوهري في بناء علاقات دولية صحيحة بين المسلمين وبين شعوب العالم.

مصطلح الدبلوماسية في التراث الإسلامي:

لم ترد كلمة الدبلوماسية في الآداب الإسلامية، وكان الفقهاء يعبرون عن المعرفة الدبلوماسية بعنوان السير، ومن أقدم ما كتب في القضايا الدبلوماسية كتاب السير الكبير والصغير وقد وضعهما محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة والمتوفى عام 804 م، وكان مقرباً من الخليفة هارون الرشيد ولا شك أنه أفاد من قربه للبلاط بتقديم خبرات متقدمة في الحقل الدبلوماسي، وقد شرح السير الكبير شمس الأئمة السرخسي الفقيه الحنفي الشهير المتوفى عام 1090م، وتبع ذلك سلسلة كتب تتحدث في آداب الملوك وأنظمة الحكم سنأتي بعد قليل على تفصيل القول فيها.

ولكن الدبلوماسية في العصر الذهبي للإسلام وإن غابت مصطلحاُ فقد كانت حاضرة ومؤثرة، فقد اعترفت الأمة الإسلامية بوجود الدول المجاورة ونشأت علاقات حقيقية بين الدولة الإسلامية الناشئة في عصر الرسول وبين هذه الدول، وفي عهد الراشدين والخلافة التالية وتعززت فكرة التواصل مع دول غير محاربة، وبناء علاقات دبلوماسية حقيقية معها.

وبناء على ذلك ﻴﻤﻜﻥ ﻟﻠﺒﺎﺤﺙ ﺘﻌﺭﻴﻑ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻹﺴﻼﻡ ﺒﺄﻨﻬﺎ ﻤﺠﻤﻭﻋﺔ ﻤﻥﺍﻟﻘﻭﺍﻋﺩ ﻭﺍﻷﺤﻜﺎﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺘﻔﻕ ﻤﻊ اﻟﺸﺭﻴﻌﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺘﻌﺒﺭ ﻋﻥ ﺭﻏﺒﺔ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﻓﻲ ﺘﻌﺎﻤﻠﻬﺎ ﻤﻊ ﻏﻴﺭﻫﺎ ﻤﻥ ﺍﻟﺩﻭل ﺒﻤـﺎ ﻴﺤﻘﻕ ﻤﺼﻠﺤﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺠﻤﻴﻊ ﺍﻷﺤﻭﺍل ﻭﺍﻟﻅﺭﻭﻑ([27]).

ولا شك أن الدبلوماسية بهذا المعنى لم تفرد ببحث مستقل ولكنها وردت في تضاعيف بحوث كثيرة، ويمكن التماسها في الفقه الاسلامي في أبواب كثيرة، منها باب المعاملات، وأحكام الجهاد، والمعاهدات.

وربما كان أكثر باب شرح فيه الفقهاء هذه المسألة هو باب الذمة والعهد، فقد أفاضوا في القول حول شروط منح الذمة للمعاهدين والمستأمنين والفرق بين أهل الحرب وأهل العهد وأهل الذمة.

وقد استخدم الفقهاء كلمة الحكمة مكان كلمة الدبلوماسية كما استخدموا لفظ أدب الملوك وآداب السلوك وسير الملوك، وآداب المعاهدين، وشرائط العهد، وغيرها من المصطلحات.

وعرفت الحكمة بأنها: فعل ما ينبغي على الشكل الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي.

كما عرفها آخرون بقولهم: هي معرفة الاشياء على ما هي عليه في الواقع حكما وأمراً، ثم العمل بمقتضاها.

ولا يمكن اعتبار ذلك تعريفا للدبلوماسية، فهي تعريفات عامة لا تتناول مباشرة العمل الدبلوماسي، ولكن يمكن اعتبار الدبلوماسية فرعاً من الحكمة، أو هي الحكمة المتصلة بسياسة الناس والعلاقات الدولية، وبهذا المعنى سنجد فقهاً غنياً يقدم كثيراً من جوانب المعرفة في هذا السياق.

الدبلوماسية في العهد النبوي:

منذ فجر الإسلام أعلن القرآن الكريم عالمية الرسالة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ وأدرك الناس أن الإسلام رسالة إخاء إنساني، هدفها إعمار الأرض وبناء الحياة على أساس من التعارف والتعاون والتكافل، وتعززت في التوجيه والممارسة إرادة تأسيس بناء علاقات دولية صحيحة، تنظمها قيم العدالة والمساواة التي قررتها مبادئ الإسلام الكبرى.

وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال حياته الكريمة فقهاً دبلوماسياً غنياً من خلال بناء علاقات مسؤولية مع الملوك حول الجزيرة العربية، كما عقد أوثق الصلات بزعماء القبائل في جزيرة العرب، وحمل معهم مسؤولية التعاون لبناء الدولة على أرض جزيرة العرب بعد أن عاش العرب قروناً نهباً لكل طامع، يتناوب على استعمارهم الشرق الفارسي والغرب الرومي، وتمكن عبر كفاح دبلوماسي صاحبته إرادة حقيقية في بناء الدولة بكل الوسائل المتاحة من قدرات مالية وعسكرية واجتماعية، حتى صارت الدولة العربية مستعدة لترث الحضارات التاريخية في العالم القديم خلال أقل من عشر سنوات.

وكذك فإن السيرة النبوية طافحة في بيان النجاحات التي حققها رسول الله سواء في سفارات السلم أو في سفارات الحرب، وسواء في علاقات الوفاق أو علاقات المواجهة، وهي تقدم الدليل المنطقي على أن الأصل في علاقة الدولة الإسلامية بالعالم من حولها هو التوازن والاعتدال والمصالح المتبادلة، واحترام القيم الإنسانية وأن النبي الكريم استخدم أرقى فنون الدبلوماسية لحل النزاعات وقطع أسباب الحروب.

وعلى الرغم من طبيعة المواجهة الشديدة التي لقيتها الرسالة في أيامها الأولى من قبل الوثنية العربية، ثم المواجهة المباشرة مع الإمبراطورية الفارسية والبيزنطية، وما صاحب ذلك من حروب ونزاعات، فإن المسلمين نجحوا في التأسيس لعلاقات دبلوماسية متوازنة، تعتمد مبدأ العلاقات السلمية بين الدول، وتوفر فرصاً مستمرة لحل النزاعات بالطرق السلمية، وبناء علاقات دولية مسؤولة، وتسهم في حماية العيش المشترك وحسن الجوار.

ومنذ فجر الإسلام أقام النبي صلى الله عليه وسلم علاقات دبلوماسية ناجحة مع النجاشي ملك الحبشة ومع المقوقس ملك مصر وتبادل معهما الهدايا والوفود، وأقام علاقات متينة مع نصارى نجران وجيزان، وكذلك مع قبائل وثنية شهيرة كخزاعة والملك أكيدر بن عبد الملك الكندي وعرب الحيرة من المناذرة.

ويمكن رصد طبيعة العلاقات التي حققها النبي الكريم في الحقل الدبلوماسي في الأنواع التالية:

  • معاهدات حسن جوار وصداقة كما في حلفه مع النجاشي.
  • معاهدات تحالف استراتيجي كما في حلف خزاعة، وحلفه مع الأوس والخزرج يوم العقبة.
  • معاهدات عدم اعتداء كما في ودّان والعشيرة ودومة.
  • معاهدات هدنة كما في صلح الحديبية.
  • معاهدات نتج عنها اعتراف دبلوماسي وسياسي كما في صلح الحديبية.
  • معاهدات سلام كما في معاهدة نصارى نجران.
  • الزواج الدبلوماسي وأثره في المصالحات بين القبائل.

وسنأتي على تفصيل جوانب مهمة في الدبلوماسية النبوية الحكيمة خلال فصول الكتاب، وبوجه خاص خلال سفاراته الناجحة التي اختار لها أفضل الدبلوماسيين وأشرف على أدائهم، ونحيل هنا إلى كتاب التراتيب الإدارية للدولة النبوية للعلامة عبد الحي الكتاني الذي أفرد فصولاً طويلة لشرح الجوانب الدبلوماسية في سيرة النبي الكريم، والأصول الدبلوماسية التي علمها للناس واستقرت في عرف العلاقات الدولية من بعده([28]).

كما تجدر الإشارة إلى أن النبي الكريم حقق أيضاً مكاسب دبلوماسية مهمة عبر ما اصطلح على تسميته بالزواج السياسي، وقد كان هذا اللون من الزواج شائعاً في العصور الوسطى، ويجب القول إن النبي الكريم لم يلجأ إلى هذا اللون من الزواج أبداً في حياة خديجة رضي الله عنها وهي أم أولاده وشريكة حياته، ولكن في إطار قيادة الدولة في المدينة، فقد تزوج مرات متعددة، وكان لكثير من هذا الزواج تأثير مباشر في الصلح بين القبائل العربية أو تخفيف غلواء الأحقاد والكراهية، فمن ذلك زواجه برملة بنت أبي سفيان وهو زعيم المشركين في قريش، وكانت رسالة مودة مباشرة لزعماء قريش للتخلي عن حربهم على الإسلام، وكانت خطوبتها عبر النجاشي رسالة أخرى في بيان مدى انتشار الرسالة بين الملوك وحاجة قريش إلى بناء علاقات جيدة مع الرسول والرسالة.

وكذلك كان لزواجه بجويرية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود بعد معركة خيبر أثر كبير في منع استرقاق اليهود الخاسرين بعد خيبر، وكذلك فإن زواجه من جويرية بنت الحارث المصطلقي بعد حربه مع المصطلق كان له أيضاً أثر كبير في إنهاء الحرب مع المصطلق، وبدء مرحلة جديدة من العلاقات تأسيساً على هذه المصاهرة الكريمة.

وفي عمرة القضاء فيما كان الناس يؤدون مناسكهم كان رسول الله مهتماً بتحقيق مفاجأة كبيرة وهي زواجه من ميمونة بنت الحارث وإصراره من جديد على مصاهرة بيوت قريش الرافضة للإسلام، وقد كان لهذا الزواج أيضاً تأثير كبير في تسارع القرشيين للدخول في الإسلام.

إن التعبير المستخدم في كتب السير هو حكمة الرسول الكريم في زواجه ببنات زعماء العرب، ولا بأس بأن نقول إن المقصود بالحكمة هنا تحديداً هو هذا الجانب الدبلوماسي الذي عاد بفائدة كبيرة على الناس والوفاق بين القبائل.

الدبلوماسية في التاريخ الإسلامي:

كان على فترة الخلفاءالراشدين أن تنجز الاستحقاق الكبير المتمثل في فتح بلاد العرب وتخليصها من المستعمر الأجنبي فارسياً أو رومياً، فقد كانت أرض العرب التاريخية في الشام والعراق تعاني من حكم الغريب المستعمر الروم في الشام والفرس في العراق، وكان تخليص أرض العرب من هذا الاستعمار واجباً دينياً ووطنياً، تقره سائر التشريعات والأعراف، ولذلك فقد اكتفى الخلفاء بإرسال الرسل لإبلاغ مواقف محددة ضد هؤلاء المستبدين من قادة العجم والروم، وقد اشتهر هؤلاء السفراء بالشجاعة والذكاء والوضوح، واشتهر من هؤلاء ربعي بن عامر والنعمان بن مقرن، والمغيرة بن شعبة، والأشعث بن قيس، وفرات بن حبان، وعطارد بن حاجب، وحنظلة بن الربيع، وعمرو بن معد يكرب.

وخلالئذ لم تنشأ علاقات دبلوماسية بالمعنى المعروف مع هذه الدول لأنها كانت دول احتلال، وكان المطلوب طردها من أرض العرب وليس إقامة العلاقات الدبلوماسية معها، وهكذا كان.

ومع ذلك فإنه يمكن رصد عدد من نشاطات الخلفاء الراشدين في الحقل الدبلوماسي ومنها ما أشار إليه الدكتور بوعباه بقوله:

كما اهتم عمر بن الخطاب بالرسل وانشأ ديواناً للرسل، يتضمن الرسائل التي تأتيه بواسطة الرسل، واعتمد وسيلة القضاء كأفضل وسيلة لتسوية المنازعات، ومثل العهد الذي منحه عمر بن الخطاب إلى أهل القدس أفضل وثيقة تاريخية تمثل قواعد القانون الدولي الإنساني([29]).

وخصص عثمان بن عفان مبالغ معينة من بيت المال لاستقبال الرسل الأجانب وتغطية نفقات إقامتهم. وعلى الرغم من التطور الذي يشهده القانون الدولي في الوقت الحاضر إلا أن الدولة لا تتحمل نفقات إقامة البعثات الأجنبية في بلدها(.([30]

وبعد أن اكتمل فتح أرض العرب التاريخية، وتم إخراج المستعمر الرومي والفارسي منها، وعاد الروم إلى بلادهم ازدهرت من جديد الدبلوماسية الإسلامية ونشأت الحاجة لبناء علاقات حسن جوار مع الأمم المجاورة، لاسيما وأن عدداً من الخلفاء كانوا لا يرون الذهاب بعيداً في الفتح، فقد اشتهر عن عمر بن الخطاب قوله: “حسبنا لأهل العراق سوادهم والأهواز، وددت لو أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم ولا يصلون إلينا”([31])، ولولا تكرر الإعتداء من فارس وإصرارها على إعادة احتلال العراق لقامت علاقات دبلوماسية ناجحة بين الفرس وبين عمر ولكن الاعتداءات المتكررة دفعت بجيوش جديدة بقيادة الأحنف بن قيس إلى بلاد فارس.

وكذلك اشتهر موقف عمر بن عبد العزيز الذي كان يحبذ انتشار الدعوة والهداية عن طريق الحجة والبرهان أكثر من الغلبة والسلطان واشتهرت كلمته العظيمة: “إن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً”([32]).

واشتهرت العلاقات الدبلوماسية الناشطة بين الخلفاء الأمويين والبيزنطيين، ومن هؤلاء عبد الملك بن مروان الذي أرسل القاضي شراحيل الشعبي وهو من مشاهير التابعين إلى الإمبراطور البيزنطي جستنيان الثاني وقد أثنى الإمبراطور جستنيان على لباقة الشعبي وحكمته وحسن سفارته([33]).

كما اشتهر هارون الرشيد بنجاحاته الدبلوماسية ومنها معاهدة السلام التي أرساها مع الإمبراطورة البيزنطية أريني وما تلاها من سلام متبادل، ثم غضبه بعد ذلك على خلفها الإمبراطور نقفور الذي نقض المعاهدة فغزاه هارون الرشيد واستولى على مدينة هرقله شرق القسطنطينية من أرض تركيا اليوم، وهي المدينة التي كان ينصَّب فيها الإمبراطور الروماني، ثم ألزمه الجزية، وتحول هارون في علاقاته الدبلوماسية إلى الأباطرة الرومان الغربيين (الفرنجة) الذين بدأوا مع شارلمان في آخن بألمانيا، وأرسل هارون الرشيد وفداً من المبعوثين، معهم الكثير من الهدايا والابتكارات الإسلامية العلمية – ومنها الساعة الميكانيكية الدقاقة- ومنها كذلك لعبة الشطرنج، وبدوره أبدى شارلمان وحاشيته إعجابهم بتلك الهدايا القيمة وبما وصل إليه المسلمون- وقتذاك، من اختراعات وحضارة وتقدم([34]).

وقد تطورت هذه العلاقات فيما بعد وأصبح لها أصولها وتقاليدها، وبلغت حد التعاون الاقتصادي والتعاون في فض النزاعات، كما تشير إلى ذلك رسالةً وجَّهها إمبراطور الرومتيوفيل 829م إلى الخليفة العباسي المأمون بشأن تبادل الأسرى وإعادة الحياة الاقتصادية بين المسلمين والروم، وجاء في تلك الرسالة: “وقد كتبتُ إليك داعياً إلى المسالمة، راغباً في فضيلة المهادنة؛ لنضع أوزار الحرب عنَّا، ويكون كل واحد لكل واحد وليّاًوحزباً، مع اتصال المرافق، والفسح في المتاجر، وفك المستأسر، وأمن الطَّريق”.

وردَّ الخليفة المأمون مجيباً طلب الإمبراطور البيزنطي؛ حتى تعود الحياة بين الطَّرفين إلى مجراها الطبيعي، وكان يسمح لحاملي تلك الرسائل بزيارة معسكراتِ اعتقال الأسرى؛ ليتأكدوا من حُسن معاملتهم، وليتعرفوا على كلٍّ منهم، وكان من أغراض الدبلوماسية الإسلامية محاولةُ معرفةِ قوَّة جيرانهم، ومدى بأسهم، والتأكُّد من صحة طلب الفريق الآخر للصُّلح، أو للمهادنة، أو تبادل الأسرى، كما كان بين المأمون وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إليه يسأله إنفاد ما يختار من الكتب القديمة المخزونة بالروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم: الحجاج بن مطر وابن البطريق وسلما صاحب بيت الحكمة فأخذوا ما اختاروا وحملوا إليه فأمرهم بنقله فنقل وكان يوحنا بن مأسويه ممن ينفد إلى الروم وكان محمد وأحمد والحسن بنو شاكر المنجم ممن عني بإخراج الكتب وكان قسطا بن لوقا البعلبكي قد حمل معه شيئا فنقل له(([35].

وكتب المأمون إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنقاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلاد الرّوم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع. وأخرج المأمون لذلك جماعةً منهم الحجَّاج بن المطران وابن البطريق وسلمان صاحب بيت الحكمة وغيرهم. فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، وقيل أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربيّة مثلاً بمثل([36]).

وكان من مهمة السفراء أن يعلَموا حالة الطرُق والأمكنة التي توجد فيها المروج والأعشاب والحشائش للعلف، وكذلك قوَّة الجيش ومَؤونته في العَدَد والعتاد وفي الدِّفاع والهجوم، وأن يعرفوا كل ما يتعلق بأمور البلاد الأجنبية من النواحي الشخصية والعامة، كما أن الدُّبلوماسية الإسلامية في العهد العباسي كانت تتوخَّى من سفاراتِها أغراضًا علمية.

وفي هذا السياق أيضاً ما كان يقوم به المأمون من شراء كتب الحكمة من الرومان عبر سفراء ومندوبين يمثلون الخليفة، ويرسلون نفائس الكتب إلى بغداد حيث تتم ترجمتها إلى العربية عبر دار الحكمة.

ومن أمثلة ذلك: أنَّ الخليفة المأمونَ علم أن في القسطنطينية أستاذاً مشهوراً بالرياضيات، فأرسل إلى الإمبراطور البيزنطيتيوفيل سفارةً خاصة تحمل رسالة شخصية تطلب منه أن يسمح للأستاذ ليو بالحضور إلى بغدادَ فترة قصيرة، وقال المأمون في رسالته: “إنه يعتبر ذلك عملاً ودياً، ويعرض على الدولة البيزنطية صلحاً دائماً، وألفَيْ قطعة ذهبية في مقابل ذلك”، غير أن الإمبراطور البيزنطي رفض هذا العرض السخي؛ لأن بعض أبحاث العلماء كانت تعتبر في ذلك العهد من أسرار الدولة، وقد قامت في العهد العباسي بين العباسيين وروما ومملكة البلغار والهند والصين، بالإضافة إلى القسطنطينية والفرنجة – علاقات دبلوماسية( ([37].

وعرف العباسيون نظام المراسم واستقبال الرسل والاحتفاء بهم. إذ كانوا يخصون السفير ومرافقيه باستقبال حافل على الحدود ومرافقته حتى دخول العاصمة، حيث يجد بانتظاره شخصية سامية، وينزل ومرافقه قي قصر الضيافة، وقد جرت العادة على أن يستقبل السفير من قبل وزير مكلف بالمهمة (الوزير مرتبة أدخلها الفرس للدولة العباسية) يحدد معه موعد لمقابلة الخليفة (أمير المؤمنين) وعندما يحظى بمقابلة أمير المؤمنين يقدم له كتاب (سيده) رئيس دولته، ومن ثم الهدايا التي يحملها له.([38])

ومن نشاطات الدبلوماسية العربية العلميَّة ما قام به الخليفة العباسي الواثق بالله (842 – 847)، إذ أرسل وفدًا إلى الإمبراطور البيزنطي دقليديانوس لزيارة الكهف الوارد ذكرُه في القرآن الكريم([39]).

كما أرسل الخليفة المتوكل نصر بن الأزهر سفيراً إلى إمبراطور الروم ميخائيل الثالث لدراسة موضوع تبادل الأسرى وقبول الفداء بين المسلمين ودولة الروم. وقد نجح هذا السفير في مهمته وافتدى 2300 أسير من المسلمين كانوا في بلاد الروم([40]).

واشتهر من السفراء السفير يحيى الغزال الذي عمل للأمير عبد الرحمن الثاني الأموي، وقد قام بعدة سفارات ناجحة أشهرها مع الإمبراطور البيزنطي تيوفيلوس وزوجته تيودورا، وقد نقل المقري في نفح الطيب أن الإمبراطور وزوجته أعجبا بالسفير الشاعر الفارس، وخف على قلبه، وطلب منه أن ينادمه فامتنع عن ذلك واعتذر له بتحريم الخمر([41]).

ثم قام بسفارة أخرى إلى بلاد الدنمارك والتقى فيها نوركايوس ملك النورمان عام 844 م وتمكن من عقد اتفاقية صلح أنهت فتيل نزاع كان يوشك أن ينفجر بين أوروبا وبين المسلمين في الأندلس.

واشتهرت بعد ذلك السفارات المختلفة بين الحمدانيين والأخشيديين والسلاجقة والزنكيين والأيوبيين، وغيرهم من الدول الإسلامية التي اجتهدت أن تؤسس علاقات مستقرة مع الدول المجاورة.

على أن دراسة تاريخ العلاقات الدبلوماسية وتطورها يحتاج إلى بحث مستقل، وبحسبنا أن نشير هنا أن هذا اللون من العلاقات الدبلوماسية كان حاضراً خلال التاريخ الإسلامي كله، في أحوال الحرب وأحوال السلم، وهو أوضح دليل أن المسلمين خلال التاريخ كانوا يسعون لعلاقات دبلوماسية جيدة مع جيرانهم، ولم يكونوا يرون في الجهاد إعلان حرب على العالم، بل كانوا يرون الجهاد حرباً وقائية تفرضها الضرورة لحماية الأمة من أعدائها.

التطور الإيجابي والسلبي لعلاقة الأمة الإسلامية بالمجتمع الدولي:

وفي الإطار الفلسفي فإن القرآن الكريم طرح عدداً من القيم التي تحكم صلة الدولة المسلمة بغيرها من الدول انطلاقاً من آية الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.[42]

وواضح من سياق الآية الكريمة أن التعارف هو غاية هذا التنوع الذي يقوم في العالم، ويجب القول إن التعارف هو أصل في العلاقات البيضاء بين البشر في الأرض، حين تكون العلاقة قائمة على أساس الأسرة الإنسانية، قبل أن تتعرض لأي تطور سلبي أو إيجابي.

وأشار القرآن الكريم في آيات كثيرة إلى إقرار الاختلاف بين الناس، واعتبار ذلك الاختلاف محموداً إذا كان في إطار التنوع والاحترام، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم﴾([43]).

وحين تتطور العلاقات بين البشر إيجاباً وسلباً فإن القرآن الكريم طرح قيماً أخرى للعلاقات بين الأفراد والدول، ولم يقبل من المسلم أن يستمر في لغة الصفح والغفران في حين أن الآخرين يمارسون العدوان والقتال، بل طرح خيارات واقعية متعددة تتنوع بحسب واقع الأسرة الدولية وتطور العلاقات بين الدولة الإسلامية ونظرائها في العالم.

ففي السياق الإيجابي لم يكتف بالتعارف وإنما طرح سلسلة من العلاقات الإيجابية تبدأ بالتعارف ثم التنافس ثم التعاون ثم الإخاء ثم التراحم ثم الإيثار، وفي الجانب السلبي فإنها تبدأ أيضاً بالتعارف ولكنها تتطور هبوطا إلى التدافع حتى تبلغ في النهاية القتال والمواجهة.

ويمكن قراءة هذه الحقيقة في كتاب الله من خلال تتبع الوصايا القرآنية الحكيمة في هذا السبيل:

التطور الإيجابي:

  • التعارف:﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾([44]).
  • التنافس:﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ ([45]).
  • التعاون:﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾([46]).
  • التراحم:﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾([47]).
  • الإيثار:﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾([48]).
  • الإخاء:﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾([49]).

ومن الطبيعي أن كل واحدة من هذه القيم مرتبطة بالسلوك المقابل الذي يقوم به الآخر ويحدد موقعه من منظومة القيم في إطار العلاقات المتبادلة.

التطور السلبي:

وبالمقابل فإن هذه القيم تتوجه هبوطاً لمواجهة سلوكيات شائنة يبادل بها الآخر موقف الأمة من التعارف والتكامل، فتتجه القيم إذن من:

  • التعارف: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾([50]).
  • الجدال: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾([51]).
  • المعاملة بالمثل: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾([52]).
  • الحذر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً﴾([53]).
  • التربص: ﴿قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ﴾([54]).
  • الاستعداد: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾([55]).
  • التدافع: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ﴾([56]).
  • القتال: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾([57]).

وهكذا فإن العلاقة الطبيعية في الإسلام تبدأ بالتعارف ثم تتوجه صعوداً أو هبوطاً بحسب سلوك المتلقي، والأمر يصدق على العلاقة بين الأفراد وعلى الواقع السياسي بين الدول.

(تصور للعلاقات البيضاء بين المجتمع الإسلامي والمجتمعات الأخرى القائمة على منطق لتعارفوا)

والتعارف: قيمة بيضاء ومشتركة، ومنها يبدأ تطور العلاقات سلباً أو إيجاباً، وهي أدنى سلم الإيجاب وأعلى سلم السلب.

وقد قدمت الشريعة الخاتمة سبلاً واضحةً لبناء علاقة متينة من قيم التفاهم والتعاون، وفي إطار العقيدة على سبيل المثال فإن العقيدة الإسلامية تقوم على ستة أركان، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر.

ولدى الملاحظة البصيرة نجد أن الإيمان في الإسلام يرتكز على ركنين اثنين يتصلان مباشرة بالعلاقة الحسنة مع الآخر، حيث أمر الإسلام بالإيمان بالأنبياء جميعاً والكتب السماوية، وهذا الإيمان هو أروع مدخل لبناء ثقافة الحب والسلام بين المسلم وبين العالم، وبناء حوار إيجابي بناء يخدم الجميع.

فمن المعلوم أن الإيمان بالأنبياء يقتضي ضرورة احترام هديهم ونورهم والإيمان بالكتب السماوية يقتضي حكماً احترام تعاليمها وهديها، والتعامل إيجابياً مع الموروث منها، وبناء المقاربات الإيجابية بين المسلم وبين أتباع الأنبياء جميعاً.

وقد حقق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الرائعة في بناء علاقة حوار إيجابي متوازن، تجلى في دستور المدينة الذي كتب فيه ما يضمن حقوق كل المقيمين في المدينة بغض النظر عن أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم، كما أنه صلى الله عليه وسلم فتح أبواب المدينة لأبناء الأديان الراغبين بالتعرف على سماحة الإسلام وقيام علاقات إيجابية بناءة، وحين جاءه وفد نصارى نجران كرمهم وأنزلهم في مسجده الشريف وأقاموا فيه زمناً يأكلون ويشربون، ومع أنهم لم يعلنوا صراحة دخولهم في الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم استمر في حوارهم وإكرامهم ودعا لهم بالهداية، وقد جاءه كثير منهم فيما بعد مسلمين.

إن ثقافة التعاون الإيجابي بين الناس تتكرر في كل سورة في القرآن الكريم وقد حققها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أتم وجه، ولا نعلم أن النبي الكريم قتل أحدا لمخالفته في الرأي أو إصراره على كفره، وإنما قاتل من قاتلوه وحارب من حاربوه وسالم من سالموه وآخى من آخوه، وأعطى أعظم مثل للإخاء والتراحم.

مشروعية التمثيل الدبلوماسي في الإسلام:

يتأسس التمثيل الدبلوماسي في الإسلام فقهياً على هدايات الكتاب والسنة، كما يتأسس على القواعد الكلية للفقهاء في الاستحسان والمصلحة المرسلة والعرف.

أولاً: من القرآن الكريم:

فمن الكتاب العزيز ورد النص القرآني الكريم بجواز منح العهد والأمان لغير المسلم، ولو سبق منه الحرب على الإسلام، وذلك في قوله تعالى:

﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾([58]).

وقد نزلت هذه الآية الكريمة في يوم الفتح الأعظم، وفيها الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء الأمان للمشركين إذا طلبوه، على الرغم من بقائهم على الكفر، طالما أنهم لا يحاربون المسلمين، ولعل هذا الأمان الذي نالوه يمكنهم من فهم أعمق لروح الإسلام وهدايات الشريعة.

ويجب أن نشير هنا أن هذه الآية الكريمة إنما نزلت في المشركين الذين كانوا يحاربون الإسلام ووضعوا السلاح، فالأمر مع من لم يحاربوا الإسلام أصلاً مشروع من باب أولى، وهو حال سائر السفراء اليوم من الدول التي لا تحارب المسلمين.

ﻗﺎل ﺍﺒﻥ كثير: ﻭﺍﻟﻐﺭﺽ ﺃﻥ ﻤﻥ ﻗﺩﻡ ﻤﻥ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺤﺭﺏ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭ ﺍﻹﺴﻼﻡ في  أداء ﺭﺴـﺎﻟﺔ، ﺃﻭﺘﺠـﺎﺭﺓ ﺃﻭ ﻁﻠﺏ ﺼﻠﺢ ﺃﻭ ﻤﻬﺎﺩﻨﺔ، ﺃﻭ ﺤﻤل ﺭﺴﺎﻟﺔ ﺃﻭ ﻨﺤﻭ ﺫﻟﻙ ﻤﻥ ﺍﻷﺴﺒﺎﺏ ﻭﻁﻠﺏ ﻤﻥ ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺃﻭ ﻨﺎﺌﺒﻪ ﺃﻤﺎﻨاًﻤﺘﺭﺩﺩاً ﻓﻲ ﺩﺍﺭ ﺍﻹﺴﻼﻡ ﻭﺤﺘﻰ ﻴﺭﺠﻊ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭﻩ ﻭﻤﺄﻤﻨﻪ ﻓﻠﻪ ﺫﻟﻙ ([59]).

وهذا الفهم الذي ذهب إليه شيخ المفسرين ابن كثير هو التطبيق العملي لمفهوم السفارة والعمل الدبلوماسي الذي تطور مع الأيام، وكما نلاحظ هنا فإن ابن كثير يتحدث عن السفير القادم من بلاد الحرب، وأنه يحق للإمام أن يعطيه عهداً وأماناً، ولا شك أن السفير القادم من بلاد العهد، ولا يمثل بلداً عدواً محارباً فهو مشمول من باب أولى.

وكذلك فإن النصوص العامة في القرآن الكريم جاءت بحرمة الدماء وتجريم الاعتداء على الناس بغير الحق، ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾([60]).

كما دعت نصوص القرآن الكثيرة إلى الدخول في السلم وتعزيزه، والعمل على حمايته، وتشجيع الصلح بين الناس ونزع فتيل الصراعات.

قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾([61]).

وقال: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾([62]).

وكذلك فقد جاءت النصوص بتكريم الإنسان وحقه في الانتقال والسفر والعمل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَوَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِوَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾([63]).

وظاهر أن هذا التكريم والتفضيل لا يختص بدين دون آخر أو ملة دون أخرى بل هو تكريم لسائر بني آدم، وإنما يخرج منه المعتدون، فقد أمرنا بمحاربة المعتدين: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾.[64]

ثانياً: من السنة النبوية:

أرسل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم السفراء إلى الملوك وزعماء القبائل وأوصاهم بوصاياه وهو ما سنعرض له في الفصول التالية، وقد كان له سفراء في وقت السلم وسفراء في وقت الحرب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه يزودهم بخاتمه وكتبه ويوفر لهم حرساً وصحبة في السفر.

وقد اشتهرت أخبار سفرائه صلى الله عليه وسلم إلى الروم والفرس والحبشة وغسان واليمن وهو ما سنفرد له فصلاً خاصاً في هذه الدراسة.

كما استقبل النبي صلى الله عليه وسلم سفراء الملوك والقبائل الوافدين عليه وأكرم وفادتهم ووفر حمايتهم، فاستقبل سفير النجاشي وسفير المقوقس، وكان الوفد فيهما حميمياً ودوداً، كما استقبل خرخسره وبابويه سفيري كسرى القادمين من عندواليه على اليمن الملك باذان على الرغم من أن الرسالة التي جاءا بها كانت تنص على أن يحضرا رسول الله إلى كسرى ليقتله!!

ومع ذلك فقد استقبل رسول الله السفيرين وتلطف في إبلاغهما الرسالة والدعوة، واستمع إلى رسالتهما ولم يبطش بهما على الرغم من لؤم الرسالة التي يحملانها، وذلك إقراراً لمبدأ حصانة الرسل، وبعد أن استقبلهما أسبوعين في المدينة حملهما رسالة رد لباذان والي فارس على اليمن، ثم أعطى خرخسره منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان([65]).

ولعل من أوضح الأدلة على حصانة السفراء كذلك استقباله لرسولي مسيلمة الكذاب، ابن النواحة وثمامة ابن أثال، حيث استمع إليهما وحاورهما على الرغم من أن رسالة مسيلمة التي يحملانها كانت في غاية الاستفزاز والبغي، حيث ادعى مسيلمة النبوة وغلب على نجد وما حولها وشق بها عصا الطاعة وكانت أخطر ردة في الإسلام([66]).

ومع أن الرسولين أعلنا صراحة ذلك، ولكن رسول الله لم يأذن لأحد أن يمسهما بسوء وأكد أن السفير ناقل للرسالة، ويجب أن يحظى بالأمن والحماية حتى يؤدي رسالته.

ثالثاً: الاستدلال بالقواعد الشرعية الكلية:

كما يمكن أن نستدل بالقواعد الشرعية الكلية فإرسال الرسل جائز استحساناً ولو ورد على خلاف القياس، حيث رأى بعض الفقهاء أنه معارض للنص الصريح بوجوب إخراج المشركين من جزيرة العرب، فالقياس عدم الجواز لظاهر النص، ولكن الاستحسان الجواز لما في ذلك من عموم فائدة وخير، ولأن النهي محمول على المشركين المحاربين وليس على عموم المشركين.

كما يمكن الاستدلال بالمصلحة المرسلة، فإن وجود السفراء والسفارات من أعظم حاجات الناس ومن أهم الضروريات لتأمين معاش كريم للناس في وثائق السفر وفي التواصل مع البلد الأم، وفي نشر الدعوة والرسالة عبر السفارة وغير ذلك من المقاصد المشروعة النبيلة، والأمور بمقاصدها، والعمل الدبلوماسي ليس مما ورد النص مباشرة عليه لا منعاً ولا إيجاباً، فيكون من المصالح المرسلة التي يتعين على ولي الأمر أن يحققها لمصلحة الأمة، وهذا يجعل أمر إرسال السفراء لا يتوقف عن المباح بل يتعداه إلى المستحب وربما الواجب الذي تعلقت به مصالح الأمة.

كما يمكن الاستدلال باستقرار العرف في العلاقات بين الدول، والمعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وفي قيام هذه السفارات فوائد عظيمة للأمة وفي إغلاق هذه السفارات مضار كثيرة وتعطيل لمصالح العباد ومنافع الناس وتفويت لهذا الثغر الجليل من ثغور الأمة.

كما يستدل بعموم قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، فقد صارت هذه العلاقات الدولية أعرافاً ملزمة لسائر شعوب الأرض، والمسلمون أمة منهم، وقد التزم العمل بهذه الاتفاقيات من سبق من الحكام، ولا وجه لنقض ما اتفقوا عليه، والعمل بالاستصحابفيما لا يخالف صريح الكتاب والسنة.

كما يستدل بالعموم في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.[67]

ولا شك أن هذه الأدلة تتناول بشكل مباشر السفارات المؤقتة التي تنتهي بانتهاء المهمة التي كلف بها المبعوثون، وهو واقع سائر السفارات التي عرفت في عهد النبوة سواء من سفراء الإسلام إلى الملوك الأخرى أو من سفراء الملوك إلى دار الإسلام.

حكم التمثيل الدبلوماسي الدائم في الإسلام:

أما السفارة الدائمة بالمعنى المعروف حالياً فهو أمر محدث كما أشرنا إليه، وقد بدأ مع قيام الدولة الحديثة في القرن السابع عشر الميلادي، ولكن يمكننا القول إن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بعض السفراء المقيمين، ويمكن أن نشير هنا بشكل خاص إلى ثلاثة من سفرائه الكرام:

  • جعفر بن أبي طالب الذي أوفد في سفارة فريدة وهامة إلى النجاشي ملك الحبشة، وقد أمر أن يقيم فيه، وعلى الرغم من دخول المدينة في الإسلام وهجرة النبي صلى الله عليه إليها فقد أمر أن يقيم بالحبشة إلى السنة السابعة حيث أتم في سفارته أربعة عشر عاماً متصلة عادت بأفضل النتائج على البلدين.
  • مصعب بن عمير الذي أوفد في سفارة دائمة إلى يثرب، واستقر بها نحو عامين اثنين حتى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة.
  • أبو عبيدة بن الجراح الذي أوفده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فكان يمثل الدولة الإسلامية في نجران ويقوم بجباية الجزية من النصارى وفق العقد الذي تم الاتفاق عليه.

فهؤلاء الثلاثة يصدق عليهم وصف سفراء مقيمين لأنهم كلفوا بمهام رسمية مستمرة في بلاد غير مسلمة.

وهناك صحابة كثر كلفوا بمهام دائمة في البلاد التي اختارت الإسلام كما جرى الحال مع اليمن والبحرين وكنده وقبائل العرب الأخرى، فهؤلاء يعتبرون دعاة وهداة أكثر منهم سفراء، كما إن بعضهم كان والياً أو قاضياً وهذا حقل مختلف عن حقل الدبلوماسية.

وقبل أن نتحدث عن موقف الفقهاء في حكم السفارة الدائمة ننوه أنهم قصدوا ببحثهم مدة إقامة السفير غير المسلم في أرض الإسلام، وليس مدة إقامة السفير المسلم في أرض غير المسلمين، فلم يذكروا حداً لأكثر ما يقيمه المسلم سفيراً في دار غير المسلمين، وأناطوا ذلك بمصلحة الأمة وصحة التفويض من ولي الأمر على وجه مستقيم، ولكنهم ذهبوا إلى تحديد إقامة السفير غير المسلم في بلاد المسلمين إلى ثلاثة مذاهب في شأن السفارة الدائمة:

  • الأول: لا يجوز أن تزيد السفارة الطويلة عن أربعة أشهر وهو رأي الشافعية.
  • الثاني: تمتد السفارة إلى سنة ولا يجوز فوق ذلك وهو رأي الحنفية.
  • الثالث: لا حد لمدة السفارة، وهي تمتد طالما كانت تحقق مصالح الأمة وحاجاتها، وهو رأي الحنابلة ووافقهم المالكية.

وقد استدل الشافعية لرأيهم بتحديد مدة السفارة الدائمة بأربعة أشهر بقياس ﺍﻷﻤﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ، ﻭﻤﺩﺓ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ ﻤﻊ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻻ ﺘﺯﻴﺩ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺒﻌﺔ ﺃﺸﻬﺭ([68]) ﻟﻘﻭل ﺍلله ﺘﻌﺎﻟﻰ:

﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّاللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾”([69]).

ﻭﻟﻤﺎ ﻜﺎﻨﺕ ﻤﺩﺓ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ ﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻻ ﺘﺯﻴﺩ ﻋﻠﻰ ﺃﺭﺒﻌﺔ ﺃﺸﻬﺭ، ﻻﺤﺘﻤﺎل ﺤﺩﻭﺙ ﻗﻭﺓ ﺒﺎﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻓﻜﺫﻟﻙ ﻤـﺩﺓ  ﺍﻷﻤﺎﻥ ﺒﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﻤﺴﺘﺄﻤﻨﻴﻥ ﻗﻴﺩﻫﺎ ﻫﺅﻻﺀ ﺍﻟﻔﻘﻬﺎﺀ ﺒﻤﺎ ﻻ ﻴﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻷﺭﺒﻌﺔ ﺃﺸﻬﺭ([70]).

ويبدو من خيار الشافعية أنهم قصدوا السفارة من الدول المحاربة للإسلام، كما يظهر من كلام فقهائهم، فلذلك قيدوا ولي الأمر بإعطاء أمان أو عهد لممثل الدولة المحاربة بأربعة أشهر كما عند الشافعية والزيدية وبسنة كما عند الحنفية.

ولا شك أن من حق الدول المسلمة أن تحتاط لأمنها في أيام الحروب، بل إن كثيراً من الدول تلجأ إلى إغلاق السفارات بين الدول المتحاربة وطرد السفراء لما يعنيه وجودهم من رمزية خطيرة، ولإمكانية أن يقوم عناصر هذه البعثة الدبلوماسية بأعمال تمس أمن الوطن وسلامته.

أما الدول التي ليس بينها وبين الإسلام حرب، وهي التي نسميها دول العهد فلا تتحقق فيها تلك المخاطر، ومن حق الدولة أن تقدر مصلحة الأمة في مدة بقاء هؤلاء السفراء، ولعل هذا هو ما قصده فقهاء الحنابلة باختيارهم تفويض الإمام بمنح ما يراه من أمان وعهد لممثلي الدول غير الإسلامية.

أما الحنفية فقد استدلوا لرأيهم بتحديد أقصى السفارة سنة ﺒﺎﻟﻤﻌﻘﻭل، ﻓﻘﺩ ﻗﺎﻟﻭﺍ: ﺇﻥ ﺍﻷﺼل ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻷﻤﺎﻥ ﻫﻭ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺭﺒﻲ ﻻ ﻴﻤﻜﻥ ﻤـﻥ ﺍﻹﻗﺎﻤـﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺇﻻ ﺒﺎﻻﺴﺘﺭﻗﺎﻕ ﺃﻭ ﺒﺎﻟﺠﺯﻴﺔ، ﻭﻟﻠﻀﺭﻭﺭﺓ ﻴﻤﻜﻥ ﻤﻥ ﺍﻹﻗﺎﻤﺔ ﺍﻟﻴﺴﻴﺭﺓ، ﻟﻤﺎ ﻴﺘﺭﺘﺏ ﻋﻠﻰ ﺫﻟـﻙ ﻤﻥ ﺘﻌﺎﻤل ﺘﺠﺎﺭﻱ ﻭﻏﻴﺭﻩ، ﻭﻴﻤﻜﻥ ﺍﻟﻔﺼل ﺒﻴﻥ ﺍﻹﻗﺎﻤﺔ ﺍﻟﺩﺍﺌﻤﺔ ﻭﻏﻴﺭ ﺍﻟﺩﺍﺌﻤﺔ ﺒﻤﻘﺩﺍﺭ ﺴﻨﺔ، ﻷﻨﻬﺎ ﻤﺩﺓ ﺘﺠﺏ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺠﺯﻴﺔ([71]).

وواضح من التأمل في خيار الحنفية أنهم قصدوا في عقد الأمان هذا ما يكون لأغراض خاصة كتجارة أو زراعة أو إقامة، أما الإقامة للغرض الدبلوماسي ومتابعة العلاقات بين البلدين فهي مسألة محدثة، وهي تتطلب اجتهاداً مستقلاً.

أما الحنابلة والمالكية فقد ذهبوا إلى أن تفويض الإمام (الدولة) بمنح الأمان لمستأمنين ليس له حد في الشرع، وهو مما فوض فيه الإمام المؤتمن على مصالح الرعية، وقالوا: “ﻴﺠﻭﺯ ﻟﻜل ﺴﻔﻴﺭ ﺃﻥ ﻴﻘﻴﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ ﺤﺘﻰ ﺘﻨﺘﻬﻲ ﻤﻬﺎﻡ ﻋﻤﻠﻪ ﺩﻭﻥ ﺩﻓﻊ ﺍﻟﺠﺯﻴﺔ”([72]).

واعترض الحنابلة على دليل الشافعية بالتحديد استدلالاً بآية التوبة: ﴿فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ﴾بقولهم: إن الآية وردت في الهدنة وﺇﻥ ﻗﻴﺎﺴﻬﻡ ﺍﻷﻤﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ ﻗﻴﺎﺱ ﻤﻊ ﺍﻟﻔﺎﺭﻕ، ﻷﻥ ﻋﻘﺩ ﺍﻷﻤﺎﻥ ﻤﺒﻨﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﻟﻤﺔ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻤﺤﺔ، ﻭﻟﺫﻟﻙ ﻓﺈﻨﻪ ﻴﺘﻭﺴﻊ ﻓﻲ ﻤﻨﺤـﻪ ﻟﻐﻴﺭ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﺤﺘﻰ ﺇﻨﻪ ﻴﺘﺼﻭﺭ ﻗﺒﻭﻟﻪ ﻤﻥ ﺍﻷﻓﺭﺍﺩ، ﻭﻫﺫﺍ ﺒﺨﻼﻑ ﺍﻟﻬﺩﻨﺔ([73]).

وهكذا فإنه يمكن التفريع على اختيار الفقهاء الكرام بأن الأقوال الثلاثة محكومة بظروفها، والدولة تختار من هذه الأقوال بحسب حال السفير ومن يمثل، ففي حالة البلد المحاربة فالواجب التضييق، والسماح بسفارات محددة الأجل وقد تكون أقل من أربعة أشهر وفق خيار الشافعية، وقد تمتد إلى عام وفق اختيار الحنفية، في حين أن الدول المسالمة التي تشهد علاقاتنا بها استقراراً ونمواً فلا بأس بأن تمنح الدولة سفراء هذه الدولة عهداً طويلاً بما يحقق مصلحة البلدين، وهذا وفق ما اجتهد فيه الحنابلة والمالكية.

والأصل في التمثيل الدبلوماسي هو الأعراف المتبعة من قبل الدول والشعوب بحيث تكون هذه الأعراف متفقة مع سياسة الأمة وتوجهاتها، وهذا العرف قائم منذ زمن قديم، لذلك فالتمثيل الدبلوماسي القديم لم يكن دائما، بل كان مؤقتاً لتعارف أهله على ذلك، أما الآن فإن الأعراف الدولية قائمة على بقاء التمثيل الدبلوماسي دائماً، وغير مؤقت بسنة واحدة.

وفضلا عن قيام التمثيل الدبلوماسي على الأعراف المتبعة من قبل الدول، فهو يقوم كذلك على مبادئ وقواعد مكملة، كمبدأ المعاملة بالمثل، ويلزم هذا المبدأ الدول كافة معاملة بعثاتها الدبلوماسية بالمثل، وعلى ذلك ينبغي للدولة الإسلامية، أن تعامل الممثلين الدبلوماسيين للدول الأخرى كما تعامل تلك الدول مبعوثي الدولة الإسلامية، فإذا كانت تلك الدول تسمح لممثلي الدولة الإسلامية بالإقامة الدائمة من أجل أداء مهماتهم، فلا يعقل أن تعاملهم – سفراء الدول الأخرى – معاملة قد تضر بهم وبدولهم، كأن لا تسمح لهم بالإقامة فوق سنة إلا بأخذ الجزية منهم([74]).

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه الخيارات الفقهية الكريمة صدرت عن الأئمة الكرام والفقهاء من أتباعهم قبل قيام الدولة الحديثة بالمعنى الذي نعرفه اليوم، ولا بد أن يأخذك العجب أن يظهر من الفقهاء هذا الخيار من الوعي والتسامح في ظروف كانت علاقات الدول تتأسس على الغلبة والقوة والحرب، ولا أشك أبداً أنهم لو شهدوا عصر الدولة الحديثة والاتفاقات الدولية التي تنظم قيام الدول وبناء علاقاتها فسيكون لهم بكل تأكيد فقه متكامل في أصول العمل الدبلوماسي تأسيساً على قيم الإسلام الكبرى في التعارف والتعاون الإنساني، وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة.

وقد أشرنا إلى عدد من السفراء الذين قاموا بأدوار إيجابية كبرى في بناء علاقات دولية متوازنة مع الأمة الإسلامية، ويعد السفير عامر بن شراحيل الشعبي سفير عبد الملك بن مروان إلى إمبراطور الروم جستنيان الثاني، وكذلك يحيى الغزال من أبرز سفراء الأمويين بالأندلس، كما يصنف أبو بكر محمد الباقلاني ونصر بن الأزهر من أفضل من كلفوا بالسفارة في العصر العباسي.

تعيين السفراء واختيارهم:

لا يختلف مبدأ تعيين السفراء في الإسلام عن تعيين أي من موظفي الدولة وخبرائها، وهو يعتمد الكفاءة والأمانة، وهي العبارة التي وردت في القرآن الكريم في سياق اختيار الموظفين على لسان يوسف عليه السلام إذ قال لملك مصر: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾[75]، وعلى لسان ابنة شعيب إذ قالت عن نبي الله موسى: ﴿إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين﴾[76].

ويتطلب اختيار السفراء حكمة ودراسة، أو بتعبير الفقهاء رواية ودراية، والمقصود بالرواية الإحاطة بنصوص الشريعة ووصاياها، وبالدراية فهم مقاصد هذه النصوص، وتنزيلها على الواقع.

وفي الحديث الشريف: “من استعمل على المسلمين رجلاً وهو يرى أن غيره خيراً منه فقد خان الله ورسوله”([77]).

وجاءت النصوص الشريفة بالتأكيد على الكفاءة والنزاهة في اختيار موظفي الدولة، بغض النظر عن أنسابهم ومواقعهم وأمجاد آبائهم، وقال صلى الله عليه وسلم: “اسمعوا وأطيعوا ولو ولي عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة”.

وكان صلى الله عليه وسلم يراقب في موظفي الدولة نزاهتهم وأمانتهم واستقامتهم وكفاءتهم، وقد اشتهر حديث ابن اللتبية الذي أرسله رسول الله إلى اليمن لجباية الخراج، فعاد بهدايا شخصية كثيرة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم منبره الشريف وقال: ما بال العامل نَبعثه فيأتي، فيقول: هذا لك وهذا أهدي إلي، فهلاَّ جلس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر([78]).

وكان يحدث الناس عن عظيم شأن المسؤولية العامة في الناس وما تحتاجه من ضبط وجد وحزم، ولأجل ذلك فقد صد عن الإمارة والسفارة ناساً من خيرة الصحابة، فقد أخرج الإمام مسلم بسنده عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: “قلت يا رسول الله ألا تستعملني”، أي توليني الإمارة، فضرب بيده على منكبي ثم قال: “يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً وأنها أمانة وإنها يوم القيامة خزيٌّ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”([79]).

وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك”([80]).

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً وكلها تشير إلى عظيم المسؤولية التي تلقى على من يلي أمور الأمة في إمارة أو سفارة أو وزارة أو قضاء أو جباية خراج.

لقد كانت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم بليغة ورائدة في اختيار العاملين لديه، وهذا ظاهر في اختياراته لمواهب أصحابه، ففي مثال واضح فقد أسلم خالد بن الوليد وأبو هريرة في وقت متقارب، أما خالد بن الوليد فقد دفعه رسول الله إلى قيادة السرايا والكتائب وعقد له الألوية وأعطاه أعنة الخيل، فكتب الله له الفتح المبين، وأسلم أبو هريرة فدفعه إلى الحفظ والرواية وأمره أن يلزم مجالسه ليروي ما يسمعه فيها، فروى عنه أزيد من خمسة آلاف حديث، ولو أنه دفع أعنة الخيل لأبي هريرة وعهد لخالد بن الوليد بحفظ الروايات لضاعت الفتوح والرواية جميعها

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا                مضر كوضع السيف في موضع الندى.

وفي مثال آخر أرسل عبد الرحمن بن عوف إلى سوق التجارة فكان يقول:”والله لو رفعت حجراً لرأيت تحته ذهباً”، وأفاض الله عليه في العطاء وكانت ثروة لنفسه وللأمة، وأرسل زيد بن ثابت إلى تعلم اللغات وحفظ القرآن ولو أرسل زيداً إلى سوق التجارة وابن عوف إلى حفظ اللغات لضاعت اللغات والتجارة جميعاً.

إنها إذن الحكمة في الاختيار، وإنزال الناس منازلهم، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، وكل ميسر لما خلق له.

وقد أفردنا في هذا الكتاب فصلاً خاصاً عن سفراء النبي الكريم والحكمة والبلاغة في اختيار كل منهم، وتجنباً للتكرار نحيل إلى ذلك الفصل.

ومن الواقعي أن نقول إنه لم ترد في الكتاب ولا في السنة شروط خاصة بالسفراء وأصول تعيينهم، ولكن تتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في اختيار موظفي الدولة والعاملين على الشأن العام يكشف عن جملة من الآداب والشروط في اختيار السفراء خاصة.

ويمكن هنا أن نلتمس من هدي القرآن الكريم والسنة النبوية عدداً من الشروط فيمن يلي سفارة للأمة:

  • أن يكون مواطناً متمتعاً بالحقوق الوطنية في بلاده، وأن لا يكون له ولاء لبلد آخر، لأن السفارة صفة تمثيلية للأمة، فلا يصح فيها الولاء المتعدد، وإذا كانت دولة الإسلام بلداناً متعددة كما هو الحال في زماننا فإنه لا بد أن يكون ولاؤه لبلد واحد منها، وفي هذا السياق نستأنس بقول الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُل،ٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا،الْحَمْدُلِلَّهِبَلْأَكْثَرُهُمْلَا يَعْلَمُونَ﴾([81]).
  • أن يتدرج في سلك وظيفي صحيح، فلا تصح العهدة بهذه المناصب لمن لم يختبر في عمل عام، لأنها مسؤولية وأمانة، ولأنه مؤتمن على مصالح الأمة، فلا يصح المغامرة فيها، بل يحتاط بما هو أتم المعايير وأوثقها، وفي هذا السياق نستأنس بقول النبي الكريم لأبي ذر رضي الله عنه: يا أبا ذر إنك تسأل الإمارة، وإنك امرؤ ضعيف، لا تولين على اثنين ولا تحكمن في مال يتيم([82]).

وفي هذا السياق عموم قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾([83]). فقد دلت الآية في عمومها على وجوب دفع الأمانات إلى أهلها والمنصب أمانة فلا يجوز دفعه لغير أهله، ومن أمارات استحقاقه توفر المرشح لهذا المنصب على الكفاءة المطلوبة والخبرة الوافية.

وفي الحديث: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها والولد راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته والعبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”([84]).

  • أن يكون اختياره عن شورى، وليس المقصود هنا شورى سائر الأمة، بل أهل الحل والعقد في هذا الشأن، بمعنى أن لا ينفرد في التعيين شخص بمزاجه، مهما علت رتبته، لأن تمثيل الأمة مصلحة عامة لسائر المسلمين، وفي هذا السياق نستأنس بما ورد من شورى النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فيما يتصل بتعيينات الأمراء والوزراء والسفراء، ومع مكانته صلى الله عليه وسلم في النبوة والوحي فإنه كان أكثر الناس مشاورة لأصحابه، وفي سبب نزول سورة الحجرات روى البخاري عن عبد الله بن الزبيرأنهقدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال أبو بكر: “أمِّر القعقاعَ بن معبد”، وقال عمر: “بل أمِّر الأقرعَ بن حابس”، فقال أبو بكر:”ما أردت إلا خلافي!!” وقال عمر: “ما أردت خلافك”، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما، فنزل في ذلك قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ”([85]) ….. وواضح من الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على الرغم من تأييده بالوحي يطرح على كبار الصحابة أمر التعيينات الهامة، ويعتمد على رأيهم فيها، وواضح أيضاً أنهم كانوا يجتهدون رأيهم ويدافعون عنه، رجاء اختيار الأكثر كفاءة وصلاحاً.
  • أن يكون مشهوداً له بالكفاءة والخبرة، ولا بد في هذا السبيل من تحصيل برامج تخصصية يعد فيها السفراء للقيام بواجباتهم على أكمل وجه، وفي هذا السياق نتذكر قول رسول الله: “من استعمل على المسلمين رجلاً وهو يرى أن غيرَه خيرٌ منه فقد خان الله ورسوله﴾([86]).

والمنصب أمانة وتسليمه لغير أهله خيانة، وقد قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([87]).

وقد ورد القرآن الكريم شديداً من يقوم بمنع أصحاب الكفاءات من تسلم حقوقهم ومنها حقهم في تولي المناصب التي يستحقون، قال تعالى: ﴿تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾، وسمى هذا اللون من البخس إفساداً في الأرض فقال مستأنفاً:﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾.

  • أن يكون حسن السمت والاسم والوجه والهيئة، وهنا نستأنس بما ورد عن الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث حدد شروط الدبلوماسي في النقاط التالية( ([88]:
    • أن يكون اسمه جميلاً. فالأشياء تؤخذ من عناوينها.
    • أن يكون شكله وسيما جميلاً.
    • أن تكون لغته سليمة.

وقد ورد في هذا المعنى من حديث الحضرمي بن لاحق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أبردتم بريداً، فأبردوه حسن الوجه، حسن الاسم”([89]).

  • أن يكون عارفاً بثقافة البلاد التي يسافر إليها، ولا يجوز إرسال مبتعثين دون أن تكون لهم معرفة كافية بالبلاد التي سيخدمون فيها، وفي هذا السياق نستأنس بقول رسول الله لزيد بن ثابت: “تأتيني كتب بالسريانية فأحب أن أعرف ما فيها فتتبع لي السريانية فتعلمها، فقال زيد فتتبعتها فأتقنتها في سبعة عشر يوماً”([90]).

وفي هذا السياق يتعين على المعاهد الدبلوماسية المتخصصة توفير مزيد من دورات الإعداد للبعثات الدبلوماسية لتأهيلها بثقافة البلاد التي تبتعث إليها، فهي أمانة، ومعرفة المبتعث بآداب الأمم وثقافاتها وقوانينها أدعى لتحصيل نجاح حقيقي لخدمة الأمة، وذهاب من لا يعرف ثقافات البلدان وتاريخها وعاداتها سيؤدي إلى ضياع مصالح الأمة، وقد قال النبي الكريم: “إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: “إذا وسد الأمر إلى غيره أهله فانتظر الساعة”([91]).

  • أن يكونَ من المعروفين بالصلاح والاستقامة، لأن السفير صورة الأمة، وسلوكه ليس شأناً خاصاً يختار فيه ما يشاء إنه يمثل أمته ومن حق الأمة أن تخضعه لحملات مراقبة ومتابعة تتناسب مع حجم المسؤولية التي ستلقى عليه.

وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم في التحذير من تولي المناصب على غير كفاءة: “إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها”([92]).

وفي القرآن الكريم لم يذكر المنصب إلا ذكرت معه الكفاءة والأمانة، قال تعالى على لسان نبي الله يوسف: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾، وقال له ملك مصر لما التقاه: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾([93])، وقالت ابنة شعيب حين رغبت بموسى: ﴿خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين﴾، وعلى سبيل الاستئناس، فقد أشارت الآية إلى صفة جبريل وهو السفير بين الله وأنبيائه: ﴿لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾([94]).

ومن الواضح أن تكرر صفة الأمانة في سائر هذه النصوص تأكيد على أنها شرط في كل ولاية، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم تولية الخائن وتخوين الأمين من شروط الساعة التي تسبق خراب الدنيا وأهلها، وفي الواقع فإن انتشارالفساد في أمة من الأمم هو اقتراب ساعتها وهلاك أهلها وسقوط حضارتها وأفول نجمها.

وأجد من الضروري هنا أن أتحدث عن مسألة القدوة فهي من المسائل الدقيقة التي تختلف فيها الرؤية بين الإسلام والحضارة الغربية، وتناضل مؤسسات الحرية في الغرب من أجل الاعتراف بحق الناس في حياة خاصة لا سلطان لأحد عليها، وأن المرء لا يطالب بالتزام القدوة، بل عليه أن يؤدي وظائفه بانضباط، ولا شأن لأحد بعد ذلك بسلوكه الشخصي، وعادة ما يتم الفصل بين أدائه في العمل وبين الحياة الشخصية التي يرغبها مهما كانت مسرفة في المجون أو الإنحلال.

ولكن القيم الإسلامية لا تقبل هذا المبدأ، فالقرآن يطالب المرء بالتزام سلوك القدوة، ظاهراً وباطناً، ولا تقبل الشريعة الإسلامية في المسؤول الحكومي أو الموظف أن يؤدي واجبه ثم ينصرف إلى ملذاته بشكل يسيء إلى مكانه في القدوة، ولا تعتبر تبرير ذلك بالشأن الخاص أو بالحياة الخاصة للمسؤول مبرراً كافياً أومقنعاً، وفي هذا السياق جاءت النصوص القرآنية الكثيرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَمَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾([95]).

إن فرض رقابة صارمة على حياة السفراء وتنظيم المتابعة والمحاسبة في سلوكهم الشخصي هو أمر ضروري لا يمكن تجاوزه، وبشكل خاص السفير الذي يمثل صورة بلاده ووطنه وقيادته في ضمير الأمم، ومن المؤسف أن الدول المتخلفة تفرض هذه الرقابة بصرامة على ما يتصل بولاء السفير للمسؤولين الذين أرسلوه، ومتابعة ما قد يعود به من ربح عليهم، ولكنها لا تعطي أي اهتمام لسلوك السفير الشخصي الذي قد ينغمس في الملذات والمفاسد بشكل يسيء أبلغ الإساءة إلى صورة بلاده.

وتجب الإشارة هنا ما اشتهر في الفقه الإسلامي من تفضيل الفاجر الخبير على الأمين الضعيف، هو أمر لا مساق له هنا وربما كان المقصود في ساعة القتال والحرب، وهو ما اختاره ابن تيمية من تولية الرجل الفاجر على الحرب إذا كان من أهل الخبرة وتقديمه على أهل الصلاح ممن ليس لديهم تلك الخبرة أمر مختلف عن الباب الذي نحن بصدده.

ونص كلام ابن تيمية رحمه الله: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: “اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة قدم أنفعهما لتلك الولاية: وأقلهما ضررا فيها فتقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أميناً”، كما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزىمع القوي الفاجر وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم: “إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر”([96]).

فهذه جملة من الشروط التي لا بد منها لتتحقق قدرة السفير الناجح على تولي هذه الأمانة، ومن نافلة القول أن أشير هنا إلى أن هذه الشروط ليست محل إجماع أو اتفاق، وإنما هي قراءة في الشروط العامة لمن يلي شيئاً من أمر هذه الأمة.

مشاركة المرأة في الحياة الدبلوماسية:

لقد قصدت إلى إفراد هذا العنوان بشكل خاص لتأكيد حقيقة المشاركة الفعالة التي يمكن أن تؤديها المرأة في الحياة الدبلوماسية ولتوضيح بعض الحقائق حول مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الدبلوماسية خلال التاريخ الإسلامي.

إن مشاركة المرأة في العمل الدبلوماسي خلال التاريخ الإسلامي لا تبدو واضحة لدى أول وهلة، ولكن التأمل في سيرة المرأة في عصر الرسالة يجعلك تدرك أن الإسلام دفع بالمرأة إلى العمل العام وأطلقها من قيود الجاهلية وأعلن حقها الكامل في العمل والعطاء، وقد مارست خلال التاريخ هذا الحق بكفاءة واقتدار.

ويمكن أن نلتمس مشاركة المرأة المسلمة في الحياة العامة في الأيام الأولى للدعوة والرسالة، فقد كان أول قلب اطمأن بالإسلام قلب خديجة بنت خويلد وقد شاركت هذه السيدة الطاهرة خلال تاريخ الرسالة بدور دبلوماسي بالغ الأهمية، فقد كان رسول الله يشكو إليها أول الأمر ما يجده من أمر الوحي، وكان يعود إلى داره يرتجف من الخوف وهو يقول زملوني دثروني، وقد أكرمه الله تعالى بهذه المرأة الكريمة التي وقفت إلى جانبه بوعي ومسؤولية، وأعلنت موقفها من بداية الرسالة بقولها: كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتحمل الكل وتنصر المظلوم وتعين على نوائب الدهر.

وخلال فترة المراجعات وفتور الوحي مضت خديجة إلى ورقة بن نوفل وهو عالم بالكتب الأولى وذكرت له ما لقيه النبي الكريم، ومع أن القصة معروفة فيما كان بين النبي الكريم وبين ورقة ولكن ما نحتاج للتذكير به هنا أن النبي الكريم كان يكن أعظم الاحترام لعقل السيدة خديجة ووعيها ورأيها، وكان حواره مع ورقة يعكس ذلك بجلاء، وقد مضت خديجة بعد ذلك إلى المشاركة في الرسالة وكانت تقوم بشراء العبيد والموالي الذي تتوسم فيهم القدرة على مناصرة النبي الكريم في رسالته.

وحين فرضت عليه قريش حصارها الخانق في شعب أبي طالب كانت خديجة إلى جانبه، واستمرت في رسالتها الواضحة في نصرة النبي الكريم.

وهناك دور هام لخديجة في فك الحصار عن النبي وأصحابه، وذلك عبر التفاوض لفك الحصار، أو بعبارة أدق في تحسين شروط التفاوض مع قريش وذلك عن طريق إقناع الرأي العام بالوجه الوحشي للحصار الظالم الذي مارسته السلطة في قريش ضد النبي الكريم.

كان الرأي العام في مكة ضد رسالة النبي الكريم على أساس أنه يهدد مكانة مكة الدينية كمركز للآلهة ومصدر للرزق لزعماء قريش، وبعد حملة من الاتهامات الظالمة عمدت قريش إلى كتابة وثيقة ظالمة بالاتفاق بين زعماء قريش تحرم فيها أي اتصال مع رسول الله وأصحابه، وتمنع تزويدهم بالطعام والشراب، وتمنع التزاوج منهم أو الأصهار إليهم.

كان ذلك الحصار قاسيا للغاية، وكانت له أسبابه الدبلوماسية التي مارسها كفار قريش بدهاء ومكر، عبر قوافل من المبعوثين الذين أرسلتهم إلى القبائل العربية تشرح فيها أسباب حربها على الإسلام، ورغم مرور عامين اثنين فإن الحصار كان يشتد على الرسول الكريم، ولم تقبل قريش أي تفاوض بشأن هذا الحصار أقل من تخلي الرسول عن الرسالة.

لقد قادت خديجة حملة دبلوماسية حكيمة ودقيقة لإنهاء هذا الحصار، وذلك عبر عمها حكيم بن حزام الذي كان ينفق من مال خديجة، ويمرر للمحاصرين أحمال الإبل من الزاد، وتعمد أن يفعل ذلك بمحضر من سفهاء قريش الأمر الذي أثار أبا جهل حتى هم بضربه، وتفاعل الأمر وتهامس الناس أن قريشاً فقدت صوابها حتى تحصر أبناءها في الشعب بدون زاد ولا طعام حتى أوشكوا على الموت.

وبعد نضج هذه المحاولات كانت خديجة تقوم باتصال بالغ الأهمية مع زعماء قريش من أهل الشهامة والنخوة والحمية عبر عمها حكيم بن حزام واستجاب له عدد منهم وهم زمعة بن الأسود وهشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام، وبعد حوار طويل، قام هؤلاء بتمزيق الصحيفة الظالمة ونجح الدور الدبلوماسي لخديجة وعمها حكيم في رفع الحصار الذي استمر سنتين وأربعة أشهر في شعب أبي طالب.

بعد خمسة وثلاثين يوماً اشتد المرض بالسيدة خديجة وماتت، بعد الخروج من الحصار وقد كان لفراقها أثر مؤلم على النبي الكريم، الذي حزن عليها أشد الحزن وسمى العام كله عام الحزن، وكان لا يترك ذكر شمائلها وعقلها ونبلها في كل مجالسه.

وفي استطراد ذي دلالة فإن النبي الكريم لم ينس لها جهادها وبعد عشر سنوات من وفاتها لم ينس لها ذلك العطاء الكبير وحين أكرمه الله بفتح مكة وناداه أشرافها إلى بيوتهم ودورهم ومجالسهم الوثير ليقيم فيها ولكنه اختار أن يمضي بناقته إلى مقبرة الحجون وهناك عند حجارة سود أمر أن تنصب خيمة انتصاره… لقد أراد أن يقول إن هذه المرأة كانت شريكة كفاحي وهي اليوم شريكة نجاحي، إنها شريكة الصبر وهي اليوم شريكة النصر.

ومن السيرة النبوية يمكن أن نتذكر دوماً السيدة الفاضلة أسماء بنت يزيد بن السكن التي جاءت إلى النبي الكريم في وفد من نساء قومها ووقفت بجلاء وقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك.

عن أسماء بنت يزيد الأنصارية من بني عبد الأشهل: أنها أتت النبى صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فقالت بأبى أنت وأمى يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك، وما من امرأة كانت فى شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي، أن الله بعثك إلى الرجال والنساء كافة فأمنا بك وبإلهك فإذا معشر النساء محصورات قواعد بيوتكم ومفضى شهواتكم وحاملات أولادكم وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد فى سبيل الله وإن الرجل منكم إذا خرج حاجاً ومعتمراً أو مرابطاً حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم وربينا لكم أولادكم أفما نشارككم فى هذا الخير يا رسول الله؟ فالتفت النبي إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال:”هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسائلتها عن أمر دينها من هذه؟” قالوا:”يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا”.

لقد كانت أسماء بنت يزيد بن السكن وافدة النساء، وتحدثت بدبلوماسية عالية، وأكدت على صفتها التمثيلية لمن وراءها من النساء، بل أعلنت تمثيلها الافتراضي لكل من يتبنى هذا الموقف من النساء، وكان خطابها الشهير بحضرة الرجال وفي حرم المسجد وبمسمع من الصحابة، وقد أثار إعجاب الجميع واحترامهم.

ومن الواضح أن النبي الكريم قد أعجب بشجاعة المرأة وحسها المسؤول وشارك أصحابه في إعجابه ذاك وقالوا ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى هذا.

وكانت رسالة النبي الكريم واضحة ومؤثرة حين أعلن بوضوح أن رسالة المرأة لا ينبغي أن تنصرف إلى الحروب والمشاركات العسكرية، وإنما خلق الله لها فضاء من صناعة الجمال والإبداع فيه ومنح الحياة رونقها الأبيض.

ولكن اعتراضه على مشاركة المرأة في الحروب والتأكيد على الجانب العاطفي الذي أقامها الله مسؤولة عنه، لا يعني أنها لا تشارك في عمل يليق بمكانتها كامرأة، وقد كانت مشاركة المرأة في الحياة العامة في عصر الرسالة واضحة جلية.

وفي جوابه لها أشار باحترام إلى صفتها التمثيلية للنساء، كما أشار باحترام إلى الدور الإنساني النبيل الذي تقوم به المرأة في نشر الجمال والحب والخير وقال: “انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء، إن حسن تبعل إحداكن لزوجها تعدل ذلك كله”، قال: “فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا”.

وفي الحديث أن أم عمارة الأنصارية جاءت إلى المسجد، فقالت: “يا رسول الله ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء”، فنزلت الآية الكريمة:﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ ([97]).

ومن المعلوم أن النبي الكريم كان إذا خرج في غزو أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها صحبته في غزواته، ولا شك أن خروج المرأة في الغزو لم يكن لوناً من السياحة، فالخروج كان في الغالب إلى حرب، وثمة مسؤوليات تنهض بها النساء في النشاط العسكري إلى جوار الرجال.

عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله سبع غزوات أخلفهم في رحالهم فأصنع لهم الطعام وأداوي لهم الجرحى وأقوم على المرضى([98]).

عن أنس بن مالك قال: “لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان ـ وفي رواية ـ تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم”([99]).

وعن الربيع بنت معوذ قالت: “كنا مع النبي نسقي ونداوي الجرحى، ونرد القتلى إلى المدينة”([100]).

وقد عنون الإمام البخاري لهذا الحديث: باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، وهو جلي في أن خيار المحدثين الذين يعتبر البخاري عمدتهم كان مؤيداً لمشاركة المرأة في المسؤوليات العامة وعلى رأسها الجهاد.

ولعل أوضح الأمثلة على مشاركة المرأة في الحياة السياسية والدبلوماسية ما نقرؤه في أهم شخصية نسائية في التاريخ الإسلامي وهي عائشة زوجة الرسول الكريم التي شاركت بقوة في صناعة القرار السياسي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لها في كل حدث عام رأي وموقف، وعندما تطورت الأمور وقتل عثمان بن عفان خرجت تطالب بدمه في الناس واشتهرت الخطب البليغة المؤثرة التي كانت تشرح فيها للناس وجوب الخروج انتصاراً لدم الخليفة المقتول، وكان لفصاحتها وقوة تعبيرها أبلغ الأثر في إقناع الناس بصواب موقفها، حتى قال سعيد بن المسيب ما رأيت الكلام في فم أحد أفخم منه ولا أفصح منه في فم عائشة.

وبغض النظر عن صواب خروجها والآثار التي ترتبت عليه، فإن ما لا شك فيه أنها كانت بصيرة عارفة بالشرع ولكنها رأت واجبها الرسالي يفرض عليها قيادة عمل دبلوماسي وسياسي كبير تطور فيما بعد إلى عمل عسكري، وكان يهدف بوضوح إلى تحقيق مسؤولية المجتمع في وجوب تطبيق العدالة على قتلة عثمان ومطاردتهم وهو ما قامت به بوضوح وشجاعة، وأصبح موقفها مُلهِما لتوجه المرأة عبر التاريخ الإسلامي.

واشتهرت السيدة أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وهي زوجة عمر بن الخطاب بدور هام في الدبلوماسية بين العرب والروم.

وذلك أن عمر بن الخطاب لم يكن راغباً أن يتوسع بالفتح بعد فتح الشام والعراق، وكان يرى أن هذا الفتح كاف لاستقرار دولة الإسلام وكان يقول عن فارس وددت لو أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم، وكذلك فإنه نهى معاوية أن يركب البحر غازياً للروم، وحين تسامع ملك الروم بذلك ترك الغزو وكاتب عمر بن الخطاب وقاربه، ووصلت رسله إلى المدينة المنورة.

واشتهر في هذه السفارات الدبلوماسية دور أم كلثوم زوجة عمر بن الخطاب، وذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ أن أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوج عمر بن الخطاب أرسلت إلى امرأة ملك الروم بِطيب وشيء يصلح للنساء مع البريد فأبلغه إليها، فأهدت امرأة الملك إليها هدايا منها عقد فاخر.

ويبدو أن هذه المراسلات قد فعلت فعلها في العلاقات بين البلدين، وتعاظمت الهدايا بين أم كلثوم وامرأة ملك الروم قسطنطين الثاني.

فلما رجع البريد أخذ عمر ما معها ونادى الصلاةُ جامعة فاجتمعوا، وأعلمهم الخبر، فقال قائلون: “هو لها بالذي كان لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانعك به، ولا تحت يدك فتتقيك”، وقال آخرون: “قد كنا نهدي لنستثيب”، فقال عمر: “لكن الرسول رسول المسلمين والبريدُ بريدهم”، والمسلمون عظموها في صدرها، فأمر بردها إلى بيت المال، وأعطاها بقدر نفقتها([101]).

وهكذا فإن مشاركة المرأة في الحياة العامة والدبلوماسية بدأت منذ عصر النبوة واستمرت بعد ذلك خلال التاريخ، وسجلت مشاركات كبيرة للمرأة أيام العباسيين والأيوبيين والمماليك، ولكن دورهن انحسر أيام العثمانيين.

وفي السيرة النبوية فقرات هامة من ممارسة المرأة للعمل الدبلوماسي والنشاط السياسي وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض هذه النشاطات ورد بعضها، ومن ذلك قيام المرأة بمنح الجوار لعدد من المطلوبين للدولة.

في غزوة بدر أجارت السيدة زينب بنت الرسول الكريم أبا العاص بن الربيع، وأعلنت هذا الجوار وهو موقف دبلوماسي هام، وقد أقر النبي الكريم جوار زينب، وأطلق سراح الأسير واشترط عليه أن يأذن لزينب بالهجرة إلى المدينة ووفى أبو العاص بما اشترط عليه.

ومن الصحابيات اللاتي مارسن دوراً دبلوماسياً مهماً السيدة أم هانئ بنت أبي طالب فقد كانت واحدة من أكثر نساء العرب ذكاء وجمالاً، وفي يوم فتح مكة قامت أم هانئ بدور هام في تأمين جوار اثنين من زعماء قريش الذي كان يطاردهم فتيان الصحابة نظراً لما سلف منهما من عدوان على الإسلام، ومع أن علي بن أبي طالب كان يتولى أمر مطاردة الرجلين ولكن أم هانئ أعلنت موقفها في منحهما الجوار، وفتحت دارها للرجلين تؤويهما من غضب شباب الصحابة، وسرعان ماحضر علي بن أبي طالب مع مجموعة من شباب قريش الذي ذاقوا مظالم قريش، ولكن أم هانئ وقفت في وجه المجموعة الغاضبة وقالت: “والله لا تقتلهما حتى تبدأ بي”، ثم أغلقت الباب حتى أتت النبي الكريم وذكرت له جوارها للرجلين وإيوائهما في دارها فقال النبي الكريم: “قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ”.

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ذمة المسلمين واحدة فإن أجارت عليهم جارية فلا تخفروها، فإن لكل غادر لواء يوم القيامة”([102]).

وهكذا فإن قيام المرأة يمنح الجوار السياسي للمطلوبين للعدالة يعكس المجال الكبير الذي تمتعت به المرأة في الحياة الدبلوماسية والعامة.

وقد قام بهذا الدور الدبلوماسي الهام في جوار الفارين من المشركين عدد من الصحابيات أبرزهن:

  • أم حكيم بنت الحارث أجارت زوجها عكرمة بن أبي جهل.
  • زينب بنت رسول الله أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع.
  • أم هانئ بنت أبي طالب أجارت من قومها عبد الله بن أبي ربيعة والحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية وجعدة بن هبيرة وأخاها عقيل بن أبي طالب.
  • أم غيلان الدوسية أجارت ضرار بن الخطاب.

ونكتفي بهذا القدر الذي أوردناه وندع لكتب الفقه التفصيل في ذلك، وبحسبنا أن نشير هنا إلى أن المراة في التاريخ الإسلامي لم تمنع من ممارسة العمل العام، بل شاركت فيه حيث تسنى لها وفق ضوابط الشريعة في الاستقامة والعفاف.

واليوم في الحياة السياسية المعاصرة انطلقت المرأة المسلمة من جديد وشاركت في الحياة العامة، ووصلت المرأة في البلاد الإسلامية إلى رئاسة الوزراء مراراً كما في ميغاواتي سوكارنو في إندونيسيا أكبر بلد إسلامي، وفي بنغلاديش الشيخة حسينة واجد، والشيخة خالدة ضياء، وفي باكستان بنازير بوتو، وباكستان وبنغلاديش هما ثمرة النضال الإسلامي في القارة الهندية، وتانسو تشيلر في تركيا، وهذه دول إسلامية، تحتكم إلى الشريعة الإسلامية في معظم قوانينها ونظمها، ويسهر على مراقبة ذلك مجامع فقهية تضم علماء دين كبار في هذه البلاد حيث يزيد سكانها عن ستمائة مليون نسمة، نحو 95% منهم من المسلمين.

وإن ما أرجو أن يتأكد من خلال هذه الأمثلة هو أن مايروج له بعض خصوم الرسالة من اضطهاد المرأة في المجتمعات الإسلامية ليس واقعياً، وإن المرأة المضطهدة التي يتحدثون عنها موجودة في إطار ضيق، نتيجة تراكم جملة من الأعراف والتقاليد، ربما كان لها مؤيد في الفقه الإسلامي، ولكنه بعيد عن روح الإسلام.

إننا بالطبع لا نسعى إلى حمل المرأة على خوض السياسة والدبلوماسية تقحما، لمحض التعبير عن حقها في ذلك، إذ المجالات الطبيعية للمرأة إنما هي تلك النشاطات التي لا تفقد فيها أنوثتها وهي كثيرة وكافية، وهذا المنطق هو ما تدل له الإحصاءات الاجتماعية في العالم، فمع أن أكثر من (175) دولة في العالم تمنح المرأة حق التصويت والترشيح من أصل (192) دولة، فإن الدول الكبيرة التي وصلت فيها المرأة إلى سدة الرئاسة الأولى والثانية خلال العشرين سنة الأخيرة لا تزيد عن (20) دولة، منها (5) دول إسلامية.

ولا تزال مشاركة المرأة في الوزارات والبرلمانات رمزية ومحدودة، وليس ذلك بالضرورة نتيجة التأثير الديني، فهذا هو الحال حتى في الدول العلمانية، بل في الدول المعادية للدين، وذلك نتيجة واقعية لطبيعة المرأة وحاجاتها الفطرية.

وهكذا فإن تجلية هذه المسائل أمر ضروري لبيان أمرين اثنين:

آ – إن ما تقوم به بعض البلاد الإسلامية بتأثير من التيارات المتشددة فيها من صد المرأة عن المشاركة في الحياة العامة، والحؤول بينها وبين فرص المشاركة والتفوق هو خيار واحد من خيارات أخرى في التاريخ الإسلامي، وهو مردود ببيانات القرآن والسنة التي قدمناها، وهو معارض لما قامت المرأة بإنجازه في عصر المجد الإسلامي، كما بيناه في كفاح عائشة أم المؤمنين.

ب- إن المنطق العدائي الذي يمارسه خصوم الإسلام لجهة اتهامه بتحييد المرأة عن الحياة هو منهج انتقائي يتخير أسوأ ما في تجارب التاريخ والواقع الإسلامي، ويغض الطرف عامداً عن الجوانب المتألقة لما تحقق من مشاركة حقيقية للمرأة سواء في عصر المجد الإسلامي، أو في المجتمعات الإسلامية المتنورة المعاصرة.

وفي تصريح جلي حول حق المرأة في المشاركة السياسية فإن الإمام المجتهد شيخ المفسرين الطبري أجاز للمرأة أن تلي الإمارة والقضاء، وهو رواية عن الإمام مالك وأبي حنيفة في غير الحدود([103]).

مسائل تحول بين المرأة والعمل الدبلوماسي:

نناقش في هذا الفصل ثلاث مسائل فقهية، تبدو أكثر المسائل حساسية ودقة في مسالة مشاركة المرأة في الحياة الدبلوماسية، وهي:

  • سفر المرأة.
  • مصافحة المرأة.
  • النقاب.

وسنشير إلى هذه المسائل على سبيل الاطلاع، دون أن ندخل في التفاصيل الفقهية لها، فهذا مكانه كتب الفقه الإسلامي المتخصصة، وسنعتمد في مناقشتنا لهذه المسائل الدقيقة على بسط الأدلة دون ترجيح، تاركين للقارئ الكريم ولمراجع الفتوى الكرام التقدم بالاختيار والترجيح، وبحسبنا أن نقول إن لهذه الإشكالات أجوبة شرعية متينة سبق إليها عدد من الأئمة الكرام.

ولا بد من التذكير كذلك أن الفقه الإسلامي غني وثري، ومرن ومستوعب، وهو ديوان العقل الإسلامي في فترة صعود حضاري، ولا زال الله تعالى يكرم هذه الأمة بالمفكرين والفقهاء في كل جيل الذين يرفع الله بهم الغمة ويرفع الحرج، وفق ما قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾([104])، وكذلك قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾([105]).

سفر المرأة:

لعل أكثر ما يحول بين المرأة والعمل في الحقل الدبلوماسي هو الفتوى المشهورة من تحريم سفر المرأة بغير محرم، ولا شك أن مقتضى ذلك منع النساء من العمل الدبلوماسي الذي يتطلب السفر باستمرار، وقد لا يتوفر المحرم في كثير من هذه الأسفار.

والواقع أن اجتهادات الفقهاء في الإسلام فيما يتصل بسفر المرأة بدون محرم لم تلزم رأياً واحداً، وقد ذهب كثير من الفقهاء أن هذا المنع معلل بحالة فقد الأمن والخوف من الهلاك والانفراد والخلوة، وأن هذه المسألة من باب أن ما ثبت لعلة زال بزوالها، وأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.

والأصل في منع المرأة من السفر بدون محرم الحديث الشريف: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها أو أخوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها”([106]).

ويقضي ظاهر النص منع المرأة من السفر مطلقاً إلا بوجود المحرم، وهو ما لا يتيسر لكل امرأة، ومن غير المعقول أن تعطل طاقة اجتماعية كاملة لمجرد تحقيق رفقة طاقة أخرى، فإلى أي مدى مضى الفقه الإسلامي في إعمال هذا الحديث، وهل دلالته الظاهرة محل اتفاق بين المسلمين، أم أنه مرتبط بعلة خاصة وجوداً وعدماً.

لقد كان السفر في عهد النبي ضرباً من المشقة القاسية، وكان سفر المرأة ثلاثة أيام بلا محرم يشبه أن يكون مفسدة مؤكدة، وخطراً حقيقياً على المرأة، ولم تكن قد جدت الحاجة لارتحال المرأة في تحصيل العلم والمعرفة في المدن.

ولكن الفقه الإسلامي بدأ يدرك مع الأيام الحاجة الملحة لانتقال المرأة ويمكن هنا أن نورد طرفا من خيار الفقهاء في هذا السبيل.

نظر الإمام الشافعي في مسألة حج المرأة إلى غاية هذا القيد وهو تحقق الأمن للمرأة فقال: “لا يتعين هذا ـ أي المحرم ـ بل الواجب هو ما يتحقق به الأمن عليها كأن تحج مع نسوة ثقات”([107]).

ونص الإمام الباجي من أعلام المالكية في المرأة المتجالة (الكبيرة): “تسافر كيف شاءت بلا زوج ولا محرم”([108])، ونقل هذا الرأي عن القاضي عياض([109]).

أما الإمام الأوزاعي فقد ذهب إلى تحرير العلة من هذا المنع بخوف الفتنة، وانفراد المرأة في السفر البعيد مع جماعة من الرجال، فقال: ولا شك أن القوافل العظيمة تقوم مقام المحرم في تحقيق الأمن للمرأة ولو مع فقد المحرم([110]).

وبمثله نقل الترمذي عن مالك بن أنس والشافعي: إذا كان الطريق آمنا فإنها تخرج مع الناس في الحج([111])، وهذا القول نفسه نقله النووي في شرح صحيح مسلم عن عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين ومالك والأوزاعي والشافعي: “لا يشترط المحرم بل يشترط الأمن على نفسها”([112]).

وسئل الإمام مالك عن المرأة تريد الحج وليس لها ولي؟ قال: “تخرج مع من تثق به من الرجال والنساء”([113]).

وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: استدل بحديث عائشة: “أحسن الجهاد وأجمله الحج” على جواز حج المرأة مع من تثق به ولو لم يكن زوجاً ولا محرماً.. وقد أذن عمر لنساء النبي في الحج من غير محرم ولم ينكر عليه([114]).

وعلى هدي خيارات الفقهاء فإن من اليسير القول إذن إن هذا الحكم معلل بعلة فقد الأمن، وبذلك يدور الحكم مع علته وجوداً وعدماً، ولا شك أن الأمن الذي يتوفر اليوم للفتاة المحتشمة تسافر في علم أو عمل، وتقيم في سكن مناسب مع مجموعة من الطالبات، أو تسافر بالطائرة إلى عمرة أو حج أو اللحاق بزوج أو والدين، في شركات مأمونة مضمونة، لا شك أن ذلك على اختلاف أشكاله أصبح مأموناً غاية الأمن في زماننا.

وقد وردت آثار كثيرة عن النبي تشير إلى أن الأمن سيغلب على الأرض وأن المرأة ستسافر من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير أن يصحبها أحد، من ذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم بقوله: “يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جوار معها”([115]).

ولا شك أن بشارة النبي بهذا، واستبشاره به قرينة قوية في أنه لو انتفى الخوف فإن سفر المرأة بدون محرم وارد وممكن، بل هو من أعظم إنجازات الإسلام في الأرض.

وليس مقتضى ذلك إعفاء المرأة من مسؤوليتها، بل إن رعاية هذه الاعتبارات يجعل المرأة مباشرة في موقع المسؤولية، إذ هي المكلفة أصلاً باجتناب مواضع الفتنة، ورب فتن طاغية وفرتها التكنولوجيا الحديثة للرجل والمرأة على السواء وهما في الحضر، تجعل مظنة الفتنة في الدار أكبر من المظنة في السفر.

مصافحة النساء:

يبدو هذا الباب من أكثر الأبواب حرجاً في العمل الدبلوماسي، حيث تحكم المصافحات والمجاملات أعراف دبلوماسية كثيرة، وربما ترمز المصافحة أو عدم المصافحة إلى موقف سياسي لا يريد أي من الفريقين الإشارة إليه، الأمر الذي يفترض بيان بعض الحقائق في هذا السبيل.

إن امتناع المرأة عن المصافحة في الفقه الإسلامي له نظائر كثيرة في تقاليد الأمم، وينص قانون العرش البريطاني على مناصب محددة يسمح لها بمصافحة الملكة، ويعتبر امتناع الملكة عن المصافحة أمراً مبرراً في القانون يجب احترامه، كما تنص الآداب اليابانية والصينية على آداب خاصة تتصل بالمصافحة والانحناء، وهي تقاليد تحظى باحترام لدى تلك الشعوب ومن شأن اللياقة الدبلوماسية أن تحترم تلك العادات.

وفي المجتمع الإسلامي فقد اعتمدت عدة دول عربية وإسلامية مبدأ غياب المرأة عن البروتوكول الدبلوماسي، وهو أمر لا اعتراض عليه دبلوماسياً، ولكنه في الواقع كرس الصورة النمطية عن الإسلام التي يكرسها الخطاب الغربي عموماً وهو أن المرأة المسلمة مغيبة ومنتقصة الحقوق.

كما قامت المرأة المسلمة في كثير من البلدان الإسلامية بالمشاركة في النشاط الدبلوماسي بحجابها دون أن تصافح الرجال.

ومع ذلك فإن من ضرورة هذه الدراسة أن تبسط الأدلة لكل من الفريقين، دون أن نتدخل بالترجيح بين الأدلة، تاركين ذلك للعلماء والفقهاء في كل بلد إسلامي.

وجملة القول أن الذين ذهبوا إلى حرمة المصافحة استدلوا بأدلة كثيرة أشهرها اثنان:

  • قوله صلى الله عليه وسلم: “إني لا أصافح النساء”([116]).
  • وقول عائشة رضي الله عنها: “ما مست يد رسول الله يد امرأة قط”([117]).

أما الذين رأوا جواز المصافحة فقد استدلوا بأدلة كثيرة أشهرها اثنان:

  • حديث مارية التميمية: قالت:”صافحت رسول الله فلم أر كفاً ألين من كفه”([118]).
  • حديث بيعة النساء: عن هند بنت عتبة أنها قالت: “يا نبي الله! بايعني؟ فنظر إلى يدها فقال: “لا أبايعك حتى تغيري كفيك كأنهما كفا سبع”، فذهبت فغيرتهما بحناء ثم جاءت فبايعته([119]).

فهذه باختصار الأدلة المتقابلة، ولا شك أن للعلماء كلاماً في كل واحد منها، وبحسبك الاطلاع على الأمر وما ذهب إليه الفريقان واختيار ما هو أنفع للإسلام والمسلمين.

النقاب:

لا شك أن النقاب يعتبر عائقاً حقيقياً بين المرأة وبين العمل الدبلوماسي، ويمكن القول بأن المرأة المنقبة لا  تستطيع أن تمارس العمل الدبلوماسي.

ومن المؤكد أن التزام النقاب لم يكن عاماً في الصحابيات فقد كان منهن من تلتزمه ومنهن من لا تلتزمه، وكان في نساء الصحابة من وصفت بالحميراء والزهراء والبيضاء والسوداء والسفعاء وغير ذلك، وهذه الأوصاف كلها لا تتأتى بدون كشف الوجه.

وقد فهم عدد من الفقهاء وجوب النقاب من آيتين كريمتين في كتاب الله:

الأولى آية النور:﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾([120]).

والثانية آية الأحزاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ﴾([121]).

ولا خلاف أن النص القرآني في المسألة قطعي الثبوت في التنزيل ظني الدلالة في التأويل، فقد اختلف الفقهاء في تأويله اختلافاً كثيراً، وهو ما دونه علماء التفسير بتفصيل كبير.

وتعددت أقوال الصحابة والتابعين في تأويل المراد بقوله تعالى: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ إلى نحو اثني عشر قولاً تتردد بين القول بمنع ظهور أي شيء من المرأة وهو قول ابن مسعود إلى القول بجواز بدو يديها وقدميها ووجهها وهو قول ابن عباس([122]).

ولو أراد القطع والحسم لقال: وليضربن بخمرهن على وجوههن، ولقال ولا يبدين شيئاً من وجوههن بلا استثناء.

كما تعددت أقوالهم في المراد بإدناء الجلباب في قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْن﴾إلى نحو ثمانية أقوال، منها أن المراد أن تدني الجلباب ليعرفها الناس فلا ينالوها بأذى، لأن الحرة إذا عرفها السفهاء أعرضوا عنها، وإنما يتناولون بالأذى من لا يعرف لها أهل ولا قرابة.

ولو أراد القطع لقال: ذلك أدنى أن لا يعرفن فلا يؤذين.

ولا خلاف أن المرأة نهيت عن النقاب في إحرامها بالحج، واعتبر سفورها إحراماً لازماً لصحة نسكها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف خلفه الفضل بن العباس وهو محرم فجاءته امرأة خثعمية وضيئة الوجه، فجعلت تسأله والفضل بن العباس ينظر إليها، فحول رسول الله وجهه إلى الطرف الآخر فجعل ينظر إليها من الشق الآخر([123]).

وكان غاية أمره صلى الله عليه وسلم أنه أمر الفضل بغض البصر ولم يأمر المرأة بالنقاب.

وبالجملة فهذه هي الأقوال معزوة إلى مراجعها المعتمدة وليس من شرط هذه الدراسة أن تتولى الترجيح والفتوى، بل تبسط الأدلة بين يدي العلماء، رجاء إظهار عذر من أخذ بكل دليل، وإن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس، واختلاف الفقهاء توسعة على الأمة ورحمة، وقد قال عمر بن عبد العزيز:”ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا، لو لم يختلفوا لم تكن سعة”، والله أعلم.

حصانة السفراء:

لم ترد في الفقه الإسلامي عبارات حصانة السفراء أو حصانة السلك الدبلوماسي، ولكن المعاني المقصودة بهذه العناوين واردة بوفرة في كتب الفقه الإسلامي في باب الجهاد باب المستأمنين وأهل العهد، وهو باب لا يخلو منه كتاب فقه إسلامي مرجعي.

وسنتناول مسألة الحصانة من زوايا أربعة وفقاً لما قررته اتفاقية فيينا الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية في الدول، ونتناول منها:

  • الحصانة الشخصية.
  • الحصانة القضائية.
  • الحصانة المالية.

1) الحصانة الشخصية:

نصت اتفاقية فيينا لعام 1961 على مبدأ حصانة المبعوثين الدوليين، مما ورد فيها: “ﺤﺭﻤﺔ الاعتداء ﻋﻠﻰ ﺸﺨﺹ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﻭﺫﺍﺘﻪ، ﻓﻼ ﻴﻘﺘل ﻭﻻ ﻴﺅﺫﻯ ﺒﺠﺭﺡ ﺃﻭ ﻀﺭﺏ ﺃﻭ ﻏﻴﺭﻩ([124]) ﻤﻥ ﺃﻨﻭﺍﻉ ﺍﻷﺫﻯ”.

ﻭﻤﻨﻬﺎ: ﻋﺩﻡ ﺘﻌﺭﻴﻀﻪ ﻟﻺﻫﺎﻨﺔ، ﻭﺃﻱ ﻨﻭﻉ ﻤﻥ ﺃﻨﻭﺍﻉ ﺍﻷﺫﻯ ﺍﻟﻨﻔﺴﻲ، ﺒل ﻴﺠﺏ ﻤﻌﺎﻤﻠﺘﻪ ﺒﺎﺤﺘﺭﺍﻡ ﻻﺌـﻕ، وﺨﻼﺼﺔ ﺫﻟﻙ ﺃﻨﹼﻪ ﻴﺤﺭﻡ الاعتداء ﻋﻠﻰ ﺸﺨﺼﻪ ﺃﻭ ﺤﺭﻴﺘﻪ ﺃﻭ كرامته.

ﻭﻤﻤﺎ ﻴﻨﺩﺭﺝ ﺘﺤﺕ ﻤﺒﺩﺃ ﺍﻟﺤﺼﺎﻨﺔ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ كل ﻤﺎ ﻴﺘﻌﻠﻕ ﺒﺤﻤﺎﻴﺔ ﻤﻨﺯﻟﻪ ﻭﺤﻤﺎﻴﺔ ﺃﻭﺭﺍﻗﻪ ﻭﻤﺭﺍﺴﻼﺘﻪ، ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﺡ ﻟﻪ ﺒﺤﺭﻴﺔ ﺍﻟﺴﻔﺭ ﻭﺍﻟﺘﻨﻘل ﻓﻲ ﺇﻗﻠﻴﻡ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ.

وقد ﻨﺼﺕ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 30 ﻤﻥ ﻫﺫﻩ ﺍﻻﺘﻔﺎﻗﻴﺔ ﻓﻲ ﻓﻘﺭﺘﻬﺎ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺤﺭﻤﺔ ﻤﺴﻜﻥ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ، ﻭﻨﺼﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻘﺭﺓ ﺍﻟﺜﺎﻨﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺤﺭﻤﺔ ﺍﻷﺸﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺒﻪ ﻤﻥ ﺃﻤﻭﺍل ﻭﻤﺴﺘﻨﺩﺍﺕ ﺃﻭ ﻤﺭﺍﺴﻼﺕ.

وفي الواقع فإن هذا اللون من الحصانة مقرر في الشريعة لكل إنسان بغض النظر عن جنسيته ودينه ولونه وقومه، طالما أنه دخل الدولة الإسلامية بإذن صحيح، فقد تواترت النصوص القرآنية الكريمة على حرمة دم الإنسان وماله وعرضه، وعدم جواز المساس بها بأي لون من الأذى، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾[125].

وفي القرآن الكريم: ﴿مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاًوَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾[126].

ومن الملاحظ في الآيتين أن القرآن هنا لم يقل من قتل مؤمناً أو مسلماً بل من قتل نفساً، وهو يشمل كل إنسان كائناً ما كان دينه.

وفي حجة الوداع قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا… ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد”.

ومن الجدير ذكره أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوم الحج الأكبر كان بصيغة يا أيها الناس، وهو شامل لك لأحد، فتجب عصمة الدماء ويجب توفير الكرامة لكل إنسان.

ومع ذلك فقد خص النبي صلى الله عليه وسلم المعاهدين والمستأمنين بنصوص خاصة تفرض احترامهم وتحقق أمنهم وتحمي تحركاتهم، وذلك حتى لا تلتبس الأمور على الناس، بين المشرك المحارب والمشرك المسالم، الذي دخل في أمن الأمة وجوارها، قال صلى الله عليه وسلم:

“من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة اربعين عاماً”([127]).

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: “ألا من قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة”([128]).

ولعل من أوضح صور حماية المعاهد والمستأمن قيامه صلى الله عليه وسلم باستقبال وفود الدول المحاربة على الرغم من سوء بغيهم وحربهم على الإسلام، فقد استقبل رسولي كسرى خرخسره وبابويه وأكرم وفادتهما مع أن سفارتهما كانت في غاية البغي واللؤم، وكانا يحملان أمراً ينص على ضبط وإحضار محمد بن عبد الله القرشي إلى مولاهما كسرى.

كذلك فإنه استقبل رسولي مسيلمة الكذاب ابن أثال وابن النواحة، ومعهما كتاب مسيلمة إلى رسول الله ونصه: “من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله!!.. أما بعد فإني قد أشركت في الأمر .. لك نصف الأرض من قبلك ولنا نصف الأرض من قبلنا، ولكن قريشاً قوم يعتدون!!”

وحين سألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن موقفهما أفحشا في القول، وحين سألهما ما تقولان في مسيلمة قالا:”نقول إنه رسول الله”، وحين سألهما ما تقولان في قالا: “لا نعلمك رسولاً لله!!!”.

وقال رسول الله لهما: “لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما”، وفي رواية “لو كنت قاتلاً رسولاً لقتلتكما”، قال ابن مسعود: “فمضت السنة أن الرسل لا تقتل”([129]).

ورغم غضب الصحابة الشديد من رسالة الرسولين وفحش استفزازهما فإن رسول الله رفض أن ينالهم أحد بسوء، ووفر لهما أمناً وحماية وزاداً حتى خرجا من المدينة.

وفي مثال آخر فقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم عقب عمرة القضاء وفد قريش وفيهم حويطب بن عبد العزى، وكان شديد النكاية بالإسلام والمسلمين، وقد جاء يحمل رسالة لئيمة من قريش، تأمره بوجوب مغادرة مكة على الفور هو وأصحابه، ومع أن رسول الله استأنى بهم وتلطف، وقال: “وماذا عليكم لو خليتموني يوماً رابعاً فأعرست بين ظهرانيكم وصنعت لكم طعاماً فدعوتكم إليه”، ولكن حويطب قال: “لا حاجة لنا بك ولا بطعامك اخرج عنا…” وغضب الصحابة أشد الغضب من لؤم حويطب وصاح سعد بن عبادة في وجهه قائلاً:”كذبت لعمر الله ليست بأرضك ولا بأرض أبيك!! لا يخرج منها إلا طائعاً راضياً”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا سعد لا تؤذوا قوماً زاؤونا في رحالنا”([130]).

وهذه كلها أصول تعزز مبدأ الحصانة الشخصية للسفراء، زيادة على ما هو مقرر من هذا اللون من الحصانة والحماية لسائر الناس في الإسلام، وهي تعكس وعياً دبلوماسياً مبكراً في حاجة الدولة الإسلامية لبناء مصداقية عالية من التعامل الدبلوماسي في إطار العلاقات الخارجية والدولية، وهو ما يعود بالخير على الدولتين وعلى شعبيهما.

وزيادة في تسهيل مهمة البعثات الدبلوماسية فقد أكد الفقهاء على قبول ادعاء الممثل الدبلوماسي ولو لم يكن يحمل تفويضاً من الدولة الإسلامية بعد، وقرر الإمام الشوكاني أن أمان الرسل مقرر شرعاً([131])، وأكد وجوب توفير الأمن لهم، بل إن الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم وهو إمام الحنفية في فقه الدولة والقضاء والخراج ذهب إلى أبعد من ذلك واعتبر أن من ادعى أنه سفير قوم وجب تصديقه حتى يبلغ مأمنه ولو لم يكن معه تفويض من الدولة المسلمة، وذلك تسهيلاً لعمل المبعوثين الدبلوماسيين، لاسيما في عصر لم تكن فيه وسائل الاتصال متاحة بالشكل المعروف من الهاتف والبريد الالكتروني وغير ذلك، وكان من الوارد أن يذهب السفير بسفارته دون علم البلد التي يسير إليها، ويتعين حمايته ورعايته حتى يثبت العكس، ونص عبارة الإمام أبي يوسف: “ﺇﻥ ﺍﻟﻭﻻﺓ ﺇﺫﺍ ﻤﺎ ﻻﻗﻭﺍ ﺭﺴﻭﻻﹰ، ﻴﺴﺄﻟﻭﻨﻪ ﻋﻥ ﺍﺴﻤﻪﻓﺈﻥ ﻗﺎل: “ﺃﻨﺎ ﺭﺴﻭل ﺍﻟﻤﻠﻙ ﺒﻌﺜﻨﻲ ﺇﻟﻰ ﻤﻠﻙ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ ﻭﻫﺫﺍ ﻜﺘﺎﺏ ﻤﻌﻲ”، ﻓﺈﻨﻪ ﻴﺼﺩﻕ ﻭﻻ ﺴﺒﻴل ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻻ ﻴﺘﻌﺭﺽ ﻟﻪ”(([132].

وقرر الإمام الرافعي مرجح الفقه الشافعي أنه إذا نبذ المستأمن العهد وجب تبليغه المأمن ولا يتعرض لما معه بلا خلاف.. ولو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد بل لرسالة أو تجارة ومات هناك فهو كموته في دار الإسلام…..والمذهب: القطع برده إلى وارثه، لانه مات والأمان باق في نفسه، فكذا في ماله…… بل ويجوز لورثة من نال الأمان، وله مال في بلاد المسلمين دخول بلاد الإسلام لطلب ذلك المال بغير أمان([133]).

2) الحصانة القضائية:

لا تعرف في الفقه الإسلامي عبارة الحصانة القضائية كمصطلح، وحتى بعيدا عن المصطلح فإن الفقه الإسلامي شديد في وجوب التزام أحكام القضاء واستقلال القضاة بالحكم وحقهم وواجبهم في استدعاء الناس وسماع شهاداتهم وأقوالهم، ولا يحل لأحد الامتناع عن المثول أمام القضاء إذا دعاه القضاء، وقد دلت على ذلك نصوص شرعية كثيرة واضحة.

وقد جاء القرآن الكريم شديداً في وجوب الخضوع للقضاء وعدم توفير استثناءات أو امتيازات في القضاء، ولعلنا نكتفي هنا بإيراد نص قرآني طويل في سورة النساء جاء نصاً في المسألة، حيث رفع إلى رسول الله قضية سرقة اتهم بها صحابي اسمهطعمة بن أبيرق فدفع باتهام مواطن يهودي اسمه زيد بن السمين، وقد هم رسول الله بأخذه بالجناية بقرينة أن يده كانت على المال المسروق، مع أن ذلك كان كيداً من طعمة بن أبيرق، فنزل القرآن الكريم شديداً في وجوب التحري والتثبت والاحتياط وعدم تمييز الناس في القضاء بسبب مواقعهم أو منازلهم أو مراتبهم: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا، وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا، هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً، وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا، وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾([134]).

والنص بالغ الشدة في وجوب تنفيذ أحكام القضاء، وعدم جواز التمييز بين الناس لمراتبهم أو منازلهم أو درجاتهم.

وقد تواترت النصوص بوجوب الاحتكام إلى القضاء الشرعي للوصول إلى العدالة، وتواترت الأخبار بخضوع كبار الأئمة في الإسلام للقضاء وأحكامه، حيث كان القضاء يستدعي من يقتضي من الناس لإحقاق الحق وظهور العدالة، حتى استدعي الخلفاء أنفسهم إلى القضاء، وقد استدعى القاضي شريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى مجلس قضاء بخصومة خاصمه فيها يهودي، وأمر القاضي شريح بإثبات يد اليهودي على الدرع لعدم كفاية الأدلة، وحكم ضد علي وهو خليفة([135]).

وبناء عليه فإن من العسير أن نذهب إلى القول بأن الفقه الإسلامي المتقدم منح الحصانة القضائية للمسؤولين أياً كانت مواقعهم في الدولة، وذلك التزاماً بدعم القضاء المطلق لتحقيق العدالة والإسراع في الإدلاء ببيناتها وشروطها، ولا نعرف أن الفقه الإسلامي منح أحداً الحصانة فوق حكم القضاء أياً كان هؤلاء وأياً كانت منازلهم ومراتبهم.

وفي الحقيقة فإن الأقرب لروح الإسلام ومبادئه أن لا يكون استثناء في القضاء، ولا حرج من القول بوجود هذا الخلاف بين الفقه الإسلامي وبين التوجه الحديث في الحقوق الدبلوماسية.

ومع ذلك فلا يمنع أن نؤصل لبعض الوسائل التي يمكن أن تساعد المسؤول الدبلوماسي أو الأمني في متابعة القضاء وتحقيق العدالة دون أن يؤثر ذلك مباشرة على دوره الدبلوماسي، فقد نصت اتفاقية جنيف على استثناءات متعددة يخضع فيها الدبلوماسي للقضاء المحلي، ومن هذه الحالات:

  • إذا كان النزاع حول ملكية ﻋﻘﺎﺭﻴﺔ ﻴﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﺒﺼﻔﺔ ﺸﺨﺼﻴﺔ.
  • ﺇﺫﺍ كانت ﺍﻟﺩﻋﻭﻯ ﻨﺎﺸﺌﺔ ﻋﻥ ﺃﻋﻤﺎل ﺘﺠﺎﺭﻴﺔ ﻗﺎﻡ ﺒﻬﺎ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﻟﺤﺴﺎﺒﻪ ﺍﻟﺨﺎﺹ.
  • إﺫﺍ كانتﺍﻟﺩﻋﻭﻯ ﻤﺘﻔﺭﻋﺔ ﻋﻥ ﺩﻋﻭﻯ ﺃﺼﻠﻴﺔ ﺘﻘﺩﻡ ﺒﻬﺎ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﺒﻨﻔﺴﻪ ﺇﻟﻰ ﻗﻀﺎﺀﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺒﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﻤﺩﻋﻴاً.
  • ﺇﺫﺍ كانتﺍﻟﺩﻋﻭﻯ ﺘﺘﻌﻠﻕ ﺒﺸﺅﻭﻥ ﺍﻹﺭﺙ، والتركات ﺍﻟﺘﻲ ﻴﺩﺨل ﻓﻴﻬﺎ ﺒﻭﺼﻔﻪ ﻤﻨﻔﺫﺍﹰ ﺃﻭ ﻤﺩﻴﺭﺍﹰ ﺃﻭﻭﺭﻴﺜﺎﹰ.

كما ﺃﻥﻫﺫﻩ ﺍﻟﺤﺼﺎﻨﺔ ﻻ ﺘﻌﻨﻲ – ﺃﻴﻀﺎﹰ – ﺃﻥ ﻴﺨﺭﺝ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻲ ﻋﻠﻰ ﻗﻭﺍﻨﻴﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀـﻴﻔﺔ ﻭﺃﻤﻨﻬﺎ، ﻭﺃﻥ ﻴﺭﺘﻜﺏ ﺍﻟﺠﺭﺍﺌﻡ ﻓﻲ ﺃﺭﻀﻬﺎ، ﻓﺈﻥ ﻓﻌل ﺫﻟﻙ أعتبر ﺸﺨﺼﺎﹰ ﻏﻴﺭ ﻤﺭﻏﻭﺏ ﻓﻴﻪ ﻟﺩﻯ ﺘﻠـﻙﺍﻟﺩﻭﻟﺔ، ﻭﻴﺤﻕ ﻟﻬﺎ ﺃﻥ ﺘﻠﻔﺕ ﻨﻅﺭ ﺩﻭﻟﺘﻪ، ﺃﻭ ﺘﻁﺎﻟﺏ ﺒﺴﺤﺒﻪ ﺃﻭ ﻁﺭﺩﻩ، ﻭﺫﻟﻙ ﺒﺤﺴﺏ ﻨﻭﻋﻴﺔ ﻭﻋﻅﻡ ﺍﻟﺠﺭﻡﺍﻟﺫﻱ ﺃﻗﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻻ ﺘﻤﻠﻙ – ﻓﻲ ﻨﻅﺭ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ – ﺒﺈﺨﻀﺎﻋﻪ ﻟﻘﺎﻨﻭﻨﻬﺎ ﺍﻟﺠﻨﺎﺌﻲ، ﻭﻫﺫﺍ ﺍﻟـﺫﻱ ﺘﻜﻔﻠﺕ ﺒﻪ ﺍﺘﻔﺎﻗﻴﺔ فيينا ﻟﺴﻨﺔ 1961 ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﺤﺎﺩﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻼﺜﻴﻥ([136]).

وبمكن هنا الاستعانة بالبحث العلمي الذي قدمه الدكتور بوبوش بعنوان تطور الدبلوماسية عبر العصور، وتحدث فيه عن الحصانة القضائية للدبلوماسيين في الإسلام بقوله:

“الحصانة القضائية والعدلية للفقه الإسلامي في هذا الصدد موقف مستقل عن غيره، وأساس هذا الموقف تحميل المعاهد أو المستأمن، ومثله المبعوث الدبلوماسي ونحوه المسؤولية المدنية والمالية، والمسؤولية الجنائية الجزائية عما يرتكبه من أعمال في بلاد الإسلام، لأنه ملزم بأحكامها حال إقامته فيها أو وجوده على أراضيها الإقليمية”، وبيان هذا إجمالاً على النحو التالي:

أ‌-  اتفق الفقهاء على وجوب استيفاء الحقوق والحدود من المعاهد والمستأمن والدبلوماسي ونحوه إذا تعلقت بالأفراد. ويعبر عن هذه الحقوق في الفقه الإسلامي بحقوق العباد، كالضرب والشتم والسرقة، والقذف، والقتل، وتقوم هذه الفكرة على مبدأ فطري، هو: أن حقوق الأفراد قائمة على المفاتشة والمشاححة، بخلاف حقوق الله تعالى القائمة على المسامحة.

ب‌- اختلف الفقهاء في وجوب استيفاء الحقوق والحدود من المعاهد والمستأمن والدبلوماسي ونحوه إذا تعلقت بالحق العام أو النظام العام، ويعبر عن هذا الأمر في الفقه الإسلامي بحقوق الله تعالى.

فقال الجمهور: لا تقام حدود الحق العام ولا عقوباته على هؤلاء ونحوهم، لئلا تخل إقامتها بإبلاغهم مأمنهم المأمور به في الآية: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾([137]).

وقال أبو يوسف القاضي وبعض الشافعية: “تقام حدود الحق العام وتستوفي عقوباته على هؤلاء إحقاقاً للحق والعدل، وقياساً على المواطن الذمي في بلاد الإسلام، ولأن المعاهد ونحوه ملتزم ضمناً، بمجمل أنظمة الدولة حال مكوثه فيها”.

والقول الأخير هو المعترف عليه والمستقر التعامل به بين الدول هي الجملة وذلك لضمان الأمن والاستقرار. وفرض هيبة القوانين الإقليمية، علماً بأن بعضهم يرى أن تبلغ الدولة المضيفة دولة الموفد بإجراءات محاكمته في أراضيها، كماأن لها أن تعده شخصا غير مرغوب فيه Persona non grata ، وتطرده من البلاد للمحافظة على سيادتها وسلامتها([138]).

ومع كل ما قدمناه فإنه يمكن للدولة الإسلامية أن تؤسس لاتفاقيات ثنائية بشأن الحصانة القضائية، تعتمد مبدأ التعامل بالمثل، وتميز بين القانون المدني والقانون الجنائي في الاحتكام إلى القضاء.

ومع ذلك فقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن الجرائم نوعان حق الله وحق العباد، ورأى أن حقوق العباد لا يحل تأجيلها، ولا يحل التمييز فيها فالناس سواسية كأسنان المشط، أما حقوق الله فإنهم لم يلتزموا أحكام الإسلام وإنه لا إكراه في الدين، ولا يحل إرغامهم عليها وحسابهم إلى الله([139]).

وقد نسب هذا الرأي إلى الإمام الشافعي أيضاً ووافقه الإمام مالك في مسألة الزنا يرتكبه المستأمن([140]).

وأشاروا إلى الفرق بين الذمي وبين المستأمن فالذمي مواطن في دولة الإسلام وعليه التزام القانون العام فيها، ولكن المستأمن غير مواطن ومهما طالت سفارته فهو مقيم بصفة مؤقتة، وواجب الدولة الإسلامية أن تبلغه مأمنه حين يريد، ولا وجه لأخذه بأحكام الإسلام وهو ليس مسلماً ولا هو مقيم في سلطان المسلمين، بل إنه ينص على ولائه لبلده وقد نال العهد والأمان وهو يلتزم ذلك ويعلنه، فلا ينبغي أن نرغمه على أحكام ديننا.

بل إن الفقهاء نصوا أنه لو أن رجلاً أتلف خمراً لمسلم أو كسر صليباً لمسلم فإنه لا يضمن لحرمة ذلك عليه، أما إن أتلف خمراً لذمي أو قتل خنزيراً له أو كسر صليباً له فإنه يضمن لأنها أموال متقومة محترمة عندهم وإن لم تكن لدى المسلمين كذلك.

وهذا الاستثناء الذي ذكره الفقهاء في باب إتلاف مال الذمي أقل خطراً من حمل الدبلوماسي المستأمن على التزام أحكام لا يؤمن بها في شريعته.

وهذا كله في حقوق الله، أما حقوق الناس فلا أعلم أن فقيهاً من الفقهاء منح المستأمنين على اختلاف وظائفهم حصانة قضائية تحول بينهم وبين الإنصاف للناس من أنفسهم، وهذا هو الأصل الذي دلت له الشريعة، وتؤيده عمومات النصوص في الكتاب والسنة.

ولا بد للدولة الإسلامية أن تنص قوانينها على عقوبات خاصة لمن يترافع كيدياً ضد دبلوماسي، لأن في ذلك إساءة مزدوجة للدبلومسي المستأمن ولبلده الذي خوله هذا الحق، فلا بأس أن توضع قيود ضامنة تقرها البعثات الدبلوماسية وتقبل بها تحمي البعثة الدبلوماسية من الدعاوى الكيدية التي تعيق عملهم، لاسيما إذا ما تذكرنا الاحتمال الكبير الوارد أن هذه الدعاوى قد تكون ذات خلفية سياسية وتدفع إليها أحزاب بعينها بدوافع كيدية وسياسية يجب أن نجنب الدبلوماسيين الوقوع فيها.

وكذلك فإنه رفعاً للحرج ذهب فقهاء الشافعية بوجه خاص إلى النص على أنه يمكن أن يخص هؤلاء المستأمنون بعقود خاصة مع الدولة الإسلامية، فلا يلزمون إلا بما التزموه من الأحكام فيها بالإرادة المتبادلة، وأعتقد أن هذا الذي ذهب إليه الفقهاء الشافعية يمكن أن يؤسس لمخرج من هذا الحرج بحيث تقوم الدولة الإسلامية بترتيب اتفاقيات خاصة للبعثات الدبلوماسية تحقق مبادئ الشريعة في العدالة والمساواة وتؤسس على قبولهم لمبدأ الاحتكام إلى التقاضي المحلي فيما يخص حقوق الله وحقوق العباد جميعاً.

قال الشربيني”ﻭﻓﻲ ﺴﺭﻗﺔ ﻤﻌﺎﻫﺩ ﻭﻤﺴﺘﺄﻤﻥ، ﺇﺫﺍ ﺴﺭﻗﺎ ﺃﻗﻭﺍل: ﺃﺤﺴﻨﻬﺎ ﺇﻥ ﺸﺭﻁ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻋﻬﺩﻩ ﻗﻁﻌﻪ ﺒﺴﺭﻗﺔ ﻗُﻁِـﻊ ﻻﻟﺘﺯﺍﻤﻪ، ﻭﺇﻻ ﻓﻼ ﻴﻘﻁﻊ، ﻟﻌﺩﻡ ﺍﻟﺘﺯﺍﻤﻪ. ﻭﺍﻷﻅﻬﺭ ﻋﻨﺩ ﺍﻟﺠﻤﻬﻭﺭ ﻻ ﻗﻁﻊ ﻤﻁﻠﻘﺎﹰ؛ ﻷﻨﻪ ﻟﻡ ﻴﻠﺘـﺯﻡ ﺍﻷﺤﻜـﺎﻡ ﻓﺄﺸﺒﻪ ﺍﻟﺤﺭﺒﻲ” ([141]).

وواضح من عبارة الخطيب الشربيني إقرارهم لمبدأ السيادة في العلاقات الدبلوماسية المؤسسة على عقد الأمان والعهد، فلا يقاضى إلا بما التزم، وبناء عليه يمكن أن تشمل أوراق الاعتماد اتفاقية خاصة للحصانة القضائية وحقوق التقاضي وواجباته.

3) الحصانة المالية:

لا شك أن البعثة الدبلوماسية في الإسلام نالت الحصانة المالية بحكم عقد الأمان الذي أعطته الدولة لهذه البعثة الدبلوماسية، وفي الواقع فإن الأمة بأسرها بهذا المعنى محصنة مالياً، حيث اعتبر من ألزم واجبات الحاكم على الأمة أن يوفر الأمن للناس في أرواحهم وأموالهم، واعتبر المال أحد الضروريات الخمس في الشريعة، واعتبرت الملكية الخاصة من الحقوق التي تحميها الشريعة، وفق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة:

﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾([142]).

وفي الحديث الشريف: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه”([143]).

وبهذا المعنى فالأمة كلها تمتلك الحصانة المالية فيما كسبته من حلال أو أنفقته في حلال.

ولكن الحصانة المالية للدبلوماسيين تشتمل على امتيازات خاصة جرى التعارف عليها وإقرارها بأسباب خاصة، وفي ظروف خاصة، وقد نصت اتفاقية فيينا لعام 1961 على جملة امتيازات تحقق الحصانة المالية للبعثات الدبلوماسية ومنها:

إعفاء أعضاء اﻟﺴﻠﻙ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴـﻲ ﻤـﻥ ﺠﻤﻴـﻊ ﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﻭﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ، ﻭﻜﺫﻟﻙ ﺩﺭﺠﺕ ﺍﻟﺩﻭل ﻋﻠﻰ إعفاء ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ ﺍﻟﺩﺒﻠﻭﻤﺎﺴﻴﺔ ﻤﻥ ﻫـﺫﻩ ﺍﻟﻀـﺭﺍﺌﺏ، ﺇﺫﺍ كانت ﻤﻠﻜﺎﹰ ﻟﻠﺩﻭﻟﺔ ﺍﻷﺠﻨﺒﻴﺔ، ﻭﺫﻟﻙ ﺠﺭﻴﺎﹰ ﻋﻠﻰ ﺃﺴﺎﺱ ﻗﺎﻋﺩﺓ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻠﺔ ﺒﺎﻟﻤﺜل.

وقد تنبه الفقهاء قديماً لهذا الجانب من الحصانة المالية، وورد عن الأئمة اجتهاد دقيق في هذه المسألة ننقل منه ما أورده الإمام يعقوب بن إبراهيم في كتابه الخراج:

“ﻻ ﻴﺅﺨﺫ ﻤﻥ ﺍﻟﺭﺴﻭل ﺍﻟﺫﻱ ﺒﻌﺙ ﺒﻪ ﻤﻠﻙ ﺍﻟﺭﻭﻡ ﻭﻻ ﻤﻥ ﺍﻟﺫﻱ ﺃﻋﻁﻰ ﺃﻤﺎﻨﺎً ﻋﺸﺭ”([144]).

وهذا الأمر ينطبق تماماً اليوم على البعثات الدبلوماسية، وفي تيسير أمورهم المالية خدمة عامة للمجتمع، لأن وجه الخراج منهم ليس فيما يدفعونه على عقار البعثة من ضرائب وخراج وإنما فيما ينجزونه للأمة من اتفاقيات ومبادلات وتحالفات، وهو المقصود الأعظم من وجودهم، وليس الربح المتعجل الذي ينتظر من السياح والتجار.

ولأجل ذلك فقد نص الفقهاء على التفريق بين حاجات الدبلوماسي (المستأمن) في خدمة مصالح بلده بين حاجاته الخاصة في خدمة نفسه، فاعتبروا مال التجارة الخاصة ليس محل الامتياز، وألزموا المستأمن فيه بما ألزموا سائر الأمة من الخراج.

ﻴﻘﻭل ﺍﺒﻥ ﻗﺩﺍﻤﺔ: “ﻭﻻ ﻴﺅﺨﺫ ﻤﻨﻬﻡ ﻤﻥ ﻏﻴﺭ ﻤﺎل ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ”([145]).

ﻭﻴﻘﻭل ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺃﺒﻭ ﻴﻭﺴﻑ: “ﻭﻤﺎ ﻟﻡ ﻴﻜﻥ ﻤﻥ ﻤﺎل ﺍﻟﺘﺠﺎﺭﺓ ﻭﻤﺭﻭﺍ ﺒﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺎﺸـﺭ ﻓﻠـﻴﺱ ﻴﺅﺨـﺫ ﻤﻨـﻪ ﺸﻲﺀ”([146]).

والعاشر هو من يجبي العشر، وهو جابي الخراج كان يأخذ العشور من المزارع والأراضي التي تسقى بماء السماء ونصف ذلك من الأرض المروية بالناضح.

وقد قام الفقهاء بالنص على الحصانة المالية للسفراء والمستأمنين تسهيلاً للعمل الدبلوماسي، والهدف تمييزه عن العمل التجاري منعاً لاستغلال الحصانة المالية للدبلوماسي في الإثراء.

وبالقيود نفسها التي أوردها الفقهاء في الحصانة الدبلوماسية نصت اتفاقية فيينا لعام 1961 في المادة 34 أيضاً على أن الحصانة المالية إنما تكون في كل أمر طبيعته الخدمة العامة ولا يشمل ذلك بالطبع المنافع الخاصة والمصالح الذاتية لأفراد البعثات، وهي كما عددتها المادة34:

ﺃ-ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻏﻴﺭ ﺍﻟﻤﺒﺎﺸﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻠﻊ ﻭﺍﻟﺨﺩﻤﺎﺕ.

ﺏ- ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻤﻭﺍل ﺍﻟﻌﻘﺎﺭﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺼﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻭﺠﺩ ﻓﻲ ﺃﺭﺽ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀﻴﻔﺔ، ﻤﺎ ﻟﻡ ﻴﻜﻥ ﺍﻟﻤﺒﻌﻭﺙ ﻴﺤﻭﺯﻫﺎ ﻟﺤﺴﺎﺏ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺩﺓ ﻷﻏﺭﺍﺽ ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ .

ﺝ- ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﻔﺭﻀﻬﺎ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀﻴﻔﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺭﻜﺎﺕ .

ﺩ- ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻭﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﺍﻟﻤﻔﺭﻭﻀﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺩﺨل ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺍﻟﺘﻲ ﻴﻜﻭﻥ ﻤﺼﺩﺭﻫﺎ ﺍﻟﺩﻭﻟﺔ ﺍﻟﻤﻀﻴﻔﺔ .

ﻫـ- ﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻭﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﺘﺤﺼل ﻤﻘﺎﺒل ﺨﺩﻤﺎﺕ ﺨﺎﺼﺔ.

ﻭ- ﺭﺴﻭﻡ ﺍﻟﺘﺴﺠﻴل ﻭﺍﻟﺘﻭﺜﻴﻕ ﻭﺍﻟﺭﻫﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺘﺘﺼل ﺒﻤﻘﺭ ﺍﻟﺒﻌﺜﺔ.

وقد ذهب فقهاء الحنفية إلى تأسيس الحصانة المالية للدبلوماسيين على مبدأ المعاملة بالمثل، ونقل السرخسي عن أبي حنيفة قوله: ﻻ ﻴﺄﺨﺫ ﻤﻨهم ﺸﻲﺀ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻴﻜﻭﻨﻭﺍ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ ﺸﻴﺌﺎ ﻓﻨﺄﺨﺫ ﻤﻨﻬﻡ ﻤﺜﻠﻪ([147])،  وقد أسس القرآن الكريم لهذا المبدأ في آيات كثيرة: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ﴾، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾،  ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾، وهي أصول عامة في الشريعة تعزز مبدأ المعاملة بالمثل، وقد صرح به الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب في نص واضح وفيه ﺃﻥ ﻋﺎﺸﺭﺍً ﻜﺘﺏ ﺇﻟﻴﻪ: كم ﻨﺄﺨﺫ ﻤﻥ ﺘﺠﺎﺭ ﺃﻫل ﺍﻟﺤﺭﺏ، ﻓﻜﺘﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﻤﺭ كم ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ؟ ﻗﺎل: ﻫﻡ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ ﺍﻟﻌﺸﺭ، ﻓﻘﺎل ﻋﻤﺭ: ﺨﺫ ﻤﻨﻬﻡ ﺍﻟﻌﺸﺭ([148])، ﻭﻓﻲ ﺭﻭﺍﻴﺔ ﺃﺨﺭﻯ ﻋﻥ ﻋﻤﺭ ﺭﻀﻲ ﺍﷲ ﻋﻨﻪ، ﺃﻨﻪ ﻗﺎل ﻟﻌﻤﺎﻟﻪ: “ﺨﺫﻭﺍ ﻤﻨﻬﻡ ﻤﺜل ﻤﺎ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﻤﻨﺎ”

في حين ذهب الحنابلة والشافعية والمالكية إلى أخذ العشر من المستأمنين، استناداً لاجتهاد عمر بن الخطاب الذي قدمناه.

وقد عرض الدكتور محمد إبراهيم الجريبان لأدلة الفريقين ثم رجح مبدأ المعاملة بالمثل فقال:

ﺍﻟﻘﻭل ﺍﻟﺭﺍﺠﺢ ﻫﻨﺎ ﻤﺎ ﺫﻫﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﺤﻨﻔﻴﻪ، ﻭﻫﻭ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻠﺔ ﺒﺎﻟﻤﺜل، ﻷﻥ ﺫﻟﻙ ﺃﺩﻋﻰ ﻟﺘﺤﻘﻴﻕ ﺍﻷﻤـﺎﻥ ﻭﺍﻟﺜﻘـﺔ ﺒﻴﻥ ﺍﻟﺩﻭل، ﻭﻷﻥ ﺃﺴﺎﺱ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﺍﻵﻥ ﺇﻨﻤﺎ ﻴﻘﻭﻡ ﻋﻠﻰ ﻤﺒﺩﺃ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻠﺔ ﺒﺎﻟﻤﺜل، ﻭﺇﻟﻰ ﻫـﺫﺍ ﺍﻟﻤﺒﺩﺃ ﺘﺭﺠﻊ ﻜﺜﻴﺭ ﻤﻥ ﺍﻟﻤﻌﺎﻤﻼﺕ ﺍﻟﻤﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩﻴﺔ ﻓﻲ ﻓﺭﺽ ﺍﻟﺭﺴﻭﻡ ﻭﺍﻟﻀﺭﺍﺌﺏ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﺭﻙ .

ﺃﻤﺎ ﺩﻋﻭﻯ ﺍﻹﺠﻤﺎﻉ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺸﺭ كما ﺼﺭﺡ ﺒﺫﻟﻙ ﺃﺼﺤﺎﺏ ﺍﻟﻤﺫﻫﺏ ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ، ﻓﻴﻤﻜﻥ ﺘﺄﻭﻴﻠﻬﺎ ﺒﺄﻨﻬـﺎ ﺨﺎﺼﺔ ﺒﻤﺎ ﻜﺎﻥ ﻴﺄﺨﺫﻩ ﺃﻫل ﺍﻟﺤﺭﺏ ﻤﻥ ﺘﺠﺎﺭ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻥ، ﻓﻐﺎﻟﺒﺎﹰ ﻤﺎ ﻴﺄﺨﺫﻭﻥ ﺍﻟﻌﺸﺭ([149]).

ولا يخفى أن اجتهاد عمر إنما أطلقه بعد أن سأل العاشر عن قيمة ما يأخذونه منه، فهو حكم بناه على مبدأ المعاملة بالمثل.

وهكذا فإن ما اجتهد فيه الفقهاء من قبل هو ما أخذت به الاتفاقيات الدولية اليوم التي عززت مبدأ المعاملة بالمثل في منح الحصانة المالية للسفراء.

4) الحصانة السياسية:

والمقصود بالحصانة السياسية هو حق الدبلوماسي أن يعبر بوضوح لا لبس فيه عن مواقف بلاده وسياساتها مهما كانت هذه المواقف متناقضة ومرفوضة في بلد الابتعاث، وأن موقفه يجب أن ينال الاحترام بغض النظر عن البرنامج السياسي الذي تمارسه حكومة البلد المضيف.

وفي الحقيقة فإن هذا الأمر اليوم أصبح من حقوق الإنسان الأساسية التي تشتمل عليها شرعة حقوق الإنسان العالمية، وهو حق التعبير والنشر، ومع ذلك فإن النص على هذا الحق للدبلوماسيين يعتبر ضرورة حيوية، لاسيما في البلدان التي لا تزال متخلفة في سجل حقوق الإنسان.

وفي القرآن الكريم مبادئ عامة تشير إلى مسؤولية الإنسان فيما يقول، ووجوب منع البشر من التدخل في مواقف الناس السياسية والاجتماعية والأخلاقية، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْرَهِينَةٌ﴾، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، ﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

ولكن النص على الحصانة السياسية للبعثة الدبلوماسية ضروري، لأن كثيراً من هذه الحقوق التي تحدثنا عنها تمنع في ظروف الحرب، وتفرض حالات طوارئ فهل يشمل ذلك البعثة الدبلوماسية؟

لقد كان النبي الكريم يستقبل الوفود الدبلوماسية في مسجده الشريف، وكان يبالغ في إكرام بعضهم تقديراً لسياسات الدول التي أرسلتهم كما كان حال تكريمه لوفد الحبشة الذين أرسلهم النجاشي، فقد قام يخدمهم بنفسه وحين قال له أصحابه: “نحن نكفيك الخدمة يا رسول الله” قال لهم: “إنهم كانوا لأصحابي مكرمين”([150]).

ولكن الوفود الدبلوماسية لم تكن كلها على هذا المستوى من الأدب والوفاق، فقد أشرنا في غير موضع إلى استقباله صلى الله عليه وسلم لوفد مسيلمة الكذاب وقد كان هؤلاء يتحدثون بما يتناقض كلياً مع العقيدة الإسلامية، ويشككون في نبوة الرسول، بل إن نص الكتاب الذي جاؤوا به يتضمن بشكل صريح العمل على تقسيم الدولة وضرب وحدتها وهو أمر بالغ الخطورة ولكن النبي الكريم تعامل مع هذا الواقع بأدب دبلوماسي جم، ونهى أن يسيء أحد إلى الرسوليّن على الرغم من موقفهما الاستفزازي المشين.

ولكن ما هو أشد خطراً من ذلك كان موقف رسوليّ باذان عامل اليمن لكسرى فقد جاءا بأمر اعتقال النبي الكريم وتسليمه لكسرى، وهو مطلب لا يمكن تبريره على الإطلاق ومع ذلك فقد استضافهما رسول الله في المدينة خمسة عشر يوماً وأحسن ضيافتهما، ونهى أصحابه عن إيذاء أي منهما، وما عادا إلى اليمن إلا وهما مؤمنان.

وبعيداً عن الحصانة الدبلوماسية للسفراء والبعثات فقد عرف التاريخ الإسلامي منح الحصانة السياسية لعدد من الأفراد بواقع وظائف خاصة لهم أو مواقع متميزة، بحيث رفع عنهم السلطة السياسية التي كانت للحاكم المحلي، ومنحهم حق الارتباط بالسلطة المركزية دون الرجوع إلى الحاكم المحلي.

وأول ما روي في تاريخ الخلفاء في هذا المعنى ما ورد  في خبر عبادة بن الصامت فقد كان عبادة بن الصامت من أكثر أصحاب النبي الكريم وعياً ومسؤولية واتزاناً، وكان من أبرز قادة الفتح الذين وفدوا على الشام، ولعل ساحل بلاد الشام مما يلي لبنان قد فتح على يديه، وقد استقر فيه بعد الفتح، وأصبحت داره مقصد الناس ومحجهم ومقضى حوائجهم.

وكان عبادة وإخوانه معاذ وأبو الدرداء قد صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء، وكانوا يعرفون طهره وزهده وعبادته لربه، وهو ما لم يكن معاوية يلتزمه، فقد ورث معاوية حكم الروم وقصورهم وتقاليدهم، ولأجل ذلك فقد كان يظهر أبهة الملك وحواشيه وبطانته، وكان ذلك محل اعتراض شديد من عبادة بن الصامت وإخوانه، ومرارا تعاتب الرجلان وتمسك كل بموقفه، ثم صار عبادة بعد ذلك إلى فلسطين وكان معاوية خالفه في شيء أنكره عبادة فأغلظ له معاوية في القول فقال عبادة لا أساكنك بأرض واحدة أبداً ورحل إلى المدينة، فقال عمر ما أقدمك؟ فأخبره، فقال ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضاً لست فيها أنت ولا أمثالك وكتب إلى معاوية لا إمرة لك عليه([151]).

كان هذا في الواقع أول حصانة سياسية في الإسلام، حيث أعلن الخليفة عمر بن الخطاب أن عبادة بن الصامت وهو مقيم بأرض الشام لا يتبع لوالي بلاد الشام، ولا إمرة له عليه، وأن بوسعه أن يمارس مسؤولياته الكاملة بدون الرجوع الى معاوية في شيء، وكذلك فإنه يملك حق انتقاد سلوك الإدارة والحكم ولو كان ذلك خلاف رغبات السلطة التنفيذية على الرغم من الصلاحيات الكبيرة التي كانت بيد معاوية بوصفه حاكم بلاد الشام، وهكذا فقد قرر عمر بموقفه هذا أمرين اثنين: الأول أنه لا سلطة للحاكم التنفيذي على السلطة القضائية، وتأكيد مبدأ فصل السلطات والثاني أن مبدأ منح بعض الموظفين في السلك القضائي أو الدبلوماسي امتيازات خاصة تسهيلاً لمهامهم له أصل في الفقه الإسلامي وتطبيق الصحابة الكرام.

إنني هنا لا أزعم أننا نؤصل للأعراف الدبلوماسية وفق ما استقرت عليه الاتفاقيات الدولية الحديثة، إننا هنا نلتمس محض إشارات ملهمة، وبإمكان الفقهاء في كل عصر أن يجتهدوا اهتداء بذلك للوصول إلى تأمين حصانة مناسبة للعاملين في السلك الدبلوماسي والقضائي بحيث تتيسر مهامهم دون أن يكون لهم حق تجاوز القانون أو رفض أحكامه.

وتجدر الإشارة إلى أن النبي الكريم والصحابة الكرام من بعده عمدوا إلى تكليف حاكم وقاض في كل أرض تم فتحها، ومن البداهة القول بأن القضاة كانوا مستقلين في أحكامهم، وأن تبعيتهم لم تكن أبداً للوالي المحلي، بل كانوا في أحكامهم يتصرفون بحرية وإطلاق دون قيود، وكانوا يقومون بالواجب المهني والأخلاقي.

5) الملحقيات:

لم يرد استخدام مصطلح الملحقيات في الفقه الإسلامي، ولكن من حيث المضمون فإنه يمكننا أن نرصد في التاريخ الإسلامي عدداً من الملحقيات التي كانت تقوم بهذا الدور، وتحقق الهدف الدبلوماسي لابتعاث الملحقين.

وتنتشر اليوم في العلاقات الدبلوماسية بين الدول أشكال متعددة من الملحقيات سنتناول منها:

  • الملحقية التجارية.
  • الملحقية العسكرية.
  • الملحقية الثقافية.
  • سفارة الحج، وهي في الواقع مما اختصت به الدبلوماسية الإسلامية.

الملحقية التجارية:

اشتهرت قافلة قريش قبل الإسلام في إرساء قواعد التبادل التجاري، وقد خص القرآن الكريم سورة قريش للحديث عن رحلة الشتاء والصيف التي كان العرب يتبادلون فيها التجارات النافعة بين الشام واليمن والحجاز: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ،فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍوَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾([152]).

ولم يرد لدى الفقهاء تفصيل خاص قيما يتصل بالملحقيات التجارية، ويمكن متابعة هذا المعنى فيما حرره الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، في كتابه الخراج وقد حررنا جانباً من رؤيته فيما يتصل بقيام المستأمنين بأعمال التجارة وما يفرض فيه من أموالهم وأرباحهم من العشور.

ومن الواقعي أن نقول إن الملحقيات التجارية هي تطور جديد في العمل الدبلوماسي وهو شيء لم يكن في عصر الرسالة ولا في عصر الخلفاء، والأمر يحتاج إلى اجتهاد مستقل والقاعدة العامة التي تحكم هذا اللون من النشاط هي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ولا شك أن التزام الدولة الإسلامية بتأمين الظروف التجارية للمبتعثين وتنفيذ الاتفاقات الدولية في هذا الشأن هو مسؤولية شرعية ووطنية لا يجوز التفريط فيها.

ويمكن تأسيس أحكام هذه الملحقيات أيضاً في باب المباح الذي يملك ولي الأمر التصرف فيه إيجاباً وسلباً بما تتحقق فيه مصلحة الأمة، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.

وقد أرسل النبي الكريم عدداً من الصحابة بمهام تجارية بحتة، تتصل بتبادل الخبرات والبضائع مع الشام واليمن، ومن هؤلاء أبو عروة البارقي ومنهم عقيل بن أبي طالب الذي كان خبيراً بالتجارة والبيع والشراء، وقال: “ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي”.

وكذلك كان دحية بن خليفة الكلبي يتولى تجارة الشام في زمن رسول الله وفيه نزلت الآية: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾،فقد كان كثير من الصحابة قد استهموا في تجارة دحية وحين وصلت القافلة عند صلاة الجمعة خف الناس ليتسلموا بضائعهم وخلا المسجد من المصلين فنزلت الآية.

وقد برع معاوية بن أبي سفيان في تخير وفود دبلوماسية تتولى أمر التجارة وتبادل البضائع مع البلدان، وتؤسس التبادل التجاري مع البلدان بغض النظر عن سياسات تلك الدول والمواقف العسكرية فيما بينها.

الملحقية العسكرية:

لا تقوم الملحقية العسكرية إلا بين دول صديقة، حيث يكلف بعض الدبلوماسيين بالتعاون مع الدولة المضيفة في الشؤون العسكرية، بتقديم الاستشارات والخبرات وتبادل السلاح والإطلاععلى كل جديد في الحقل العسكري وبالتالي تبادل شراء وبيع الأسلحة لصالح الجيش الوطني.

وهكذا فإنه لا يتصور قيام ملحقية عسكرية في عصر النبوة والخلافة الراشدة التالية، حيث لم تكن علاقات الصداقة الدبلوماسية واردة في تلك المرحلة، بعد أن أعلنت الدول الرئيسية آنذاك محاربة الرسالة الإسلامية، ومواجهتها بشتى أنواع الوسائل الحربية والعسكرية، ولذلك فإننا لم نتمكن من رصد  ظاهرة الملحق العسكري في الدولة النبوية ودولة الخلافة الراشدة.

وبالطبع فإن ذلك لا يعني عدم وجود خبراء عسكريين يؤدون خدمات للدولة ويتحركون ضمن دول أخرى، ولكن ذلك كان يتم بدون أي غطاء دبلوماسي، ولا يمكن اعتبارها ملحقيات عسكرية بالمعنى الحديث.

وما قلناه في شأن الملحقية التجارية نقوله في شأن الملحقية العسكرية فهي تصرف في المباح أوكل الشرع أمره لولي الأمر، والأصل في الأشياء الإباحة إلا ما ورد فيه النص بالتحريم.

وهكذا فإن مشروعية قيام ملحقيات عسكرية تتأسس شرعاً على مدخلين اثنين:

الأول: استصحاب الإباحة الأصلية، وفق ما دلت عليه النصوص القرآنية في هذا الباب، ودعت المؤمنين إلى انتهاج كل سبيل فيه خير للأمة وتيسير لأمورها، ومنها قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾([153])، وقد دعانا للعمل لما فيه خير الأمة عموماً، وهذا الأمر فيه خير عظيم للأمة، وقال تعالى:﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ([154]).

الثاني: الاستدلال بالعموم في الدعوة إلى التعاون على الخير والتعارف فيما هي مصلحة للأمة: ومنها قوله تعالى: ﴿أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾([155])، وقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِوَالْعُدْوَان﴾([156]).

الثالث: إن قيام هذه الملحقيات يكون عادة بالعقود المتبادلة بين الدول، وقد أمر الله عز وجل بالوفاء بالعقود، وقال تعالى: ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾([157]).

وكذلك يمكن الاستدلال بموقف النبي الكريم حين أرسل من أصحابه عيوناً على أعدائه من المشركين والمنافقين وتتبع أخبارهم، وقد اعترض بعض المنافقين على هذا الدور فنزل في الرد على المعترضين: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ﴾([158]). فأكدت الآية الكريمة أن الأمور بمقاصدها وأن الأمة يجب أن تبقى عيناً ساهرة على المصالح العامة وأن لا تتهاون في متابعة شؤون أعدائها.

الملحقية الثقافية:

قامت الدبلوماسية الثقافية خلال التاريخ الإسلامية بدور كبير وإن لم تتحدد ضمن عنوان الملحقيات الثقافية، ولكن كل نشاط قام به المسلمون في حقل التفاعل مع الحضارات الأخرى كان محكوماً بقيم القرآن الكريم التي تدعو إلى احترام ثقافات الأمم، مما لا يتعارض مع قيم الإسلام الكبرى في التوحيد والفضيلة والعفاف والسلام، وفق ما قرره القرآن الكريم: ﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ﴾.

وقد جاء القرآن الكريم صريحاً في احترام ما أنجزه الأنبياء من قبل، وتوضحت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها رسالة تصديق لهدي الانبياء وليست إلغاء وإبطالاً لهم، وتكرر في القرأن الكريم في أربعة عشر موضعاً: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾.

وخلال التاريخ الإسلامي عرفت بعض الملحقيات الثقافية التي حظيت بغطاء دبلوماسي ومن أشهر هذه  الملحقيات ما قام به الخليفة المأمون لدى تأسيس بيت الحكمة حيث أرسل سفراءه إلى الروم والهند والإفرنج لجمع المخطوطات العلمية الهامة وبالتالي لترجمتها إلى اللغة العربية، وقد كانت هذه الكتب تشتمل على كثير من المخالفات في العقيدة الإسلامية ولكنها مع ذلك حظيت بعناية علمية فريدة وتمت ترجمتها إلى العربية بإشراف مباشر من دار الخلافة.

وكذلك ما قام به الخليفة العباسي الواثق بالله (842 –847)؛ إذ أرسل وفداً إلى الإمبراطور البيزنطي مايكل الثالث لزيارة الكهف الوارد ذكرُه في القرآن الكريم([159]).

الملحقيات الثقافية ورسالة الدعوة:

اشتهرت البعثات الثقافية في الإسلام باسم الدعاة إلى الله، وهم الفريق الثقافي الذي كان يتحرك في إطار الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد كان هؤلاء يرافقون عادة جيش الفتح ثم يستقرون في البلدان المفتوحة.

وكان هؤلاء يقومون بدورهم في الدعوة والإرشاد ونشر العلم دون أن يكون لهم قرار أو دور سياسي محدد، ومن أشهر هؤلاء:

مصعب بن عمير: أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة ليرشد أهلها إلى الإسلام ويعلمهم أحكام الدين، وقد أرسل مصعب بناء على اتفاق بين الرسول الكريم وزعماء الأوس والخزرج الذين التقاهم رسول الله عند شجرة العقبة في منى بعد أداء مناسك الحج.

وقد قام مصعب بمهته خير قيام، ولم تتناول سفارته أي جانب سياسي، واختار النبي الكريم أن يكون التفاوض السياسي بينه وبين أهل المدينة عبر رجال من الأوس والخزرج وبشكل خاص سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

أبو موسى الأشعري: ابتعثه الرسول الكريم إلى اليمن، ظهيراً وعوناً لعلي بن أبي طالب وحدد له الرسول الكريم مهمته بتعليم الناس أحكام الإسلام وتلاوة القرآن وحوارهم فيما يتصل بالدين الجديد.

وهذا الجدول يضم أهم البعثات الثقافية (الدعوية) التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم إلى القبائل والبلاد التي قبلت الدعوة، وقد عرفوا في كتب السيرة باسم المصدقين، وأغلبهم أرسل في المحرم سنة 9هـ([160]):

1ـ عيينة بن حصين             إلى بني تميم

2ـ يزيد بن الحصين             إلى أسلم وغفار

3ـ عباد بن بشير الأشهلي       إلى سليم ومزينة

4ـ رافع بن مكيث               إلى جهينة

5ـ عمرو بن العاص            إلى بني فزارة

6ـ الضحاك بن سفيان           إلى بني كلاب

7ـ بشير بن سفيان              إلى بني كعب

8ـ ابن اللتبية الأزدي            إلى بني ذبيان

9ـ المهاجر بن أبي أمية         إلى صنعاء (وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها)

10ـ زياد بن لبيـد                        إلى حضرموت

11ـ عدي بن حاتم              إلى طيء وبني أسد

12ـ مالك بن نويرة              إلى بني حنظلة

13ـ الزبرقان بن بدر            إلى بني سعد (إلى قسم منهم)

14ـ قيس بن عاصم             إلى بني سعد (إلى قسم آخر منهم)

15ـ العلاء بن الحضرمي       إلى البحرين

16ـ علي بن أبي طالب إلى نجران (لجمع الصدقة والجزية)

وقد كان لهؤلاء المبتعثين أبلغ الأثر في انتشار الإسلام في جزيرة العرب وما حولها، وكذلك بنشر ثقافة الحوار والإخاء، والحجة والبرهان بدلاً من ثقافة الحرب والعنف التي كانت تفرض سطوتها في الحياة العربية.

وقد تكرر هذا النموذج في العصر الراشدي حيث كان جيش الفتح يتقدم قوافل الدعاة الذين كانوا يقومون بواجبات هامة غير سياسية في البلاد المفتوحة، وكان من عادة الخلفاء أن يرسلوا إلى الأمصار المفتوحة عدداً من العلماء المشهود لهم بالحجة والبرهان فيكونون في كنف الدولة الجديدة يتولون مهام ثقافية وعلمية غير سياسية.

وخلال التاريخ الإسلامي فقد كانت قوافل الدعاة إلى الله تقوم بواجب كبير في شرح هدايات الإسلام وتبادل الثقافات في البلدان التي ينتقل فيها المسلمون، وفي الواقع فإن وجود هذه الخلايا من الدعاة هي التي تفسر التحولات الكبرى إلى الإسلام عبر التاريخ.

ونشير هنا بشكل خاص إلى تحول أندنوسيا وأرخبيل الملايو وقسم كبير من القارة الهندية إلى الإسلام وهي بلاد يزيد فيها عدد المسلمين عن نصف مليار إنسان تحولوا إلى الإسلام بدون حروب ولا دماء.

وفي هذا السياق فإنني أختار مثلاً واحداً لما يمكن أن تقوم به هذه القوافل الإرشادية (الملحقيات الثقافية) وهو ما دونه الشاعر الإسلامي الكبير محمد إقبال في رائعته الشهيرة شكوى وجواب شكوى، ففيها يذكر إقبال غزو المغول والتتار الذين اكتسحوا العالم الإسلامي في القرن السابع الهجري وحطموا حضارات الإسلام بشكل مريع من خوارزم إلى الري فنيسابور وأصفهان وشيراز حتى وصلوا بغداد وحطموا الخلافة الإسلامية فيها، فقد كان المشهد مريعاً عام 656هـ حين سقطت بغداد بيد المغول وعاثوا فيها فساداً وإجراماً، وقام هولاكو بوضع الخليفة المستعصم في كيس وأمر الخيل أن تمر فوقه حتى تمت تسويته بالأرض، وتحطمت الجيوش الإسلامية أمام المد المغولي الكاسح.

ولكن هذه الصورة المدمرة سرعان ما تغيرت خلال سنوات قليلة، حيث بدأ المغول يتحولون تدريجياً إلى الإسلام الذي حاربوه بكل ضراوة، وأخذ ملوكهم يعتنقون الإسلام الواحد بعد الآخر،وبدأ العالم يتحدث عن دول إسلامية مغولية، كالدولة السبكتكينية المغولية والدولة القبجاقية المغولية والدولة الهمايونية المغولية وهي دول حكمها المغول ولكن في ظلال الإسلام.

لا يملك المؤرخون تفسيراً لهذه الظاهرة العجيبة التي غيرت شكل العالم في القرن السابع  الهجري، حيث لا يوجد نصر عسكري ماحق تحول به المغول إلى الإسلام، ولكنها نشاطات الدعاة الذين كانوا يعملون كملحقيات ثقافية بغطاء دبلوماسي حيناً وبدون غطاء حيناً آخر، حتى تمكن هؤلاء من إقناع عدد من قادة المغول بالقيم الإسلامية العظيمة، وقد رأينا تحولات هامة في الزعماء المغول إلى الإسلام، واليوم فإنأعظم المساجد والمدارس والمشافي والحدائق في شمال الصين والهند وآسيا الوسطى هي التي بناها المغول المسلمون بيد كريمة طافحة بالفن والثراء الثقافي والروحي.

وفي هذا المعنى يقول إقبال:

بغت أمم التتـــــار فأدركتها    من الإيمـــان عاقبة الأماني

وأصبح عابدو الأصنام قدما    حماة البيت والركن اليماني

وكذلك فإن هذا النشاط الثقافي تحرك أيضاً داخل المجتمع الإسلامي، وأنجز المسلمون خلال التاريخ تواصلاً ثقافياً عجيباً، ربط أمصار الإسلام بعيدها وقريبها بأوثق رباط على الرغم من عدم توفر وسائل الاتصال والمواصلات بين الغرب والشرق في تلك القرون.

ومن الشواهد على هذا المعنى أن الإمام ابن عساكر صنف كتابه الكبير تاريخ دمشق، وأرخ فيه لكل من كتب عن دمشق أو تعلم أو علم فيها، أو أقام بها زمناً، ولدى متابعة رجال العلم خلال التاريخ الذين تفاعلوا في بلد كدمشق مثلاً فستقف على مئات الرازيين والبصريين والبغداديين والنيسابوريين والأصفهانيين والأرضروميين والأنطاكيين والشيرازيين والبخاريين والجرجانيين الذين وفدوا من عواصم مختلفة في العالم الإسلامي ونزلوا بالشام وعلموا فيها، وتركوا أثراً من العلم والمعرفة فيها.

والأمر نفسه في شأن من ترجم لبغداد ونيسابور والري وشيراز وأصفهان والبصرة والكوفة والقاهرة ومكة والمدينة وغيرها من حواضر الإسلام الكبرى التي سعدت بنور الإسلام.

إنني لا أزعم أن ذلك تم في إطار ملحقيات ثقافية بالمعنى الدبلوماسي الحديث ولكن التقاليد والآداب التي كانت تغلب في العالم الإسلامي في قيام الولاة والسلاطين باستقبال العلماء وتكريمهم وبيان منازلهم وتقديمهم للناس ونشر علمهم، هي التي أسهمت بأن تتم تلك التحولات الكبرى في إطار مجتمعات عظيمة اعتنقت الإسلام، فلم يكن مسموحاً على الإطلاق للفاتحين أن يتدخلوا في عقائد الناس وكانت تحكمهم الآية الكريمة: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، ولكن هذا الدور البناء نهضت فيه الملحقيات الثقافية المتطوعة أحياناً والمكلفة من الدولة أحياناً أخرى، بغطاء دبلوماسي أو بدون غطاء، حيث كان وصول العالم إلى عاصمة إسلامياً حدثاً كبيرا ينشغل به الرأي العام وتقام في إطاره ندوات ومحاضرات ولقاءات وإجازات. كل ذلك كان يحقق تماماً أهداف الملحقيات الثقافية في العالم الحديث من دون أن تكون هذه النشاطات تحت اسمالملحقيات الثقافية.

سفارة الحج:

اشتهرت سفارة الحج تاريخياً، وقد اهتم بها الخلفاء خلال التاريخ اهتماماً بالغاً، وكان لكل دولة إسلامية سفيرها ووفدها إلى الحج، وكانت مهام سفير الحج سياسية ودبلوماسية في المقام الأول، حيث يتولى التنسيق مع الوفود الأخرى والقيادات المحلية في الحج، ويعتبر ممثلاً للخليفة أو للسلطان أو الأمير الذي ابتعثه، ومن مهامه الاعتناء بالحجاج وتوفير الأمن لهم عبر إجراء التحالفات الدبلوماسية مع الدول والقوى التي كانت تحكم طريق الحج، ومع زعماء مكة المحليين.

ولا نقصد بسفير الحج هنا فقيه المناسك، فقد كان في وفد الحج دوما مرشدون وفقهاء ووعاظ، وكذلك أطباء ورجال أمن، ولكن مهامهم كانت لا تمس الشأن الدبلوماسي الذي كان يتولاه عادة أمير الحج المكلف دون سواه.

وقد اهتمت الدول الإسلامية المتعاقبة بمحمل الحج، وطقوسه وتقاليده، ففي دمشق مثلاً كان الخليفة الأموي يتولى بنفسه الإشراف على هدايا الحرم الشريف، حيث كانت كسوة الكعبة يتم إعدادها في بلدة الكسوة في أطراف دمشق، وكان زيت الحرمين والمسجد الأقصى يتم اصطفاؤه من نقي الزيت وطاهره، وتخصص له مراكب خاصة، وكان محمل الحج يتحرك في موكب مهيب في أجواء احتفالية حيث يصل المحتفلون إلى ثنيات الوداع الشامية، عند الكسوة حي يعقد الخليفة نفسه أمير الحج، ويتفقد مراكب الزيت والكسوة، ويودع المحمل في غاية من الأبهة والفخامة والطقوسية.

وقد حافظ حكام بلاد الشام والعراق ومصر على هذه التقاليد وطوروها، وإنك تجد في أدبيات هذه الدول بالغ الاهتمام بمحمل الحج ودلالاته السياسية والاجتماعية والدينية، ولربما الأخبار نفسها فيما يخص إرسال الكسوة والهدايا والزيت للبيت الحرام ومسجد المدينة والقدس.

وكان أمير الحج مكلفاً بإجراء صفقات سياسية ودبلوماسية كبيرة، ومراراً كانت سفارة الحج تتولى عقد تحالفات جديدة مع الحكام المحليين أو مع أمراء الحج القادمين من بلدانهم بصلاحيات واسعة، وكان يتم توقيع اتفاقات كهذه في جوار الكعبة المشرفة للإفادة من ظلالها الروحية وتأثيراتها الرمزية.

ومع أن مهمة أمير الحج مرتبطة تماماً بالمناسك التي جاء بها النبي الكريم، فإن علينا القول أن هذه السفارة كانت موجودة قبل الإسلام، وكانت أسواق عكاظ والمجاز ومجنة مناسبة موسمية سنوية لعقد التحالفات السياسية والدبلوماسية وكان العرب يعتبرون أن حلف البيت الحرام أوثق وأحكم وأحزم.

وقد قام النبي الكريم بإقرار هذه الحقيقة وترويجها والاستفادة منها تماما، فقد كان ينتظر المواسم ليلتقي أمراء الحج الوافدين في قوافل أقوامهم، وقد اشتهر نشاطه في الموسم، ولقاءاته بأمراء الحج الوافدين، من  تميم وهذيل وكندة واليمن والشام والعراق، واشتهر بشكل خاص حواره مع وفد الحج القادم من الحيرة وفيه زعماء المناذرة المفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة والمثنى بن حارثة، وكذلك وفد كندة ووفد الطائف، وأخيراً وفد يثرب من الأوس والخزرج الذي عقد اتفاقية بالغة الأهمية مع الرسول الكريم في العقبة بمنى، وهي اتفاقية قدر لها أن تغير وجه التاريخ.

وكان أول أمير للحج في زمن النبوة عتاب بن أسيد الذي ولي هذه المهمة في السنة الثامنة بعد أن تم الفتح، ثم أرسل النبي الكريم في السنة التالية أبا بكر الصديق أميراً على الحج في سفارة هامة وتاريخية، ثم أتبعه بعلي بن أبي طالب في مهمة خاصة لتلاوة سورة براءة، وإنهاء البلاغات السابقة فيما يخص التحالفات مع القبائل العربية وبناء عقود جديدة مع العرب الذين رفضوا الدخول في الإسلام.

كما أن سفارة الحج تعاظمت أهميتها في عهد الدولة الأيوبية والنورية والمماليك، وأضيفت إلى مهام أمير الحج مسؤوليات متعددة منها الإشراف على أوقاف البلد الحرام، وتطويرها، وقد كان من دأب الملوك والأمراء أن يقوموا بتطوير هذه المناسك والمرافق وترك بصمة ترتبط تاريخياً بالخليفة المذكور.

أما الدولة العثمانية فقد اهتمت اهتماماً بالغاً بسفارة الحج، وكان منصب أمير الحج لا يناله إلا كبار رجال الدولة بعد خدمات جليلة مشهورة، وكان على الأغلب قائداً عسكرياً شهيراً، لأن الحملة مسؤولة عن أمن الطريق إلى الحج، كما كان من مهمته إقامة الخانات والنزل على الطرق وتأمين حمايتها وخدماتها، كما كان يحمل عادة إلى أهل الحجاز مراسيم سلطانية بالإعفاء من الضرائب والرسوم لكل أهل الحجاز، ويقوم بتوزيع الصرة الهمايونية على أهل المدينة من الأشراف والمقدمين وهي هدايا سلطانية متميزة تخصص للأشراف وأهل البيت وزعماء الحجاز في مكة والمدينة.

كما كان موكب الحج يودع في احتفالات مهيبة على أطراف المدن التي يتحرك منها الحجاج عند ثنيات الوداع منها، وكان فيها المحمل وهو مجسم للكعبة المشرفة على مخمل أسود يوضع على ظهر بعير يتقدم القافلة، والسنجق وهو علم رسول الله يوضع على ناقة خاصة، وكان الموكب يشتمل عادة على الزيت والشموع التي تهدى للحرم الشريف.

كما رسم العثمانيون بتعيين سردار الحج وهو نقيب الحجاج ومقدمهم، ومفتي الحج وفقيه المحمل، واختصوا الحج الشامي بمنصب أمير الركب الذي كان عادة أحد الباشوات الكبار، وكان الحج يبدأ من إسطانبول من الأستانة برعاية السلطان العثماني نفسه ويضم حجاج إسطانبول وبلاد القوقاز والبلقان وينضم إليهم على الطريق حجاج الأناضول والأنطاكية وحلب وحماه وحمص ولبنان ويكتمل اجتماع الموكب في الشام الشريف عند مزاراتها، ثم يتم وداعهم إلى مدينة الكسوة جنوب دمشق على ثنيات الوداع في الشام حيث يتم تحميل كسوة الكعبة المشرفة منها، وكان كل وال عثماني مكلفاً بتأمين أمن الطريق للقافلة إلى حدود الوالي الذي يليه، وكان لكل محمل من محامل الحج منازله ومراتعه في الحرمين وفي أماكن المناسك، وكان أمراء الحج يعاملون كدبلوماسيين رفيعي المستوى لدى كل البلاد التي يمرون بها، وبشكل خاص لدى أمير مكة.

كما تم استحداث “صُرَّه آلايي”، وهي القوات التي كانت تقوم بالإعداد للاحتفال لخروج الصرة والمحمل وموكب الحج من أمام القصر السلطاني، ثم يناط بها الحفاظ على الصرة والمحمل وقافلة الحج، حتى تصل وتعود في أمن وسلام.

وكان أمين الصرة الهمايونية يُختار في معظم الأحيان من بين كبار العسكريين المشهود لهم بالتميز العسكري والتدين وحسن السير والسلوك والتقى الورع وطهارة اليد والعدل، حتى يشرف بنفسه على القوات المرافقة للمحمل، وقافلة الحج. كما يقوم بتسليم الفرمان الخاص بتوزيع أموال الصرة الهمايونية على الحرمين الشريفين وأوجه التصرف والصرف منها إلى شريف مكة ومشايخ الحرمين الشريفين، بحضور رجالات الدولة العلماء وقادة القوات الموجودة في كل من مكة والمدينة وجدة والطائف، وأمراء قوافل الحج. وكان يشرف بنفسه باعتباره ممثلا للسلطان العثماني على أداء المناسك وحفظ الأمن والأمان خلال موسم الحج كله، إلى أن تغادر القوافل كلها المدينتين المباركتين عائدة إلى بلادها، فيعود أمين الصرة بعد أن يكون قد أشرف أيضا على توزيع الأوقاف والمخصصات على أهالي الحرمين، فيقدم تقريرا مفصلا إلى الصدر الأعظم وشيخ الإِسلام في الآسِتانة، وبعدها يمثل بين يدي السلطان ليقدم تقريره عما أنجزه في موسم الحج ومرئياته ومقترحاته للموسم القادم.[161]

وكما هو ظاهر فإن أمير الحج كانت له صفة دبلوماسية متميزة، وكان يمثل السلطان العثماني في كل ما يتصل بشؤون الحرمين ومنطقة الحجاز وطريق الحج.

ومن الناحية الدبلوماسية تعتبر سفارة الحج نوعاً ممتازاً من التمثيل الدبلوماسي فوق العادة، كما أن المناصب المرافقة لأمارة الحج كأمين الصرة وأمين المحمل هي أيضاً مناصب دبلوماسية، وربما تتمكن الدول الإسلامية ومراكز أبحاث الحج من توصيف شكل دبلوماسي مناسب لهذه المناصب يحقق المصالح المشتركة للدول الإسلامية في أكثر من جانب.

الفصل الثاني: القيم الدبلوماسية في الإسلام

o       آداب السفراء

o       مبدأ المعاملة بالمثل

o       مسؤولية السفير بين وطنه ودار إقامته

o       الدبلوماسية واختلاف العقائد

آداب السفراء:

أشار القرآن الكريم إلى جملة من الوصايا لمن ينوب عن الأمة في خدمة مصالحها، وكذلك جاءت السنة المشرفة بعدد من هذه الوصايا الحكيمة، وهي آداب لا تختلف كثيراً عما اعتمده المجتمع الدولي في إطار العلاقات الدبلوماسية والإنسانية بين الأمم والشعوب.

ومع أنه لم يتم تحرير هذا الباب مستقلاً في الفقه الإسلامي من قبل ولكننا سنحاول الاقتراب من هذه الغاية، وفق هَدي الكتاب ونور السنة المشرفة.

ومن أقدم النصوص في أدب السفراء ماجاء في كتاب (أخلاق الملوك) للجاحظ المتوفى عام 255 هجرية تحت عنوان “آداب السفير” مانصه:

“ومن الحقِّ على الملك أن يكون رسولُه صحيح الفِطرة والمزاج، ذا بيانٍ وعبارة، بصيرًا بمخارج الكلام وأجوبتِه، مؤدِّياً لألفاظ الملِك ومعانيها، صادق اللَّهجة، لا يميل إلى طمَعٍ أو طبْع، حافظًا لِما حمِّل، وعلى الملك أن يمتحنَ رسولَه محنةً طويلة قبل أن يجعلَه رسولاً([162]).

وقد امتلأت كتب الأدب بالوصايا الكثيرة التي كان يزود بها السفراء لدى ابتعاثهم في مصالح الأمة، وفيما يلي طائفة من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها السفير وفق ما أرشد إليه فقهاء الإسلام ودلت عليه مبادئ الشريعة.

الأمانة والدقة فيما يوكل إليه من مهام:

إن الصفة التمثيلية للسفير تحتم عليه الدقة فيما يتخذ من موقف وفيما يقدم من رأي، فأنت هنا لا تمثل نفسك وإنما تمثل من أوفدوك، وحق الأمة هنا مؤكد في محاسبته في كل ما يقول ويفعل.

وهذه النزاهة الدبلوماسية حق وواجب، وعلى الدولة أن توفر ظرف النزاهة للرسول المبتعث منها وللرسول الوافد عليها، وإن أي ضغط على السفير لتقديم خلاف ما كلف به يعتبر خيانة للنزاهة الدبلوماسية التي ينبغي أن تتوفر في سلوك السفير.

وقد دل على ذلك عموم المعنى في النص القرآني: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾، والسفارة وكل ما خولتك الأمة من واجب فيها أمانة يتعين أداؤها للأمة على وجه صحيح من الأداء.

وفي القرآن الكريم كثير من الوصايا التي تأمر الإنسان بمراقبة الله في قوله وفعله، فإن الله بصير رقيب، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.

ومن المواقف الدقيقة في هذا الجانب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل أبا رافع رسولاً من قريش، فاستمع إليه، ولكن هذا الرسول سرعان ما تأثر بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ورغب في الإسلام، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الإسلام وهو في مهمته الدبلوماسية احتراماً وتثديراً لصفته التمثيلية، ووفاء بالعهد الذي التزمه من قبل، وما يترتب عليه من نقل الحقيقة للقوم، وفق الأصول الدبلوماسية.

وفي عبارة بالغة الوعي بالآداب الدبلوماسية الرفيعة، قال له رسول الله: “إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبِك الذي فيه الآن، فارجعْ إلينا”([163]).

وفي هذا الموقف النبوي الحكيم دلالة عظيمة من وجهين، فهي احترام لأمانة الرسالة التي كلف بها رسول قريش من جانب، وهي من جانب آخر دعوة للتأمل والدراسة والاستبصار في اختيار العقيدة، فقد يكون الرجل قد تأثر بالجو المحيط به، فأراد رسول الله له أن يدخل الإسلام عن قناعة ويقين.

وبالفعل فقد عاد أبو رافع إلى قريش وأدى رسالته تماماً كما كلفوه، ثم أقام أياماً ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.

وقد تكرر هذا الأمر في كثير من المفاوضين ومنهم أبو العاص بن الربيع وعروة بن مسعود الثقفي وبديل بن ورقاء الخزاعي والحليس بن علقمة وآخرون كانت تنشرح صدورهم للإيمان ولكن رسول الله لا يقبل منهم نقض عهدهم لمن أرسلهم بل يأمرهم أن يراجعوا أنفسهم بعد أداء مهمتهم الدبلوماسية والتفاوضية.

التزام مبادئ القدوة في السلوك الشخصي:

السفير ليس حراً في اختيار سلوكه، بل إن واجبه المهني يفرض عليه التخلي عن كثير من رغائبه، ويتوجب عليه اجتناب كثير من الشبهات حتى لا يقع في المحظور.

وفي القرآن الكريم وصايا واضحة في هذا المعنى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾، وفيه قوله تعالى:﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾.

وفي هذا السياق فإن من حق الدولة وضع آلية مراقبة لسلوك السفراء، والتزامهم بمعايير الاستقامة والعفاف في كل أحوالهم، مع التأكيد أنه ليس ثمة من سبيل يمكن أن تحقق الرقابة التامة على سلوك الإنسان إلا ضميره وخوفه من الله.

وقد ذكرنا طرفاً من هذه المسؤولية في باب تعيين السفراء، وفي هذه النقطة بالذات تختلف النظرة الإسلامية عن النظرة المادية، ففي حين يؤكد الإسلام على التزام القدوة الصالحة لمن يلي شيئاً من أمر الأمة فإن النظرة التقليدية في الغرب لا تعير أهمية لمبدأ القدوة الصالحة، وتعتبر ذلك من شأن الحريات الشخصية، وتلتزم الثقافة الغربية عموماً مبدأ حرية الإنسان الشخصية، وتعتبر سلوكه خارج أوقات الدوام الرسمي شأناً شخصياً لا صلة لأحد به في حين أن الإسلام يأمر بالاستقامة في كل حال.

حق على من يصعد المنبر     أن يترك الفحشاء والمنكر

ويحسن القول الذي قالـــه         ويحسن السر الذي أضمر

ويجب القول إن ما ذكرناه عن الإفراط في منح الموظف الحكومي الحرية الشخصية خارج وقت دوامه ليست شأناً مطرداً في الغرب،بل إن الوعي العام ومؤسسات النزاهة والعدالة والأسرة لا تزال تناضل من أجل حق الناس في مراقبة سلوك المسؤول الحكومي ومحاسبته في سائر شؤونه.

الاعتناء بالمظهر وإظهار الهيبة في غير مخيلة ولا إسراف:

السفير يمثل الدولة والشعب، وعليه أن يحافظ على هذه الصورة في عيون الناس، وليس التواضع محموداً في كل حال، بل المطلوب هنا تمثيل البلاد بما يليق بكرامة أهلها وحسن شمائلهم.

وقد يكون من طبع السفير البساطة والتواضع، ولكن ما ينبغي أن يظهره في منزله ومكتبه ودعواته إنما هو سمعة بلاده ومكانتها وليس شمائله الشخصية.

وكان من شمائل النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس أحسن اللباس ليستقبل الوفد، وكان له دلو ماء يكور عمامته عليه ليطل على الناس بما يتناسب من إناقة وحسن مظهر، وعن عُروة: “أن ثوب رسول الله الذي كان يَخرج فيه إلى الوفد رداء حضرمي وإزاره من نسج عُمان كان يلبسهما يوم الجمعة والعيدين ثم يُطويان”([164])، وعن جابر: “كان رسول الله يَلبس بُرْدَه الأحمر في العيدين والجمعة”.

ولا يوجد كتاب في الفقه الإسلامي إلا وفيه باب اللباس، وبيان ما يحسن وما يقبح من اللباس، وهو ما بينه القرآن الكريم بقول الله تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ﴾[165].وقد أوصت الشريعة بنظافة البدن والثوب والمكان، وعند رسول الله من خصال الفطرة تقليم الأظافر والأخذ من الشارب والطيب.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة”، وكان لا يخرج إلى الناس إلا مطيباً، وكان يعجبه المسك والزعفران، وقد رويت هذه الشمائل كلها في أبواب السنن النبوية فكانت دليلاً واضحاً على وجوب العناية بالمظهر الحسن في الإسلام([166]).

وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يدخل الجنة منكان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، قال رجل:”إن الرجل يحب ان أن يكون ثوبهحسنا ونعله حسنة، فهل ذلك من الكبر؟” فقال صلى الله عليه وسلم: “أن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمطالناس([167]).

ومع أن رسول الله كان أعظم الناس تواضعاً وأشدهم بساطة، ولكنه كان أيضاً كما وصفه الله: “أعزة على الكافرين أذلة على المؤمنين، رحماء بينهم”، ولا تناقض بين البساطة الشخصية وبين إظهار منزلة الدولة في الهيبة والمقدرات والكفاية والوفرة.

ولعل مما يشكل هنا الموقف المشهور لعمر بن الخطاب الذي شرحه حافظ إبراهيم بقوله:

وراع صاحب كسرى أن رأى  عُمراً بين الرعية عطلا وهو راعيها
وعهده بملوك الفرس أن لها سورا من الجند والأحراس يحميها
رآه مستغرقا في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فهان في عينه ما كان يكبره من الأكاسر والدنيا بأيديها
وقال قولة حق أصبحت مثلا وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت فيهم قرير العين هانيها
وفر شيطانها لما رأى عمراً إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

والواقع أن هذا الموقف لأمير المؤمنين عمر يعكس البساطة التي كان يعيشها الناس في المدينة، والأمن الذي حققه الإسلام، ولا أشك أيضاً أنها كانت رسالة دبلوماسية مباشرة أراد عمر بن الخطاب أن يرسلها إلى كسرى المشهور بالأبهة والبذخ والترف، أن المسلمين ليسوا بأصحاب مطامع دنيوية، إنما لهم رسالة هدى ونور، وأن قصور الدنيا ليست في أعينهم ولا مطامعهم، وإنما مرادهم أن يكسروا سلطان المستبدين عن الناس، ويمنحوهم الحرية التي قال عنها عمر في خطابه: “يا عمرو.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.

ومع محافظة عمر على هذا اللون من البساطة، ولكنه أقر معاوية في الشام حينما أظهر ابهة الملك، وحين اعترض أبو ذر على اتخاذه قصر الخضراء وما وضع فيه من مظاهر الملك والأبهة والنفائس، وقد كتب عمر لمعاوية في ذلك فقال: “يا أمير المؤمنين إن أهل الشام أهل ملك، فأخاف إن صرفت عنهم ذلك أن نهون في أعينهم، وإنه لا يصلح لهم إلا هذا…” فرضي عمر منه ذلك، وأقر مبدأ اختلاف الأحوال باختلاف البلدان.

احترام التقاليد الدبلوماسية ما لم تتعارض مع قيم الإسلام:

إن قيام السفراء بالتزام معايير التقاليد الدبلوماسية في الإتيكيت والتواصل والمجاملة هي أمور محمودة، تنفيذاً للعقود التي تعاقد عليها هؤلاء السفراء، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾([168]).

ولكن ذلك يجب أن لا يتناقض مع قيم الإسلام الكبرى، ويجب القول إن الإسلام لم يفصل كل حلال وإنما اكتفى بتفصيل الحرام، وقد قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾[169]، ولم يقل وقد فصل لكم ما أحل لكم، فالحلال أصل والحرام طارئ، وفي باب الطعام والشراب فإن الحرام الذي لا لبس فيه هو ما جاءت به الآية الكريمة: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُإِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍفَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾[170]، ثم نزل تحريم الخمر في آية صريحة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.[171]

ويستطيع السفراء أن يتجنبوا هذه المحرمات الخمسة، ويكون كل ما وراءها على الأصل الذي أحله الله، ولا يحرم إلا ما ثبت ضرره بدليل صحي بين، وهذا قدر يشترك فيه كل العقلاء.

إن مجاراة العرف الدبلوماسي في أكل لحم الخنزير وشرب الخمر يتناقض مع القيم الإسلامية التي جاءت صارمة في تحريم هذين اللونين من المطاعم.

ويجب القول إن الدبلوماسية العالمية ناضجة وواعية ومرنة، ويدرك الدبلوماسيون الخبراء من كل الأمم خصائص هذه الشريعة، ويحترمونها، وهذا اللون من الاحترام هو أبسط قواعد الدبلوماسية، والتزامه يعكس وعياً دبلوماسياً لدى الفريقين.

والأمر نفسه يتعين في السفير الذي يخدم في بلاد يلتزم أهلها طعاماً نباتياً اتباعاً لأديانهم فلا يصح أن يقدم لهم أطباق مما يعتقدون حرمته، وكذلك ينبغي الانتباه إلى الموائد التي تقدم للمسيحيين خلال الصوم الكبير قبل الفصح في الدول التي تتبنى التقاليد المسيحية فلا ينبغي ان يقدم لهم اللحم خلالئذ، وإنما شأن الدبلوماسية أن تجامل ضيوفها تقديراً لمذاهب الناس وقناعاتهم.

ومن التقاليد التي لا تجوز المجاملة فيها السجود للحاكم أو الملك، فهذه قيم تتناقض مع روح الإسلام ولا يؤذن للسفير بأن يجامل فيها، وقد سبق إلى إنكارها طلائع السفراء الذين أرسلهم النبي الكريم في الآفاق ورفضوا السجود لغير الله.

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾([172]).

وقال: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾([173]).

معرفة ثقافة البلد التي يرحل إليها:

إن معرفة السفير بثقافة البلد التي يعمل فيها ضروري لتحقيق نجاحه، وقد رأينا في سفراء النبوة حسن الاختيار الذي قام به النبي الكريم حيث كان يختار الرجل المناسب في المكان المناسب.

وقد وردت الإشارة مراراً في وصايا النبي الكريم للسفراء بالإطلاع على ثقافة البلد التي يعملون فيها، وفي وصيته لمعاذ بن جبل قال له:

“إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموالهم”([174]).

وفي هذه الوصية النبوية الكريمة توجيه دقيق بوجوب الإطلاع على ثقافة البلد التي يعمل فيها السفير، وأولها تذكيره بما لدى القوم من علم بالكتاب القديم، وأن عليه أن يكون على دراية ومعرفة بثقافة القوم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن اليمن كانت تاريخياً تتبع مكة في أمر حجها ونسكها وعبادتها، وبعد انتشار أمر الإسلام دخلت قبائل اليمن في الإسلام وجاءت الوفود إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن، وقد أرسل رسول الله إلى اليمن عدداً من الصحابة الكرام في مهام دبلوماسية وقضائية مختلفة، منهم معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب.

وكان موقع دبلوماسي النبوة في اليمن أشبه ما يسمى اليوم بالمفوض السامي، وهي رتبة دبلوماسية تتجاوز رتبة الوزير المفوض كما تتجاوز رتبة السفير، وهي سفارة خاصة بالدولة الكبرى التي تقود روابط سياسية تاريخية كالكومنولث البريطاني الذي يمنح سفراء بريطانيا صفة المفوض السامي في دول الكومنولث التي لا تزال تحت العلم البريطاني، وفي هذه الحالة فالسفير هنا لا يتقدم بأوراق اعتماده للدولة المضيفة ولديه استثناءات كثيرة وهي عادة محل ترحيب الدولة العضو في هذه الرابطة لأن المنفعة متبادلة بين الفريقين.

وكما هو واضح من خطاب الرسول الكريم فقد كلفه بالتزامات مباشرة في جمع الزكاة وجباية الخراج، ولكن كما هو واضح فقد اعتبر ذلك موقوفاً على موافقة القيادات المحلية في اليمن، قال: “فإن هم أطاعوك فأخبرهم”، وفي الوصية النبوية أن الزكاة تؤخذ من أغنيائهم وتدفع إلى فقرائهم، وهذا إقرار بلون من الاستقلال الاقتصادي لشعب اليمن، ولكن ذلك كله كان مقيداً بطاعتهم ودخولهم في الإسلام هو الذي منحه صفة السفير السامي، ولولا ذلك فإنه ليس له عليهم سلطان.

احترام القوانين المحلية والالتزام بعادات الناس وتقاليدهم:

من شأن السفير أن يلتزم بما تعارفه الناس في البلد التي يعمل فيها، وفي الوصية السالفة التي قرأناها نلاحظ أن النبي الكريم أمر معاذاً أن يتوقى كرائم أموال القوم، وفي ذلك إشارة واضحة إلى احترام عاداتهم وتقاليدهم، واعتبار خصوصياتهم في الادخار والتنمية.

وكما هو واضح فإن الأوامر التي تلقاها معاذ كانت بصفته سفيراً وليس بصفته حاكماً، وكان عمله في القضاء مختصاً بمن يقبلون الاحتكام إلى الشريعة، ولم يكن على سبيل الحتم والإجبار، ولم تكن لديه أي قوة عسكرية تلزم طاعته.

ولعل من أنجح السفارات في تاريخ النبوة سفارة الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب التي وفد فيها على النجاشي، وقد بلغ من  تقدير النجاشي ومحبته لجعفر أنه حين رزق النجاشي بمولود وكان جعفر قد رزق بمولود أيضاً، فساله النجاشي: ما سميت ابنك يا جعفر فقال عبد الله، فاختار النجاشي هذا الاسم لولده، وسماه عبد الله بن النجاشي مع أن هذا الاسم غير موجود في الثقافة الحبشية ولا معنى له في لغتهم، ولكنه أثر واضح لنجاح جعفر في التأثير على النجاشي، وكسب وده واحترامه وتقديره، وكانت أسماء بنت عميس زوجة جعفر وثيقة الصلة أيضاً ببلاط النجاشي وقد أرضعت ابنه عبد الله مع ابنها عبد الله.[175]

وفي هذا السياق نشير هنا إلى أدب عظيم علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، حين وفد على المدينة،فأقر كثيراً من عاداتها وتقاليدها، إلا ما صادم العقيدة،وفي الحديث أن أبا بكر الصديق دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جارتان تغنيان بغناء بعاث، فنهرهما، وفي رواية غضب فقال: “أمزمارة الشيطان في بيت رسول الله؟”.

لقد كان ما فعله أبو بكر استنكاراً لهذا السلوك الذي لا يتناسب مع ما عرفه من أمرالنبي الكريم من اهتمام بالأمور العظيمة والإعراض عن السفاسف، والرسول الأكرم معلم ومرشد وإمام لا يجد وقتاً لهذه الفنون، وقد كان انصرافه عنها بواقع انشغاله المستمر في الدعوة والهداية، وكذلك فإنه نهى عن المجون والتبرج.

ولكنه مع ذلك لم يشأ أن يفرض على أهل المدينة ترك عاداتهم وطباعهم وشكل حياتهم، وقال لأبي بكر: “دعهما يا أبا بكر … فإن لكل قوم عيداً وهذا عيد الأنصار”([176]).

وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يوم زفاف بريرة: “هل أخذتم معكم لهواً؟” قالت: “لا”، قال:”فإن الأنصار يعجبهم اللهو، فهلا بعثتم معها بجارية تضرب بالدف وتغني: أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم ولولا الذهب الأحمر لما حلت بواديكم ولولا الحبة السوداء ما سرت عذاريكم”([177]).

وهذا إقرار منه صلى الله عليه وسلم على احترام عادات الناس مما لا يخالف الشرع الحنيف، واحترام الاختلاف، ولا شك أن هذا التوجيه النبوي أصل في تأسيس العرف الدبلوماسي في احترام العادات المحلية والتقاليد التي تتبعها الشعوب وفق ما أرشد إليه القرآن الكريم: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾[178].

عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول:

تبدو هذه القاعدة غير مقبولة في الدبلوماسية الإسلامية التي جاءت لتخدم حقيقة مؤداها أن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، وأن هداية الناس وحملهم على الإسلام في صلب مقاصد الرسالة والرسول، وقد مارس الرسول الكريم هدم أصنام الكفار وتمزيق شعائرهم الجاهلية من الأنصاب والأزلام وغير ذلك.

ولكن هذه الصورة التي نقرؤها من جانب واحد تختلف عما نحن بصدده، فهناك فارق كبير بين مسؤوليات الدولة الإسلامية على أرضها وفي رعاياها وبين مسؤولية الأمة الإسلامية في أراضي الغير، وفي بلدانهم.

فقد ثبت بالفعل أن رسول الله صلى الله عيه وسلم حطم أصنام المشركين ولم يأذن ببقاء صنم منها، وطمس بيده الكريمة عدداً من هذه التصاوير وحذر منها في أحاديث كثيرة، ولكن ذلك كله إنما بعد أن صار له على العرب سلطان في إطار حكمه ودولته الكريمة.

أما في دولة الآخرين فقد أقام النبي صلى الله عيه وسلم ثلاثة عشر عاماً بين ظهراني المشركين ولم يكن له عليهم سلطان، وكان يقدم الموعظة والنصيحة ما وجد لذلك قبولاً، بل إن القرآن الكريم أرشده إلى ما هو أبلغ من ذلك فقال: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾.

وخلال تلك الفترة لم يقم رسول الله بكسر أي من أصنامهم رغم موقفه الصريح في رفض الوثنية، ورغم قدرته الأكيدة على تحطيم هذه الأصنام أو بعضها بمساعدة الصحابة الكرام، كما أنه لم يقم بذلك بعد الهجرة رغم وجود عدد من الصحابة الكرام في مكة وقدرتهم على فعل ما يغيظ المشركين.

ويحسن هنا أن نقارن بين موقف اثنين من الأنبياء كلاهما من أولي العزم من الرسل، إبراهيم خليل الرحمن والمصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد قام إبراهيم بكسر الأصنام جميعاً من اليوم الأول، ولم يكن له على قومه سلطان، ولم يكن يحكم بلاد أور، وكانت النتيجة أن قومه أوقدوا له ناراً عظيمة وألقوه فيها، وعادوا لصناعة الأصنام من جديد وعبادتها دون أن يتغير في سلوكهم شيء، وعلى الرغم من المعجزة الساطعة التي أكرم الله بها خليل الرحمن، يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فإن قومه عدوا ذلك لوناً من السحر، واشتروا أصناما جديدة، واستمروا في عبادة الأصنام.

أما موقف النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يتجلى في هدم الوثنية قبل الوثن، فقد هدم الوثنية في قلوب المشركين وأسعدهم بالإسلام، وعندما مكن عقيدة التوحيد في قلوبهم أرسلهم ليهدموا بأنفسهم ما كانوا يعبدونه من ضلال مبين، وحين هدمت هذه الأصنام بيد عابديها السابقين لم تقم لها بعد ذلك قائمة، وقال صلى الله عليه وسلم:”إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب”.

ولكنه بدأ بتحطيم الأصنام عندما أصبح من الناحية القانونية والواقعية حاكما فعلياً لمكة المكرمة وللدولة الإسلامية الناشئة وبعد أن ألغيت دولة المشركين بكل تفاصيلها.

ومع ذلك فمن المدهش أن النبي الكريم لم يرسل لهدم الأصنام أصحابه الباسلين من السابقين الأولين والمهاجرين الأبرار كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير، بل اختار لهذه السرايا التي كلفت بهدم الأصنام قادة من المشركين الذين أسلمو حديثاً، وذلك تجنباً لاستفزاز السكان المحليين ممن عاشوا وآباؤهم يعبدون هذه الأصنام ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وهذه قائمة بقادة السرايا التي هدمت الأصنام ونلاحظ أن ليس فيهم عمر بن الخطاب ولا علي بن أبي طالب ولا الزبير بن العوام وغيرهم من الفرسان الأبرار الذين سبقوا إلى الإسلام، ويمكن قراءة هذه القائمة:

  • صنم اللات التي كانت تعبدها ثقيف هدمتها سرية كان يرأسها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة.
  • صنم العزى التي كانت تعبده قريش بأرض نخلة هدمته سرية كان يرأسها خالد بن الوليد.
  • صنم سواع وهو صنم هذيل في أرض رهاط قرب من مكة، هدمته كتيبة عمرو بن العاص.
  • صنم مناة هدمته سرية سعيد بن زيد الأشهلي.

فهؤلاء القادة الذين قاموا بهدم هذه الأصنام كانوا في الواقع إلى عهد قريب يعبدون هذه الأصنام، وحين هدم النبي الكريم الوثنية في قلوبهم انقلبوا صقوراً حازمة تهدم بفأس الحق أوهام الجاهلية الوثنية الأولى، فهدمت الأصنام ولم تقم لها بعد ذلك قائمة.

وفي توضيح بالغ الأهمية تستأنف الآية الكريمة: ﴿كذلك زيَّـنّا لكل أُمّةٍ عملهمْ ثُمَّ إلى ربهم مَرْجِعُهُمْ فينبِّـئُـهُـم بما كانوا يعملون﴾([179]).

والمعنى نفسه أكدته آية الأنعام: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ﴾([180]).

وفي المعنى نفسه قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾([181]).

والموقف نفسه التزمه الصحابة الكرام الذين هاجروا إلى الحبشة التزاماً بهدي النبي الكريم فقد أقاموا في الحبشة في ظهراني قوم لهم بطارقتهم وصلبانهم وعقائدهم ولا نعلم أن أحداً من الصحابة الذين كانوا يشكلون سفراء الإسلام قد أساء لأي من معتقدات القوم أو نال منها، فقد التزموا موقفاً مسؤولاً من عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدولة المضيفة، وبنوا أوثق الصلات مع القوم الذين هاجروا إليهم مع محافظتهم على عقائدهم ودينهم وتوحيدهم.

بناء جسورمن المحبة والاحترام مع الدول المضيفة:

إن السفارة الناجحة هي تلك التي تترك أثراً باقياً بعد رحيل أفرادها، وتؤسس لعلاقات واعية ونافعة لصالح البلدين، والسفير الناجح هو ذلك الذي يبني أوثق الصلات مع الشخصيات الاجتماعية والوطنية والدينية في البلد المضيف.

وينطلق المؤمن في بناء جسور الاحترام من حقائق دينية راسخة، ذلك أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سجل رسول الله صلى الله عليه وسلم احترامه للمعرفة من أي مصدر جاءت، وفي يوم بدر فك الأسارى بتعليمهم عشرة أطفال من المسلمين القراءة والكتابة فاعتبر هذا اللون من التبادل المعرفي مشروعاً مع عدو محارب فكيف بسفير معاهد([182]).

وخلال التاريخ الإسلامي عرف باب الرحلة في طلب العلم الذي كان يسابق إليه مشاهير العلماء في العصر الذهبي للإسلام، وكانوا يقولون اطلب العلم ولو في الصين، وكان هؤلاء كلما حلوا بأرض نفع الله بهم علماءها وعامتها، وكان هؤلاء العلماء يقدمون وفاء للبلاد التي ينزلون فيها على شكل بحوث ودراسات وكتب تصنف في التعريف بهذه البلاد التي نزل بها العلماء، ومن هذه الكتب:كتاب تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة لأبي الريحان البيروني، وقد صحب البيروني السلطان محمود الغزنوي ثلاث عشرة مرة إلى الهند وكان يدون قراءاته ومشاهداته ثم أصدرها في كتاب واحد وصفه بروكلمان بأنه أهم ما أنتجه علماء الإسلام في معرفة عقائد الأمم.

ومن السفرء الناجحين الذين دونوا مشاهداتهم وانتفع بها الناس أيضاً الشريف الإدريسي عالم الجغرافيا الشهير الذي قام بسفارات ناجحة لروجر الصقلي، وهي نوع فريد من السفارات فقد كان روجر ملكاً مسيحياً من النورمان، وقد حكم صقلية بعد خروج الأغالبة منها، وكان حسن السيرة مع المسلمين، وقد قرب عدداً منهم أشهرهم الإدريسي، الذي أقام لديه نحو عشرين عاماً، وأوفده في سفارة خاصة إلى بلاد الشام، وقد كتب في أعقاب سفارته كتابه الشهير: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق.

والمتأمل في كتاب الإدريسي الذي أعده عام 1154 يلاحظ لدى الإدريسي براعة دبلوماسية فريدة، فقد كتب بتفصيل عن الحريات الدينية في القدس، وتحدث عن كنيسة القيامة والحياة الآمنة للمسيحيين في بلاد الشام، ولا أشك أن هذا الكتاب كان له أكبر الأثر في موقف صقلية تجاه الحروب الصليبية على الرغم من الضغط الكبير عليها من قبل البابا للإنخراط في الحروب الصليبية، ولكن سفارة الإدريسي الناجحة حالت دون ذلك.

ومن السفراء الناجحين كذلك ابن جبير الأندلسي المتوفى عام1220م،الذي كتب كتابه تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، وشرح فيه بالتفصيل مشاهداته خلال سفاراته في بلاد الشام، ويمكن في هذا السبيل أيضاً أن نشير إلى الرحالة ابن بطوطة المتوفى 1348م،وكتابه الشهير تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، مع الإشارة إلى أن ابن بطوطة لا يعتبر سفيراً بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنه على ذلك كان أفضل سفير ربط بين المشرق والمغرب، وقد تم التعامل معه في البلدان الإسلامية، ولاسيما بلاد الشرق باحترام كبير، وقد عمل في جزر المالديف قاضياً للقضاة لعام ونصف وتزوج من تلك البلاد.

وأسمح لنفسي هنا بالاستطراد قليلاً للإشارة إلى أن رحلة ابن بطوطة التي امتدت من طنجة بالمغرب العربي فشملت كل الشمال الأفريقي الجزائر وتونس وليبيا ومصر والنوبة ثم اليمن والحجاز والشام والعراق ثم بلاد العجم والهند وانتهى مطافه فيها في جزر المالديف، كان ينتقل فيها بدون جواز سفر!! ولم يكن يستخدم إلا لغة واحدة!! هي لغة العالم آنذاك وهي اللغة العربية، وكانت كل هذه الشعوب تحتكم إلى شريعة واحدة هي الإسلام، ولأجل ذلك فقد عمل قاضياً فيها لأنه خبير بقانونها الذي لا يختلف عن قانون المغرب في شيء وهو نفسه كان قانون البلاد التي تمتد من الأندلس إلى جزر المالديف، وهو الشريعة الإسلامية.

الالتزام بالتواصل مع الدولة والعمل في سياق مؤسساتها:

إن البعثة الدبلوماسية هي امتداد للأمة في بلاد المغترب، ومن واجب البعثةالدبلوماسية أن تكون عيناً للأمة وأن تعتمد عليها الأمة في معرفة دقيقة بمصالحها وحاجاتها المستمرة.

ولا شك أن قيام السفراء بهذه المهمات لا يقلل من شأنهم ولا يحولهم إلى مخبرين فالصلة هنا بالأمة وليست بالنظام، والدبلوماسيون يخدمون قضايا أوطانهم وشعوبهم، ولا ينبغي أن ينصرفوا إلى القضايا العائلية التي تخص أسر الحاكمين.

وعلى الحاكم أيضاً أن يتجنب إقحام الدبلوماسي في قضايا خاصة، وأن يفرق بوضوح بين حاجة الوطن والمصالح الشخصية للحاكمين، فهناك استحقاقات معروفة تنص عليها القوانين فيما يتعين على الدبلوماسي فعله لتيسير أمور المسؤولين السياسيين على اختلاف درجاتهم، ولكن ترك هذه المسائل بدون قانون، أو تجاوز ما نص عليه القانون لاعتبارات شخصية وفردية سيجعل من البعثة الدبلوماسية مجرد مندوبين لمصالح الحاكمين والمتنفذين وهذا خطأ كبير.

وفي هذا السياق نسترشد بما قاله أويس القرني، خير التابعين، فقد اشتهر هذا الصحابي اشتهاراً كبيراً لانه الوحيد الذي وصفه رسول الله بالاسم والوصف دون أن يكون له شرف الصحبة أو زيارة رسول الله، وقد قال رسول الله لعمر بن الخطاب: “إذا لقيت أويس القرني فاسأله الدعاء”، فكان عمر يترقب الوفد من اليمن رجاء أن يلقاه ويسأله الدعاء، وعندما حج أويس فرح به عمر بن الخطاب وأكرمه إكراماً عالياً، وحين أنهى نسكه أراد الذهاب إلى البصرة، فقال له عمر بن الخطاب: “ألا أكتب لعاملها؟ ليقوم بشأن أويس ويكرمه، ولكن أويساً قال بوضوح: “لا يا أمير المؤمنين… أن أكون في غبراء الناس أحب إلي”([183]).

وفي هذا السياق اشتهرت سياسة عمر بن الخطاب الذي كان يستدعي الدبلوماسيين والحكام من أعمالهم بعد فترة يمضونها، ولم يقرَّ عاملاً على عمل يطول فقد غير تقريباً معظم الولاة في عصره، وكان يقول:”والله ما عزلتهم عن ريبة، ولكن أردت أن يعلم الناس أن الأمر لا يكون لمكان فلان أو فلان، ولكنه أمر الله يمضه بمن شاء من عباده”.[184]

وجوب التواصل مع الوطن وعدم جواز الانقطاع عنه لفترات تطول:

كتب ابن الوزير في كتابه السياسة:

وعليه إِحْسان مجاورة جِيرانه فِي الممالك التِي تلِي ممْلكته، فحاله معهم كحال الْواحِد من السوقة مع جِيرانه لما أسست عليْهِ الدنْيا من الْحاجة إِلى التعاضد، وأن يُبالغ فِي بر الواردين عليْهِ من رسلهم وأن يتصنع لهُم بتفخيم مجْلِسه وإِظْهار جماله وزينته ومظاهرة بره لهُم وتكرمته.

والله الله أن يُطِيل حبسهم عِنْده ففِي ذلِك من الْفساد ما يطول شرحه([185]).

وتعكس هذه الوثيقة المتقدمة من القرن الرابع الوعي الذي حققه فقهاء الدبلوماسية في الإسلام، فقد أشارت إلى وجوب تحسين السفارات وتجميلها لأنها صورة المجتمع، والسفارات لم تبن لاستجداء عطف الأمم، وإنما لنيل احترامها، والعالم قد يحسن إلى الفقير والضعيف، ولكنه لا يحترم إلا القوي القادر.

كما أكدت الرسالة على وجوب انتهاء المهمات الدبلوماسية في آجالها وعدم السماح بتطويل هذه المدد والتحذير من التهاون في استكمالها وإنجازها.

ومن جانب آخر فقد جرى العرف الدبلوماسي على أن السفير يجب أن لا يطول مكثه في البلد المبتعث إليه، واستقر العرف على وجوب استقراره في وطنه الأم عدة سنوات ومن ثم ابتعاثه لبلد آخر، وذلك حتى يدوم ولاؤه لوطنه، وحتى لا تنشأ له في البلاد التي يخدم فيها علاقة انتماء ومنة على حساب انتمائه لبلده ووطنه.

وفي هذا السياق ورد نهي عمر بن الخطاب عن خروج الناس للجهاد أكثر من أربعة أشهر، وألزمهم بالعودة إلى منازلهم ورعاية أسرهم خلال أربعة أشهر، وفي الوقت نفسه فإنه أراد أن لا يطول بهم العهد فتتصرم حبالهم مع دولتهم وقيادتهم.

الشفافية والمكاشفة مع مرجعيته الوطنية:

يتعين على الدولة أن تضع للمبتعثين الدبلوماسيين نظماً وقواعد لضبط الإثراء المشروع والإثراء غير المشروع، فكثير من كسب الدبلوماسيين هو حق للوطن وليس لشخص السفير، ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هدايا العمال غلول”([186])، وقد زاد رسول الله الأمر توضيحاً في خطابه لابن اللتبية الأذري لما استعمله رسول الله في أمر الأمة فعاد موقراً بالهدايا والأحمال، وقال هذا لكم وهذا أهدي إلي، فصعد رسول الله المنبر وقال: “ما بال العامل نَبعثه فيأتي، فيقول: “هذا لك وهذا أهدي إلي”، فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رُغاء، أو بقرة لها خُوار، أو شاة تَيْعَر”([187]).

ولا شك أن اللوائح الداخلية لوزارات الخارجية تنظم هذا اللون من الكسب، وتحدد ما هو حق للسفير وللبعثة الدبلوماسية من الأوسمة والهدايا، وما هو حق للسفارة، وما هو حق للدولة، وليس للفقه الإسلامي تفصيل في هذه المسائل خلال النصوص العامة، ومدار الحكم في هذه الأشياء على القاعدة العامة: المسلمون عند شروطهم، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وقوله: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾، وعليه فيكون كل تفصيل في هذه المسائل مما أقره ولي الأمر من المعروف الذي تجب الطاعة فيه ويحرم عصيانه.

ثقافة الخدمة:

إن السفارة منصب يسعى إليه المرء لخدمة الوطن وخدمة الناس، فلا ينبغي أن ينصب بينه وبين الناس حواجز تحول دون اتصالهم به وتواصلهم معه، ولاسيما أبناء الوطن في الغربة الذين تكثر حوائجهم إلى البلد، ومطالبهم تتكرر كل يوم، وحاجتهم عند السفير، وأعضاء البعثة فلا يجوز أن يكون منهم التأفف والضجر، والتفريط بحوائج الناس، فإن صاحب الحاجة أرعن، وقد لا يقدر المسائل قدرها، ولكن الدبلوماسي يجب أن يكون رحب الصدر واسع الأفق، يحسن المعاذير لذوي الحوائج، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها فإنه من أبلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام”([188]).

وفد دعبل الخزاعي على غسان بن عباد فاحتجب عنه فهجاه في قصيدة طويلة:

إذا ما أتيناه في حاجة    رفعنا الرقاع له بالقصب

له حاجب دونه حاجب    وحاجب حاجبه محتجب

فلا يعرف الناس اليوم من هو غسان بن عباد إلا هذا الهجاء.

وكان من أدب السلف أن يقوم المسؤول بخدمة الناس ولا يضجر ولا يتبرم، وكان زين العابدين إذا دفع صدقته إلى سائل يقبل يده ويقول: “أهلاً بمن يحمل زادي إلى الآخرة”، وكان يقول: “من أمكنني ان أجعل معروفي عنده كانت يده علي أمن من يدي عليه”.

ومن روائع الأدب الدبلوماسي ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لواليه على مكة قثم بن العباس: “ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك، ولا حاجب إلا وجهك، ولا تحجبن ذا حاجة عن لقائك بها”.

وكان علي بن أبي طالب يقول: “إذا سألتمونا حوائجكم فاكتبوها لنا في الرقاع فإننا نريد أن نصون وجوهكم عن المسألة”.

وهذه ليست محض مواعظ دينية، إنها اليوم جزء من أدب العمل في المجتمعات المتقدمة، وعلى سبيل المثال لا زالتمن التقاليد اليابانية إلى اليوم، أن كبار الموظفين يقومون في مواسم معينة بغسل أرجل الموظفين الجدد احتفاء بهم وتشجيعاً لهم على الخدمة بإخلاص وتفاني.

وبالجملة فعلى الدبلوماسي أن يوائم بين مكانته الاجتماعية والسياسية المطلوبة، من الهيبة والوقار، وبين خدمة شعبه وذوي الحاجات منهم بالتواضع والمسؤولية والحس الوطني، وما ذلك بعزيز، وإنه ليسير على من يسره الله عليه.

ترقية أحوال الجالية والاعتناء بها:

ومن المهام الرئيسية للمبتعثين أن يتواصلوا مع الجالية في بلد الاغتراب، وأن يدنوا أهل النجاح والتوفيق والكفاءة منهم، ويشدوا رباطهم بأوطانهم ويبعثوا في نفوسهم محبة ترابهم والوفاء له وصلة الرحم التي أمر الله أن توصل.

وعليه أن يتفقد كافة المواطنين في مناسبات معينة، وأن يهتم بأدناهم وأقصاهم، وأن يدني البارزين والناجحين والوجهاء منهم، وأن يوفر لهم رباطهم ووصالهم ببلدهم الأم، وان لا تعدو عيناه عنهم في عناية ورعاية ومحبة ووداد، فلا يند عن رعايته وعنايته قاصد ولا يبتغي عن أربه ووصاله راغب.

وفي هذا السبيل أوصى علي كرم الله وجهه واليه على مصر فقال: “ألصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف، ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمَّن بلاء أمرئ إلى غيره، ولا تقصرن به دون غاية بلائه، ولا يدعونك شرف امرء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة أمرء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً”.

تمثيل الدولة وليس تمثيل الأحزاب:

إن السفير يمثل الدولة التي أوفدته، والدولة في التعريف الحقوقي هي حصيلة ثلاثة أشياء: الشعب والأرض والحكومة، وبهذا المعنى فإن واجبه الدستوري يقتضي أن يتم التعامل مع سائر القضايا من زاوية وطنية شاملة وليس من رؤية السلك الحكومي وحده.

وقد دأبت الأحزاب السياسية على فرض محاصصات سياسية في السلك الدبلوماسي، ولا زال الولاء للحزب الذي أنجز هذه المحاصصة يتغلب على الولاء للمهمة الوطنية التي أرسل إليها السفير، مما يعود بأثر سيء على مهمة الابتعاث وغاياته.

إن ثقافة المؤسسات لا زالت تحتاج في الوعي العربي إلى تفصيل دقيق، ولا زال الموظف العربي يفتقر إلى ثقافة العمل للمؤسسة واحترام قوانينها، ولا زالت هناك حاجة لتجريد العمل العام من الشخصانية والقبلية والعائلية، باتجاه العمل الوطني، واحترام القوانين، وبناء المؤسسات.

ومع كثرة ما كتب في إحياء ثقافة المؤسسات والعمل في إطارها بعيداً عن الشخصانية والفردية فإن أروع ما كتب في هذا السبيل هو ما قاله الخليفة الراشدي أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم رحيل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

“أيها الناس … من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.

لقد كان وعياً كبيراً بثقافة المؤسسات ودوامها، وعدم ارتهانها لأشخاص على الرغم من أهميتهم وقدراتهم ودورهم القيادي التاريخي، وبذلك فقد قرر أبو بكر أن استمرار رسالة الإسلام إنما هو استمرار المؤسسات العظيمة التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها دولة الخلافة.

مبدأ المعاملة بالمثل:

استقر مبدأ المعاملة بالمثل في الحياة السياسية عامة والأدب الدبلوماسي بوجه خاص، وذلك انطلاقاً من طبيعة العلاقات الدولية.

والإسلام رسالة واقعية فهو لم ينظر إلى العالم على أنه جمعية خيرية، ولا على أنه غاب ذئاب، إنه العالم بكل ما فيه من خير وشر وجمال وقبح، وقد رفض منطق التسامح الساذج الذي تضيع فيه الحقوق، ويمنح فيه الغفران ممن لا يملك لمن لا يستحق، بل إنه عالج العلاقات الدولية في إطار متوازن من المعاملة بالمثل.

ووفق هذه المقاصد جاءت نصوص كثيرة في الشريعة تعزز هذه الحقائق، فقال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، وفي آية أخرى قال عز وجل: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾.

والمعاملة بالمثل هي جوهر الجهاد نفسه، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾([189]).

وفي الحقل الدبلوماسي فإننا نلاحظ مبدأ المعاملة بالمثل في سائر أيامه الكريمة صلى الله عليه وسلم في التفاوض الدبلوماسي وتبادل الوفود والمندوبين، وهو ما تقره اليوم الدبلوماسية الدولية في مبدأ المعاملة بالمثل.

على أن ما يجب أن نشير إليه أن مبدأ المعاملة بالمثل ليس ناتج جمع رياضي أصم بقدر ما هو حصيلة معطيات متقابلة يتأسس عليها موقف المماثلة على أساس العدل وليس بالضرورة على أساس المساواة.

ومن الصور الواضحة في العلاقات الدبلوماسية ما شرحته الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ، فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾([190]).

فقد كان من شأن العرب أن تسبغ صفة القداسة والاحترام على الأشهر الحرم، فلا يحل فيها قتال ولا جهاد، ولكن هذه الحرمة إنما تكون حين يحفظها الفريقان، ولا معنى لها حين تبقى حرمة من جانب واحد، فقد عمد المشركون إلى الاستخفاف بحرمة الأشهر الحرم، وقاموا بالاعتداء على الصحابة الآمنين فيها، وحين أرسل النبي الكريم رجاله للدفاع عن الصحابة أنكرت عليهم قريش قتالهم في الشهر الحرام، ولكن الآية الكريمة بينت أن المعاملة بالمثل مبدأ طافح بالعدالة، وحين يحترم المشركون حرمة الأشهر الحرم فإن المسلمين سيكونون أكثر حرمة لها، ولكن إذا هتك المشركون حرمة الشهر الحرام ومارسوا الاعتداء فيه على المسلمين فيجب أن لا ينتظروا من المسلمين أن يتوقفوا عند حرمة الشهر الحرام ويسكتوا عن حقوقهم المضاعة.

والآيات في هذا المعنى كثيرة: ﴿‎وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾، ﴿وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُم﴾،  ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْبِهِ﴾.

واستناداً إلى هذه القواعد الشرعية العامة والنصوص الظاهرة من الكتاب والسنة فإن من شأن الدولة أن تحتكم إلى مبدأ المعاملة بالمثل في الحقل الدبلوماسي، وأن تتعامل مع الدول الأخرى بهذا المنطق في التمثيل الدبلوماسي والتبادل التجاري والتأشيرات القنصلية والتبادل الثقافي.

وفي هذا الجانب لا يملك السلطان المسلم التنازل عن هذا المبدأ لأنه حق للأمة وهو عنها وكيل، ويجب أن ينهض بتحصيل حق الأمة والدفاع عن كرامتها أمام نظائرها من الأمم، إلا أن يكون له في ذلك تأويل ظاهر يعود بالفائدة والنفع على الأمة، ويقره أهل الحل والعقد من مجالس شورى الأمة.

ويستدل على ذلك بموقف النبي الكريم حين عفا عن المشركين يوم الفتح الأعظم، وقال للمشركين:”اذهبوا فأنتم الطلقاء”، خلافاً لقاعدة القصاص والمعاملة بالمثل في الحقوق.

ومع أن الصحابة رضوا من نبيهم ما اختار تسليماً وطاعة ومحبة، ولكن المتأمل في دقائق السيرة يدرك أن موقف النبي الكريم في التخلي عن مبدأ المعاملة بالمثل في هذه الحالة كان يتضمن جوانب ثلاثة: جانب أخلاقي وجانب سياسي وجانب حقوقي، فهو في الجانب الأول أخلاق محمدية مطهرة زاكية، ولكنه في الجانب الآخر دهاء سياسي ضروري، فقد علم رسول الله أن إراقة دمائهم ستثير غضب كثير من رجالهم وتدخل مكة في موارد الثأر التي لا تنتهي، وهي من جانب آخر وعي حقوقي، فقد قاتل هؤلاء على أصنامهم وآلهتهم وكان كثير منهم يعتقد ما يصنع، وليس من العدالة أن تأخذهم بذنب لم يكونوا يقرون بجرمه حال ارتكابهم له، وشأن العقوبات أن لا يكون لها أثر رجعي، والاحتمال في القانون يفسر لمصلحة المتهم، وهي قواعد حقوقية ضرورية يتفق عليها العقلاء، وبموقفه العظيم صلى الله عليه وسلم دفع عن العرب فتنة كانت كافية أن تعيد الحرب جذعة مضمخة بالدماء.

ولا يخفى أن هذا المبدأ العادل في العلاقات الدولية لا ينطبق ضرورة على العلاقات الإنسانية، وما يكون بين الدولة وأعدائها لا يقاس عليه ما يكون بين الدولة ورعاياها، وما يكون بين المؤمنين والكافرين لا ينطبق على ما يكون بين المؤمنين أنفسهم من الإخاء والمودة، وما ينبغي أن يحكم به القضاء ليس بالضرورة ما ينبغي أن يفتي به المرشد والواعظ، وفي هذا السياق يرد ما أمر به القرآن الكريم من العفووالغفران والتسامح،﴿وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾، وغير ذلك من الآيات الكثيرة.

وفي السياق الإنساني جاء رجل إلىالنبي صلى الله عليه وسيلم وقال: “يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني وأعطيهم ويحرمونني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، أفأكافئهم؟” فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:”فمه؟”(أي ما الفرق إذن بينك وبينهم)، ولكن أعط من حرمك وصل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك ولا يزال لك من الله عليهم ظهير”([191]).

مسؤولية السفير بين وطنه ودار إقامته:

ومن الجوانب البالغة الأهمية في الشأن الدبلوماسي أن يكون السفير على وعي برباط مواطنيه بالبلاد التي يقيمون فيها، فهناك كثير من أبناء الوطن يستقرون في بلدان أخرى وينالون جنسيتها، وهم مطالبون بالوفاء إلى تلك الأوطان مقيمين أو مواطنين، فلا ينبغي في الحديث عن أوطانهم أن يبخس شأن الأوطان التي يقيمون فيها، أو أن يقصروا في الوفاء للأرض التي احتضتنهم وآوتهم، وعليه أن يتحدث بوعي وبصيرة موازناً بين حقوق البلدين وواجباتهما تجاه كل منهما.

وتختصر هذه الحقيقة بعبارة: الوفاء لأرض الوطن والإخلاص لدار الإقامة.

وربما كان أوضح مثال لعلاقة المسلم ببلد إقامته ودار مهاجره ما رأيناه في سلوك الرعيل الأول من أصحاب النبي الكريم الذين هاجروا إلى الحبشة، فقد ظلوا أوفياء لأوطانهم ونبيهم ودينهم، ولكنهم أظهروا أيضاً حباً ووفاء كبيرين للأرض التي احتضنتهم ولا يعرف أنهم اتهموا بالإساءة إلى شيء في أرض الهجرة، وحين عرض للنجاشي بعض خصومه وحاولوا أن ينتزعوا منه ملكه فقد اصطف الصحابة إلى جوار النجاشي وقاتلوا معه، وكان الزبير بن العوام يسبح في الليل بالنيل حتى يبيت مع القوم ويدرك ما يبيتون ويعدو في الصباح بأخبارهم، وكان للصحابة أثر ظاهر في تأمين استقرار الحبشة بعد هذه الفتنة المريرة.

وقد اظهر هؤلاء المهاجرون في الحبشة فقهاً عميقاً بأصول التعامل الدبلوماسي حيث اختاروا ممثلهم جعفر بن أبي طالب فكان يفاوض باسمهم ويرفع مطالبهم، وقد حظي بمنزلة كبيرة لدى النجاشي فكان يشاوره في خاصة شأنه، كما أنه تمكن من عقد صلات بالغة القوة والموثوقية مع النبي الكريم وأهله، حتى إن النبي الكريم حين رغب بزواج رملة بنت أبي سفيان وهي إحدى المهاجرات في الحبشة خطبها من النجاشي الذي قام بدوره بإعداد زفافها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على مراكب الملوك في إشارة جداً واضحة لتوثق مستوى العلاقات بينهما إلى أعلى المنازل.

ولا أدل على ذلك من أن الصحابة الكرام استمروا في الوفاء لأرض هجرتهم والإحسان إليها، ومع أن دواعي الهجرة قد بدخول الرسول الكريم إلى المدينة ولكن عدداً من الصحابة وبأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم استمروا في الحبشة لرعاية هذا الجانب الكريم الذي أسسوا له من علاقات متوازنة مسؤولة.

الدبلوماسية واختلاف العقائد:

تقوم العلاقات الدبلوماسية بين الأمم لتحقيق مصالح هذه الشعوب والعمل على تطويرها وانطلاقها بما ينفع الأمة ويحقق الخير للجميع.

وقد مضى كثير من الكاتبين إلى الخلط بين مبادئ الدعوة إلى الله ومسائل الحكم والعلاقات الدولية، وكذلك إلى الخلط بين حساب الله وحساب الناس، وبذلك فقد حمل كثيراً من الشباب المتحمس على فتح منصات الحساب قبل يوم الحساب، وتفويض الناس بالحكم على الناس مع أن الله يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون.

وقد نشأت على هامش هذه الحقائق أحكام شرعية دونت في بعض كتب الفقه الإسلامي شديدة القسوة والوطأة، فاعتبر الجهاد واجباً لإدخال الناس في الدين الحق، وفق ظاهر الآية ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتّىَ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله﴾، ولم يؤذن بوقف الحرب إلا مع أهل الكتاب إذا دفعوا الجزية، ثم اختلف القول في شأن العربي من أهل الكتاب فنص كثير منهم أنه لا يحل له دفع الجزية ويخير بين الإسلام والسيف([192]).

ثم مضى هؤلاء إلى الحكم بوجوب قتال أهل الأديان الباطلة من بوذيين وهندوس وأرواحيين ووثنيين، وهؤلاء يبلغ عددهم اليوم ثلاثة مليارات وهم نصف أهل الأرض، ولا شك أن تطبيق هذه الفتاوى على واقع اليوم سيؤدي إلى كوارث مرعبة، وسيؤدي ذلك بشكل طبيعي إلى قتال البشرية كلها وهذا عكس مقاصد الإسلام العظيمة من نشر الحب والخير والرحمة.

والواقع الذي يدل له هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن الدبلوماسية الإسلامية تنشأ بين عقائد مختلفة، ولا يشترط التوافق بين الدولتين أو بين الحكومتين حتى تقوم علاقات صحيحة، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم علاقات مع عدد من الملوك وهم على أديانهم.

ومن أدق المواقف في هذا السبيل ما روي في شأن النجاشي، فقد كان الرجل على ملة النصارى، وكان له قساوسته وبطارقته ورهبانه وقداديسه وكهنته، ومع ذلك فقد عاش الصحابة في كنفه سنين طويلة، ولم يرد عنهم أنهم حقروا شيئاً مما كان يعبده أو تعرضوا لبطارقته أو رهبانه أو قساوسته.

بل إن القرآن الكريم جاء واضحاً جلياً في أمر الثناء على النجاشي وعلى أصحابه وفي القرآن الكريم:

﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾،
﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.[193]

والثناء على القساوسة والرهبان بتواضعهم وزهدهم جاء واضحاً في الآيات الكريمة، وهي صريحة بأنهم يستحقون الثناء وهم لا زالوا بطارقة ورهباناً وقساوسة.

وقد تعززت علاقة النبي بالنجاشي وأصحابه وحين جاؤوا إلى المدينة المنورة قام رسول الله يخدمهم بنفسه، فقالله أصحابه:”يا رسول الله نكفيك الخدمة”، قال:”كلا إنهم كانوا لأصحابي مكرمين”([194]).

وقد تكرر من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التكريم للنجاشي وهو على ملة قومه، وحين مات النجاشي قال رسول الله: “مات الليلة أخوكم أصحمة بن أبحر النجاشي قوموا بنا نصلي عليه”، فقال بعض الصحابة:”نصلي على علج من علوج الروم لم يسجد لله سجدة!؟” فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾[195].

وعندما عاد بعض الصحابة للاعتراض وقالوا: “يا رسول الله كيف نصلي عليه ولم يكن يصلي إلى قبلتنا؟ لقد كانت صلاته لبيت المقدس”، فأنزل الله قرآناً يتلى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾([196]).

وبالجملة فقد كان النبي الكريم يؤسس علاقاته الدبلوماسية مع الملوك وزعماء القبائل على أساس من المصلحة المتبادلة، وفائدة الأمتين ولم يكن يؤسس لهذه العلاقات على أساس الموقف الديني، بحيث يؤدي للمؤمنين ولا يؤدي للمشركين، ويفي بعهود المسلمين ولا يفي بعهود المشركين.

ومن الملاحظ إقراره صلى الله عليه وسلم للصفة التي منحتها الأمم والشعوب لقادتها ومخاطبتهم بها دون تحقير أو ازدراء، احتراماً لمكانة شعوبهم، فقد خاطب هرقل بقوله: “من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم”، وخاطب كسرى بقوله: “من محمد بن عبد الله إلى كسرى عظيم الفرس”، وإلى النجاشي بقوله: “من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة”، وإلى المقوقس بقوله: “من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط”.

وفي الأثر أن رجلاً من الوثنيين طلب من النبي الكريم صدقة فسأله أن يسلم فأبى، فلم يعطه شيئاً فأنزل الله تعالى: ﴿لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾[197].

وفي القرآن الكريم بيان واضح لطبيعة العلاقات بين الأمة الإسلامية وجيرانها من الأمم، دل عليه عموم النص القرآني: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[198].

وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[199].

وبناء عليه فلا شأن للفريق الدبلوماسي بعادات الأمم وأديانها وتقاليدها ولا ضير في اختلاف أديانهم وتقاليدهم عن قيم الإسلام، فالهدى هدى الله، قال عز وجل: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْت تكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾.[200]

بل إن المؤمن مأمور بأن يحترم عقائد الناس ولا يسيء إليها، لاسيما إذا ترتب على هذه الإساءة مضرة بمصالح الأمة، وفي هذا المعنى ورد قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[201].

ومن الوارد تماماً أن يقوم الفريق الدبلوماسي بالمطالبة بالمعاملة بالمثل فيما يتصل باحترام المقدس الديني، والرموز الدينية، وهذا مبدأ عام في العلاقات الدبلوماسية.

العلاقات الدبلوماسية مع الدول الإسلامية:

وأجد من الضروري هنا أن نشير في فصل خاص إلى العلاقات الدبلوماسية مع الدول الإسلامية وخصوصية هذه العلاقات والتجارب الدبلوماسية التي قامت بين هذه الدول، حيث يتعين على الدبلوماسي أن يدرك طبيعة الروابط الخاصة بين بلاده وبين البلدان الإسلامية من روابط تاريخية ودينية وسياسية.

ولا بد أن ندرك أن مبدأ تشكل العالم في كتل دولية وأحلاف إقليمية حقيقة تاريخية وواقعية وقد حكمت هذه التحالفات التاريخ الإنساني لقرون طويلة، وفي العصر الحديث قامت سلسلة من الأحلاف أهمها حلف الأطلسي وحلف وارسو، ومؤتمر عدم الانحياز، ومع أن حلف الأطلسي قام لمواجهة حلف وارسو، ولكنه لم يرحل عند رحيله، وحينما انهار حلف وارسو تساءلت الحكومات الغربية الكبرى: لماذا يجب أن يبقى حلف الأطلسي وقد انهار حلف وارسو، وكان الجواب ولماذا يجب أن ينهار؟وبالفعل فمع مرور أكثر من عشرين سنة على انهيار حلف وارسو فإن حلف الأطلسي لا زال يقوم بدور رئيسي في السياسة الدولية ويحكم جزءاً غير قليل من مصائر العالم.

وكذلك فإن قمة عدم الانحياز استمرت على الرغم من انتهاء عصر القطبين المتنافسين، وقد أدركت دول عدم الانحياز حاجتها لهذا التعاون الدولي لمحاولة رسم سياسة مشتركة محددة في مواجهة الظروف العالمية الجديدة.

كما تقوم في العالم كتل الكومنولث والفرانكوفونية وآسيان وغيرها من الأحلاف الدولية التي تتناوب في خدمة شعوبها وحلفائها.

وقد أدرك المسلمون في العالم الحاجة إلى هذا اللون من التعاون منذ نادى الكواكبي والأفغاني بالجامعة الإسلامة وعاصمتها أم القرى، وتأكدت هذه الحاجة بعد انهيار الخلافة ودخول عصر الدولة الحديثة.

ومع أن هذه الصيحات لم تستطع تأمين حلف إسلامي دولي حقيقي ولكنها نجحت في تأمين شكل واضح من التعاون بين الدول الإسلامية وقد بدأ ذلك على يد الملك عبد العزيز حين أطلق مؤتمر العالم الإسلامي في مكة المكرمة، عام 1926 وتولى الملك عبد العزيز نفسه رئاسة المنظمة، ثم تعاقب عليها زعماء العالم الإسلامي.[202]

وفي عام 1969 وعقب حريق الأقصى تنادى زعماء العالم الإسلامي إلى اجتماع قمة في المغرب – الرباط، انبثقت عنه منظمة المؤتمر الإسلامي، التي تحولت فيما بعد إلى منظمة التعاون الإسلامي والتي أصبحت تضم اليوم 57 دولة إسلامية بصفة عضو كامل وخمس دول تضم جاليات إسلامية كبيرة بصفة دولة مراقب ومن أهم هذه الدول روسيا وتايلاند كما رفض طلب الهند والفلبين في الانضمامللمنظمة بصفة عضو كامل.

إن منظمة التعاون الإسلامي تعتبر الغطاء الدبلوماسي الأهم للدول الإسلامية، ومع مرور نحو 45 عاماً على تأسيسها فهي تعكس حاجة حقيقية لهذا اللون من التعاون والتواصل بين أبناءالأمة الإسلامية.

لقد قامت بعض الدول العربية والإسلامية ذات التوجه القومي والعلماني بالتململ من قيام هذه المنظمة ورأى هؤلاء أن تكريس التحالف السياسي على أساس ديني ليس واقعياً، وأن الاتجاه العام في الدبلوماسية الدولية هو فصل الدين عن السياسة.

ولكن الواقع أثبت خلاف ذلك، وخلال هذه الفترة ثبت أن الرابط الديني قادر على أن يقدم شكلاً أقوى للعلاقات بين الدول، وأن يحقق مصالح عملية متينة للدول المتعاونة على أساس ديني.

وعلى كل حال فليس من شأن هذه الدراسة مناقشة المنطلقات النظرية لعلاقات الدين والسياسة، ولكننا معنيون بالتأكيد على أن الفريق الدبلوماسي في الدول الإسلامية يجب أن تكون لديه القدرة على التعاون بشكل أكبر في العلاقات البينية، وبالتالي فإن قضايا مشتركة كثيرة تصدر عنها مواقف متشابهة بشكل طبيعي وذلك انعكاساً لما تشعر به شعوب هذه البلدان من الحقائق المشتركة تاريخياً وواقعياً.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني ووجوب التعاون في نصرة الشعب الفلسطيني والشعب السوري، والمصلحة المشتركة التي يمكن أن يحققها هذا التعاون.

وترتب هذه الحقائق على الدبلوماسيين مسؤولية خاصة، فهناك أنواع كثيرة من العلاقات الدبلوماسية تحتاج لمهارات خاصة في التعامل معها، وتقتضي الانتباه في العلاقات الدبلوماسية المختلفة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الكتلة الإسلامية وإن كانت الثانية عددياً من حيث الترتيب فإنها أكبر كتلة دولية فاعلة في الهيئة العامة للأمم المتحدة، ومع أن دول عدم الانحياز تشكل كتلة أكبر ولكنها غير متحدة في القضايا السياسية إلا على مسألة رفض الهيمنة، ومن الصعب أن يتوحد أعضاء هذه الكتلة على خيار سياسي، في حين أن الكتلة الإسلامية متوحدة عادة في القضايا السياسية الكبرى، وهي تحتاج لبعض التنسيق لتظهر متحدة في المحفل الدولي.

وقد تطور الأداء الدبلوماسي بين الدول الأعضاء وقامت اتحادات وهيئات دولية إسلامية انبثقت عن جسم المنظمة وحققت أشكالاً طيبة من التعاون والتكامل، نعد منها([203]):

لجان دائمة

  • لجنة القدس، ويرأسها ملك المملكة المغربية. مقرها الرباط، المملكة المغربية.
  • اللجنة الدائمة للإعلام والشؤون الثقافية (كومياك)، ويرأسها رئيس جمهورية السنغال، ومقرها في داكار، السنغال.
  • اللجنة الدائمة للتعاون الاقتصادي والتجاري (كومسيك)، ويرأسها رئيس الجمهورية التركية، ومقرها أنقرة، تركيا.
  • اللجنة الدائمة للتعاون العلمي والتقني (كومستيك)، ويرأسها رئيس جمهورية باكستان الإسلامية، ومقرها إسلام أباد.

كما أن هناك عدداً من الأجهزة المتفرعة عن المنظمة، منها:

  • مركز البحوث الإحصائية والاقتصاديـة والاجتماعية والتدريب للدول الإسلامية، أنقرة، تركيا.
  • مركز البحوث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية، إسطنبول، تركيا.
  • الجامعة الإسلامية للتقنية، دكا، بنغلاديش.
  • المركز الإسلامي لتنمية التجارة، الدار البيضاء، المملكة المغربية.
  • مجمع الفقه الإسلامي الدولي، جدة، المملكة العربية السعودية.
  • صندوق التضامن الإسلامي ووقفه، جدة، المملكة العربية السعودية.
  • الجامعة الإسلامية في النيجر، ساي، النيجر.
  • الجامعة الإسلامية في أوغندا، مبالي، أوغندا.

مؤسسات وأجهزة متخصصة

هي المؤسسات والأجهزة المنشأة في إطار منظمة التعاون الإسلامي بموجب قرار من مؤتمر القمة أو التعاون الإسلامي لوزراء الخارجية، وتكون عضويتها مفتوحة بصورة اختيارية أمام الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وتتميز بأن ميزانياتها مستقلة عن ميزانية الأمانة العامة أو ميزانيات الأجهزة الفرعيـة، وتعتمد ميزانيات هذه الأجهزة النصوص والتشريعات في أنظمتها الأساسية.

  • البنك الإسلامي للتنمية، جدة، المملكة العربية السعودية.
  • المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، المملكة المغربية.
  • وكالة الأنباء الإسلامية الدولية (إينا)، جدة، المملكة العربية السعودية.
  • منظمة إذاعات الدول الإسلامية (إسبو)، جدة، المملكة العربية السعودية.

مؤسسات المنظمة

يحق للمؤسسات والأجهزة التابعة للدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي أن تنضم بصفة اختيارية إلى عضويتة هذه المؤسسات. وميزانياتها مستقلة عن ميزانيات الأمانة العامة والأجهزة المتفرعة والمتخصصة. ولقد أنشئت برعاية مؤتمرات القمة الإسلامية والمؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية. ويجوز منح المؤسسات المنتمية صفة مراقب بموجب قرار يصدره المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية، كما يجوز لها تلقي مساعدات طوعية من الأجهزة المتفرعة والمتخصصة وكذلك من الدول الأعضاء.

  • الغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة، كراتشي، باكستان.
  • منظمة العواصم والمدن الإسلامية، مكة المكرمة، السعودية.
  • الاتحاد الرياضي لألعاب التضامن الإسلامي، الرياض، المملكة العربية السعودية.
  • اللجنة الإسلامية للهلال الدولي، بنغازي، ليبيا.
  • الاتحاد الإسلامي لمالكي البواخر، جدة، المملكة العربية السعودية.
  • الاتحاد العالمى للمدارس العربية الإسلامية الدولية، القاهرة، مصر.
  • منتدى شباب التعاون الإسلامي للحوار والتعاون، إسطنبول، تركيا.
  • الاتحاد الدولي للكشاف المسلم.
  • الأكاديمية الإسلامية العالمية للعلوم.
  • اتحاد المستشارين في البلدان الإسلامية.
  • المجلس العام للمصارف الإسلامية والمؤسسات المالية.
  • اتحاد المقاولين في البلدان الإسلامية.

ولا شك أن هذا المستوى من التعاون بين البلدان الإسلامية وإن كان كبيراً في الطموح ولكنه لا زال متواضعاً في الواقع، ولكن من المؤكد أن تعزيز هذا اللون من العلاقات يعود بالفائدة على الشعوب الإسلامية، وهو التطور الطبيعي لحركة التاريخ.

ويجب القول إن العلاقات في إطار منظمة التعاون الإسلامي ليس الإطار الوحيد للعلاقات الدبلوماسية، ولكنه أحد أبرز مظاهرها، وعلى الدبلوماسية الوطنية الانتباه لكافة عوامل التقارب والتواصل مع البلدان الإسلامية وكذلك مع الجاليات الإسلامية في بلدان العالم التي تشكل بشكل أو بآخر رصيداً إيجابياً للعلاقات الدولية بين الدولةالإسلامية وبلدان العالم.

ومن الجوانب التي تختص بها الدبلوماسية في الدول الإسلامية، ويتعين على الفريق الدبلوماسي إظهار قدر أكبر من التفاعل معها:

  • سفارات الحج والتزاماته.
  • ثقافة رمضان وتقاليده.
  • ارتباط نسك الصلاة بكثير من النشاطات الدبلوماسية.
  • تقديم اهتمام أكبر بالوفود الدينية من علماء وفقهاء ومفتين.
  • تنظيم زيارات للمرجعيات الدينية في البلد التي يبتعث إليها.
  • تنظيم زيارات للمؤسسات الإسلامية العاملة في بلد الإيفاد.
  • الاهتمام بالقيم الإسلامية في المظهر والعادات واستقبال الضيوف.
  • فهم طبيعة العلاقات الإسلامية التاريخية بين البلدين وإحياء تراث هذه العلاقات ورموزها.
  • دراسة المذاهب الإسلامية السائدة في هذا البلد، والتركيز على المسائل المتباينة وفهم أسباب ذلك.

وهذه الاهتمامات محض أمثلة، ويمكن إضافة جوانب أخرى كثيرة، وخلاصة الأمر أن تطوير العلاقات الدبلوماسية والشعبية بين الدول الإسلامية أمر حيوي، ويحقق مصالح الوطن، وبشكل خاص القضية الفلسطينية التي تتبنى فيها الدول الإسلامية مواقف متقاربة، ترفض الاحتلال الإسرائيلي وتطالب بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وحماية الأقصى الشريف، بل إن حماية الأقصى كانت هي السبب المباشر في قيام هذه المنظمة الدولية الكبرى كما أسلفنا.

إن إيلاء اهتمام أكبر للعلاقات الإسلامية هو في الواقع وعي دبلوماسي صحيح، وإدراك لحقائق التاريخ والجغرافيا التي طبعت سلوك هذه الشعوب وحاجاتها خلال التاريخ.

الفصل الثالث:

الدبلوماسية في الكتاب والسنة:

وفي إضافة أدبية لما قررناه في هذه الدراسة من دور الدبلوماسية الناجحة في خدمة الوطن والمواطن، وخدمة قضايا الأمة فإننا نطوف في هذا الفصل رحاب القرآن الكريم والسنة المشرفة، رجاء التماس ما تحمله النصوص الكريمة من هدى ونور تغني القيم الدبلوماسية وتعزز رسالتها الإيجابية ودورها البناء.

ويلزم أن نشير في صدر هذا الفصل أن ما نلتمسه هنا ليس بالضرورة حكماً فقهياً مؤصلاً ومدللاً بالأدلة، ولا هو موقف قطعي الدلالة في التفسير، وإنما هو إشارات وبشارات، ولطائف وتنبيهات، وهي حقائق نستأنس بها ولا نحتكم إليها، وهي تحمل دلالات عميقة، وتضيء للدبلوماسي دربه ومعرفته من خلال حقائق القرآن الحكيم والسنة الكريمة.

السفارات في القرآن الكريم:

يذكر القرآن الكريم أنبياء الله على أنهم سفراء بين العباد وبين الله، وسفارتهم هذه هي التي كانت تشكل الجانب الأعظم من رسالتهم ومواقفهم الكبيرة البناءة.

وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم نفسه رسولاً بين العباد وبين الله تعالى، ونص القرآن على سفارته تلك في مواطن كثيرة:

  • ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾([204]).
  • ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾([205]).
  • ﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي،إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ([206]).

ومنذ بداية الرسالة أعلن نفسه سفيراً بين الله وبين الناس فقال: “إن الرائد لا يكذب أهله….”.

وقال ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل: “عرفوه بوحدانيته وأقروا له بمعرفة ربوبيته وإنما جحدوا معرفة التوحيد الذي تعبدهم به على ألسنة السفراء وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾)[207]).

وهكذا فقد اشتهر لدى السلف وصف الأنبياء بأنهم السفراء بين الله وعباده.

ومع أن المقاربة بعيدة بين سفارة الأنبياء بين الله وعباده وسفارة الإنسان للإنسان، ولكن يمكن القول بأن إشارات في غاية الأهمية وردت في آداب هذه السفارات، ونشير هنا إلى طائفة من هذه الإشارات الحكيمة.

ولا بد من التذكير أن ما نورده هنا إنما هو محض استئناس، وهو ليس على وفق قواعد الاستدلال والاستنباط في الشريعة، وإنما نتخذه إرشاداً واهتداء بما أودع الله في كتابه العزيز من عجائب المعارف.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾[208]:

ففي هذه الآية إشارة أن يكون السفير مطلعا على لغة القوم الذين أرسل إليهم، ويعزز هذا التوجيه ضرورة وجود دورات تأهيل خاصة للسفراء وأعضاء السلك الدبوماسي في لغة البلد التي يكلفون فيها بالسفارة، ويفرض ذلك على جهاز الاختيار في المؤسسة الدبلوماسية أن يكون واعيا لهذا الجانب، وأن يقوم بإعداد المبتعثين ثقافياً ولغوياً بما يضمن منهم أحسن الأداء.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[209]:

وفي الآية تنبيه أن السفير لن يستطيع أن يبلغ رسالته إلا إذا حظي بمصداقية وقبول توفر له طاعة الناس واحترام ما يؤديه فيهم من سفارة، فقد أيد الله أنبيائه بالمعجزات، التي تضمن احترام الناس لرسالاتهم، والأمر نفسه يتعين فيمن يوفد بسفارة الأمة في الناس فلا يصح أن يتوجه بدون وثائق مصدقة، وأوراق اعتماد صحيحة حتى يتحقق تأثيره في الناس، ويتمكن من أداء رسالته.

﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[210]:

وفي الآية بيان أن السفارات يجب أن تبلغ الأمم جميعاً، وأن لا تقتصر على البلدان ذات المصلحة القريبة والمتعجلة، فالسفارة تأسيس لعلاقات دولية دائمة، والعالم ماض إلى مزيد من التواصل والتكامل، والدولة الناجحة تصل بثقافتها ورسالتها إلى أطراف الأرض.

وليس المطلوب بالطبع بناء سفارات في كل بلد فهذا مما لا تدعو الحاجة إليه وقد يقوم السفير الواحد بحاجات بلدان متعددة متجاورة وهو معروف في العرف الدبلوماسي، ولكن المطلوب أن ترسم سياسة استيعابية مناسبة بحيث تتوفر مصالح البلاد في كل صقع في العالم.

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾[211]:

وفي الآية إشارة دقيقة لوجوب أن يكون الرسول قريباً من الناس، يلتزم عاداتهم وأعرافهم وطبائعهم، ولا ينفرد في طبعه أو يعتزل في خصائصه.

فالسفير ينبغي أن يكون قريباً من القلوب، ومن شرطه أن يكون ناجحاً في بناء أسرة صحيحة، وأن يسعى ليكون له زوجة وذرية، فإن الغربة مظنة افتتان، وغياب الأسرة لا بد أن ينعكس ضعفاً في أداء السفير، والخلاصة المطلوب من السفير أن يكون طبيعياً في علاقاته وحياته الاجتماعية.

ولتعزيز هذا المعنى جاءت الآية في سورة الأنبياء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾([212])

﴿قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا﴾[213]:

وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تؤكد على بشرية الرسول، قل إنما أنا بشر مثلكم، وتولى القرآن غير مرة بيان الجانب البشري في حياة الرسول الكريم، ودعا بوضوح إلى عدم الغلو في وصفه ومدحه، وأكد كذلك على أنه محل قدوة وأنه بشر كالبشر، ولو كان ملكاً لكان تكليف الناس باتباعه أمراً في غاية البعد.

وفي الآية تأكيد على المعنى السابق وهو أن يكون السفير قريباً من الناس، وأن تتعزز صلاته بسائر الأطراف المعنية برسالته، في إطار الحكومتين المرسلة والمستقبلة، وفي إطار الشعبين، وأن لا يتصنع ما يميزه من الناس، فإنه إن ابتعد عنهم سيفقد تأثيره فيهم، وربما يسيء إلى سفارته.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾[214]:

أكدت هذه الآية ونظيراتها وهي كثيرة في القرآن الكريم على أن سلطة الرسول لا تتعدى البلاغ، وأن الحساب على الله تعالى، وأن من شرط السفارة الناجحة أن تنصرف إلى ما عقدت لأجله، وهو البلاغ المبين.

ومثل هذه الآية العظيمة قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾[215].

ويستأنس من ذلك للاستدلال بأن السفارة الصحيحة لا تحتاج لسلطان من السلاح والجند والحرس، وإنما هي مهمة بلاغ، وآلتها البرهان والبيان، وليس السفير وكيلاً على الناس بمعنى السلطة التنفيذية أو القضائية، بل إن سلطته لا تتعدى إبلاغ الرسالة التي أوفد فيها، وقد تعززت هذه الحقيقة في آيات كثيرة منها:﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا،إِنْعَلَيْكَإِلَّاالْبَلَاغُ﴾[216].

﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾:

وتؤكد هذه الآية ما سبق بيانه، وهو أن مهمة المرسلين هي البلاغ، وهذا البلاغ شرطه أن يكون مبيناً، فلا معنى للبلاغ بدون بيان، والبلاغ المبين هو البلاغ المؤيد بالحجة والبرهان.

والآية تلهم القيادات السياسية والاجتماعية أن ينهضوا بإعداد سفراء الأمة بحيث يكون بلاغهم مبيناً، وهذا يتطلب شروطاً خاصة في السلك الدبلوماسي من المهارة الخطابية والمعرفة البرهانية والحجج المنطقية والثقافة الواسعة.

وتجدر الإشارة في هذه الملاحظة وسابقتها أنها كانت وصايا قرآنية للرسول بوصفه مبلغاً عن الله عز وجل، ولكن بعد أن قامت الدولة وأصبح له فيها سلطان وأمر الناس بالاحتكام إليه فقد أصبحت هذه الآيات العظيمة من باب تقييد المطلق وتخصيص العام، وصار من مسؤوليته صلى الله عليه وسلم الحكم والقضاء والفصل بين الناس، وهو أمر يختص بالحاكم ولا يختص بالسفير.

﴿أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ﴾[217]:

وفي الآية بيان أن الجهة التي توفد السفراء مكلفة بتقدير حاجات الدول والمجتمعات التي يرسل إليها المرسلون وأن تتصف بالمرونة والواقعية في تأمين الوفادات المناسبة وفي الأوقات المناسبة فلا ينفع التأخير كما أنه لا يفيد التبكير، بل يتعين أن يؤتى الشيء  في وقته وزمنه.

﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[218]:

وفي الآية بيان واضح أن السفير مكلف بالعمل على وفق نظام من البينات والأصول، وأنهينبغي أن يزود بالبينات والكتاب والميزان، وهذا توجيه لمن يلي أمر سفارة المسلمين أن يزود باللوائح والوثائق والإمكانيات التي توجهه لما يلزم اتباعه في كل شأن، وأن تقدم له خبرات السابقين بحيث يفيد منها ويلتزم سبيلها.

ومع الفراق في التمثيل والتشبيه ولكن التأكيد في القرآن الكريم على البينات يرسم معلماً هادياً لوجوب تدوين هذه الأصول والبينات والتزامها بدقة لأن الدبلوماسي مؤتمن والمرء يغتفر له في وطنه ما لا يغتفر له في سفارته.

﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾:

إن سفارة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت مصدقة لما بين يديه من التوراة والإنجيل وهي الكتب التي كانت متبوعة قبل المبعث.

لقد تكرر هذا النص القرآني الكريم أربع عشرة مرة، وهو يحمل دلالة بالغة الأهمية أن الرسل كلهم يأتون من مرسل واحد، وأن المطلوب هو استمرار ما أنجزه السابقون والبناء عليه وليس هدمه ونقضه، فلم يقل هادماً لما بين يديه أو مبطلاً لما بين يديه أو ملغياً لما بين يديه، وإنما قال مصدقاً لما بين يديه، وفي تعبير آخر شرح النبي صلى الله عليم وسلم رسالته لقوله: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.

وهذه الإشارة ملهمة وهادية بأن السفير ينبغي أن يكون محيطاً بما توافق عليه أسلافه من الأعراف والتقاليد الإيجابية، وأن المستقر في العرف الدبلوماسي هو حصيلة تجارب كثيرة يتعين احترامها، وأن ما استقر من الأعراف له قوة القانون ما لم ينص القانون على خلافه، وأن شأن السفارة الناجحة أن تحترم تجارب الأولين وتثريها وتغنيها وتفيد منها.

لقد أوردت هذه الأمثلة لمحض الاستئناس والاسترشاد، وليس للفصل في مقاطع الأحكام، وهناك أمثلة كثيرة أخرى، ويجب التأكيد مرة أخرى أن القياس هنا غير مطلوب لأنه قياس مع الفارق، ولله المثل الأعلى، وإن في ذلك لآيات لأولي الألباب.

سفارة موسى لدى فرعون:

وبعيدا عن سفارات الأنبياء فيما بين العباد وبين الله، ودلالتها الرمزية ولله المثل الأعلى، فقد ذكر القرآن الكريم عدداً من السفارات البشرية الناجحة التي لا بد من الإشارة إليها، ولعل أبرزها سفارة موسى لقومه لدى فرعون.

وقد أورد القرآن الكريم ذكر اسم موسى وسفارته لبني إسرائيل في مواجهة فرعون في أكثر من 129 موضعاً، وقد وردت في الآيات الكريمة إشارات بالغة الأهمية لأدب السفراء، ووصايا نحسبها ضرورية جداً للعاملين في السلك الدبلوماسي، نختار منها:

﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾[219]:

فقد حمل هذا النص الكريم إشارة هامة لوجوب اعتماد اللباقة الدبلوماسية في الخطاب، ومع أن فرعون كان يعكس غاية الاستكبار والاستعلاء والاستبداد التاريخي ولكن موسى كسفير لبني إسرائيل أمر بأن يخاطبه الخطاب اللين الحكيم.

ويعتبر أدب الخطاب أهم خصائص السفير الناجح، ويعتبر تخير الألفاظ والعبارات من مقومات السفارة الناجحة، وفي الخبر أن رجلاً دخل على المأمون فوعظه وقسا عليه، فقال له المأمون:”هون عليك يا هذا، فإن الله قد أرسل من هو خير منك إلى من هو شر مني فقال له: فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى”.

أبني إن البر شيء هين               وجه طليق ولسان لين

﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي﴾[220]:

وفي الآية بيان أن الحوار والتفاوض الدبلوماسي عمل جماعي، يجب أن يتمتع بروح الفريق، وحين يضرب القرآن الكريم هذه الحقيقة في شخص كليم الله موسى بن عمران فهو يعطي أوضح صورة لما ينبغي أن تكون عليه علاقات السفراء والمبعوثين من العمل الجماعي، فمع أن موسى نبي كريم من أولي العزم من الرسل ولكنه لم يشأ أن يقوم بالمهمة وحيداً وإنما أدرك أهمية العمل الجماعي بروح الفريق.

﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ﴾[221]:

وفي الآية بيان أن العمل الدبلوماسي التفاوضي يحتاج إلى مهارات خاصة، فمع أن موسى هو الرسول المكلف بالبلاغ وهو كليم الله وصاحب التوراة ولكن الآيات الكريمة جاءت واضحة في البحث عن الأكثر كفاءة في فصل الخطاب، وهذا يؤكد أن التأهيل المعرفي واللغوي والبلاغي ضروري للعاملين في السلك الدبلوماسي، وقد تدفع الأيام زعيماً ما للقيادة ولكنه يحتاج باستمرار إلى اختيار الكفاءات المناسبة في مواضعها، وأهم هذه الكفاءات الفريق الدبلوماسي المفاوض والمحاور الذي ينبغي أن يتحلى بالفصاحة وقوة البيان وحسن المظهر، وهو ما وجده موسى في شخص هارون عليهما السلام.

﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾[222]:

وفي الآية اعتذار موسى من الله تعالى عن السفارة لفرعون لسبب إجرائي واضح، وهو أن هناك أحكاماً قضائية صدرت بحق موسى من قبل في مملكة الفرعون، وهي الجهة المبتعث إليها، ومع أنه قضاء بغير حق، ولكنه سيحد من قدرته على التأثير في فرعون وقومه، وسيحول دون وصول رسالته إلى المقصودين بها.

وكان موسى قد تسبب عن غير قصد بقتل المصري الذي كان يستنصر به، وقد رفع يديه إلى الله تعالى مستغفراً وقال رب إني قتلت نفساً فاغفر لي فغفر له، ولكن السجل العدلي لموسى في دولة الفرعون كان مثار اتهام، وقد أصدر الفرعون قراره الاتهامي ضد موسى قبل ذلك بسنين بتهمة قتل المصري، ولأجل ذلك فقد لجأ موسى لمدين حيث عمل عشر سنوات أمينا لأعمال شعيب الرجل الصالح فيها، وكان يستعيذ بالله من فرعون وزبانيته، ولذلك لما أمره الله أن يكون سفيراً إلى فرعون قال بوضوح: ﴿رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾، ومقتضى ذلك أن هناك سجلاً جنائياً في القضاء المصري وهذا أمر لا يمكنه من السفارة الناجحة، وبالطبع نحن لا نناقش هنا عدالة القضاء المصري أيام فرعون، ولكننا نناقش ضرورة أن يكون السفير سليم السجل العدلي، ولاسيما في البلد التي يبتعث إليها.

﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾[223]:

حين لقي موسى فرعون قال له فرعون مستكبراً: ﴿قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ﴾، وقصد فرعون بذلك الإشارة إلى فضله عليه حيث كان التقطه من اليم واتخذته امرأة فرعون قرة عين لها وكان فرعون يطعمه ويرعاه عندما كان صغيراً وأنه نشأ في حجر فرعون، وكان يحاول أن يظهر فضله عليه، فاعترض موسى على ذلك وقال مستهجناً: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، مستنكراً منه موقفه في ذكر إطعامه لموسى وتناسيه إذلاله لبني إسرائيل وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، وغير ذلك من المظالم التي ذاقها بنو إسرائيل من فرعون.

وفي هذه الإشارة تمنحنا الآية فرصة التأمل في معنى العلاقة الندية بين الرسول والمرسل إليه، فمع أن موسى كان مجرد مواطن في مملكة فرعون، ولكن مهتمه الدبلوماسية وسفارته لصالح قومه ألزمته أن يخاطب فرعون بخطاب ندي، على مبدأ التعامل بالمثل، ولذلك فإنه لم يقبل من فرعون أن يمنَّ عليه بتربيته صغيرا وإطعامه وإرضاعه، إن مثل هذه المسائل قد تغتفر في العلاقات الشخصية والتجارية، ولكنها لا يمكن أن تغتفر في العلاقات الدبلوماسية، فقوة السفير من قوة من يمثله، والسفير يمثل الدولة التي أرسلته ولا يقبل منه خطاب استعطاف أو توسل أو تزلف، بل يجب أن يتحلى بالندية في الحوار والقوة في البرهان.

إنها بعض إشارات هادية وفي القرآن منها كثير، ولكننا أوردنا هنا ما يتسع له المقام، والمراد أن ندرك أي أثر حكيم كان لهذه التوجيهات التي خصت بها سفارة موسى لدى فرعون، وأن نقارن النتائج الإيجابية التي ظهرت في سياق توجيهات القرآن الكريم لمن أرسل في سفارة تتحقق فيها مصالح الأمة.

سفراء الرسول في حال السلم:

مع أن عصر النبوة كان فترة صراع وعناء، غلبت عليه طبيعة المواجهة مع الجاهلية، وفرضت على الجماعة المسلمة أكثر من 59 مواجهة مع فصائل الجاهلية، وقع في عدد منها اشتباك حربي، ولكن النبي الكريم استطاع أن يقدم تجربة فريدة في الشأن الدبلوماسي يمكن أن ندرك منها جوانب بالغة الأهمية.

ونشير ان سائر ما نقتبسه في هذا الفصل من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم فهو مقتبس من سيرة ابن هشام، وكذلك من ابن كثير في كتابه السيرة النبوية، ويمكن التماس تفاصيلها من موقع الحدث في السيرة الكريمة.

وبالطبع فإن متابعة حياة الرسول الكريم في الشأن الدبلوماسي والتأمل في طبيعة السفارات التي أوفدها الرسول الكريم، ستكشف عن أسرار النجاحات التي تحققت لهذه السفارات الفريدة.

إن مهمته في المقام الأول هي الرسالة والنبوة، وهي سفارة إلهية على الارض يقوم فيها الرسول الكريم بنقل رسائل السماء إلى الأرض، ويقدم عبر السنة النبوية الشريفة تفسيرات ضافية ووافية لهذا الخطاب الإلهي الكبير.

والسفارة الإلهية على الأرض كانت نبوة خاتمة، ومعنى ذلك أنها جاءت لتؤسس نهاية لعصر الخوارق وبداية لعصر السنن، ونهاية لعصر الغيب وبدءاً لعصر الشهود، ونهاية عصر المعجزات وبداية عصر الإنسان، وكانت مهمته في المقام الأول – وفق مالك بن نبي- الخروج بالإنسانية من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن.

وهذه قائمة بأهم السفراء في عهد النبوة:

م اسم الرسول الجهة التي أرسل إليها نتائج السفارة
1 شجاع بن وهب الأسدي شمر بن الحارث الغساني قام الحارث بقتل السفير
2 حاطب بن أبي بلتعة المقوقس ملك مصر نجحت السفارة وتم تبادل الهدايا والرسائل
3 عمرو بن العاص جيفر وعباد الأسديين في عمان نحجت السفارة وتم الحصول على وعد بالسماح للمؤمنين بالهجرة
4 دحية الكلبي هرقل ملك الروم نجحت السفارة وبلغت الرسالة ولكن هرقل تردد ثم اختلف مع فريقه الحاكم
5 عمرو بن أمية الضمري النجاشي ملك الحبشة نجحت السفارة نجاحاً باهراً، وأصبح النجاشي أكبر حليف للإسلام.
6 العلاء بن الحضرمي المنذر بن ساوى ملك البحرين نجحت السفارة وأسلم المنذر بن ساوى وأقره رسول الله على ملكه.
7 المهاجر بن أبي أمية المخزومي الحارث بن عبد كلال – اليمن تأخر المهاجر ووقعت فتنة الأسود العنسي، ودخلها بعد موت الأسود
8 عبد الله بن حذافة السهمي كسرى ملك الفرس رفض كسرى الرسالة وغضب وأرسل إلى عامله في اليمن باذان يأمره أن يعتقل النبي ويحضره إليه
9 أبو عبيدة بن الجراح نجران نجحت السفارة واستقرت نجران على أرضها وبلدها إلى آخر عهد عمر
10 أبو موسى الأشعري مأرب نجحت السفارة ودخل أهل مأرب في الإسلام
11 معاذ بن جبل اليمن قاضياً عاماً في اليمن
12 علي بن أبي طالب اليمن رسولاً عاماً في اليمن
13 عمرو بن حزم نجران خلف أبا عبيدة ونجحت سفارته، ويعتبر كتاب تكليفه من أهم وثائق البدلوماسية النبوية
14 خالد بن سعيد بن العاص زبيد باليمن كان سفيراً بصنعاء ومات رسول الله وهو فيها
15 عامر بن شهر الهمداني همدان باليمن كان سفيراً ناجحاً وبنى صداقات متينة مع النجاشي بالحبشة
16 شهر بن باذان صنعاء ابن باذان والي فارس على اليمن، قتله الأسود العنسي
17 الطاهر بن أبي هالة عك باليمن كان ربيب النبي من خديجة، عمل ضمن فريق خماسي لإدارة اليمن
18 يعلى بن أمية الجند باليمن اشتهر ببرامجه الزراعية في اليمن
19 عكاشة بن ثور السكاسك  باليمن اشتهر بجماله وحكمته
20 جرير بن عبد الله البجلي يهود اليمن كان أجمل العرب وقال عنه عمر: إنه يوسف هذه الأمة
21 سليط بن عمرو هوذة بن علي وثمامة بن أثال – نصارى اليمامة فشلت السفارة ورفض أهل اليمامة الرسول وحاربوا المسلمين

وسنقتصر في هذا الفصل على دراسة عدد من السفارات النبوية الحكيمة التي حققت نجاحاً ظاهراً في أداء رسالتها الدبلوماسية.

ويمكن تقسيم تجارب الدبلوماسية النبوية إلى نوعين: دبلوماسية السلم ودبلوماسية الحرب.

1) دبلوماسية السلم:

جعفر بن أبي طالب:

كان أول سفراء النبي الكريم، تخيره رئيسا لكوكبة المهاجرين الأولى التي توجهت إلى الحبشة، ويجب أن نلاحظ هنا أن اختيار جعفر كان إرادة حكيمة من النبي الكريم، وكان من هدف هذا الاختيار بناء أوثق صلة مع الملك العادل النجاشي الذي لا يظلم عنده أحد، وأنه أعلن وقوفه إلىجانبالمستضعفين ونادى بالمساواة والعدالة فيجب منطقياًأن يكون أقرب صديق للدولة الاسلامية الناشئة، حيث بنى الإسلام رسالته على الأخوة الإنسانية، والتعاون على البر والتقوى، واجتماع الشرفاء في الأرض على اختلاف أديانهم ومللهم وقومياتهم على نصرة المستضعفين وحماية المظلومين، وبناء العدالة في الأرض.

ونلاحظ أن جعفر بن أبي طالب لم يكن من الضعفاء في مكة، فأبوه أبو طالب وهو الحامي الرئيسي للنبوة، وكانت حمايته لابن أخيه محمد علنية وصريحة، وبالبداهة فهو على حماية ابنه أقدر منه على حماية ابن أخيه، لاسيما أن ابن أخيه كان صاحب الرسالة فيما كان ابنه جعفر أحد الأتباع، واعتقد أن هذا الاختيار كان حكيماً تماماً، وبذلك تحول المفاوض في الحبشة من مستضعف يتسول الرحمة إلى مفاوض دبلوماسي يلتمس التحالف والتناصر وبناء علاقات متكافئة بين الحبشة والدولة الإسلامية الناشئة.

بالتأكيد لو كان رئيس القوم من الموالي المعذبين على يد قريش لكان مستوى العلاقة يقتصر عند حدود العطف وتقديم الطعام والشراب للنازحين، وربما بعض المجاملات العابرة، ولكن دور جعفر الهاشمي القرشي المطلبي ابن شيخ قريش وزعيمها الروحي أبي طالب كان في بناء علاقة ندية قائمة على الثقة والاحترام والتأسيس على المشترك بين الديانتين السماويتين.

وعلى الرغم من وجود عثمان بن عفان صهر النبي الكريم وزوجته رقية بنت رسول الله بين المهاجرين ولكن الرسول اختار جعفراً ليتحدث باسم القوم، وذلك لما عرف عنه من فصاحة وحجة وبيان وهو ما لم يشتهر به عثمان رضي الله عنهما، إضافة إلى رغبة النبي الكريم في أن يرسم صورة الدولة الناشئة على أنها دولة مؤسسات وكفاءات وليست مجرد عائلة متمردة على تقاليد القبيلة.

وهناك في رأيي سبب آخر وهو دور أسماء بنت عميس زوجة جعفر بن أبي طالب فقد كانت هذه السيدة الحكيمة أكثر نساء قريش ذكاء وحضوراً ووعياً، ويكفي للإشارة إلى مكانتها ومنزلتها أنها عاشت في كنف جعفر وبعد موته خطبها أبوبكر وتزوجها، وبعد وفاتهخطبها علي بن طالب وتزوجها، ثم خطبها معاوية ولم تقبل به زوجاً، وكانت أمها هند بنت عوف تعرف في العرب بأنها أكرم الأمهات أصهاراً وأظآراً، فقد زوجت بناتها للرسول الكريم ولحمزة وجعفر والعباس والوليد بن المغيرة، فكانت أخت أسماء سلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب وأخواتها لأمها زينب بنت خزيمة زوجة للرسول الكريم، وبعد وفاتها تزوج رسول الله أختها لأمها ميمونة بنت الحارث، وكانت أختها أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب وأختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، وباختصار كانت أسماء مطلب الملوك، وكانت أخواتها أهم النساء في بلاط قريش، وكذلك في عصر الرسالة، وكانت تحمل كل صفات السيدة الأولى، واستطاعت ببراعة أن تبني شبكة علاقات نسائية داخل بلاط النجاشي، حتى إنها أرضعت عبد الله بن النجاشي، وأسهمت في بناء ثقة متينة بين الدولة الإسلامية الناشئة وبين النجاشي.

ولا يحتاج القارئ الكريم أن نذكره هنا ببراعة هذا السفير في إقناع النجاشي بعدالة القضية الإسلامية ومواجهة داهية العرب وصديق النجاشي عمرو بن العاص الذي أرسلته قريش لاسترداد المهاجرين من الحبشة، وكيف تمكن السفير جعفر بن أبي طالب من شرح عدالة قضية المهاجرين، ووضع النجاشي أمام مسؤولياته في نصرة العدالة وحماية المستضعفين.

خطاب جعفر الذي وعاه التاريخ أمام النجاشي لم يكن يتحدث فيه عن أركان الاسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج، ولم يشر فيه إلى تمايز عقيدة التوحيد عن عقيدة التثليث، ووجوب الدعوة الى الوحدانية، وتفاصيل توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وإنما كان بياناً واضحاً في مظلومية شعب تائق إلى الحرية في مواجهة إرادة بطش ظالمة ديكتاتورية عنصرية متغطرسة، وهذا بالضبط ما اقنع النجاشي بعدالة هذه القضية ونبلالموقف الذي اتخذه في حماية هؤلاء المهاجرين ورفض دعوى داهية العرب بأنهم مارقون على السلطان راغبون بالفوضى، ضالون في العقيدة.

ومن نص خطاب جعفر الذي روته أم سلمة:

“أيها الملك….. كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ….  وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة…..

فصدقناه، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به …. فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله عز وجل، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك”.[224]

كان لهذا الموقف الواعي أكبر الأثر في نفس النجاشي وسر وجهه واستنار لما سمع من جعفر، وأمر بإكرامه وأصحابه وحسن رعايتهم.

وفي اليوم التالي عمد عمرو بن العاص إلى اللعب بالورقة الدينية، وقال أمام الملك: إن هؤلاء تركوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك ولا في دين أحد من الملوك، ووقع هذا الكلام موقعاً صادماً لدى النجاشي واستدعاهم من جديد ليفهم موقفهم من المسيح وأمه.

وهنا تبدو براعة جعفر بنأبي طالب ووعيه الدبلوماسي، ويمكن افتراض أن لو كان مفاوض آخر أقل حكمة فمن الوارد هنا أن يتزلف إلى النجاشي على حساب العقيدة وفق قاعدة إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، وكان بالإمكان هنا أن يرضي هذا الزعيم المسيحي ببضع كلمات في العقيدة حتى يضمن سلامة المهاجرين وعدم تسليمهم لقريش، ولكن جعفر أظهر شجاعة وثقة وحكمة، واكتفى بتلاوة نصوص القرآن الكريم في بيان منزلة السيد المسيح وعبوديته لله تعالى، واستطاع أن يقدم صورة واضحة لرسالة الإسلامفي احترامه للسيد المسيح دون أن يذهب إلى التزلف للنجاشي وما يعتقده في أمر المسيح.

وكانت المفاجأة أن النجاشي بدا مختلفاً حتى عن حاشيته وبطارقته الذين كانوا يدينون بالأقنوم الإلهي للمسيح، وقال النجاشي بوضوح: “إن هذا والذي جاء به عيسى بن مريم ليخرج من مشكاة واحدة!!”فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: “وإن نخرتم، وإن نخرتم والله”، ثم قال لجعفر وأصحابه: “اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي – والسيوم: الآمنون – من سبكم غرم من سبكم غرم، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم!!”.

ولكن نجاح السفير جعفر كانت له جوانب أخرى بالغة الأهمية لا بد من تسليط الضوء عليها، فقد كانت الهجرة إلى الحبشة قبل الهجرة بسبع سنوات، ومن المعروف أن الدولة الإسلامية قامت بالفعل في المدينة عند الهجرة، بقيادة الرسول الكريم، وبالطبع فقد عاد معظم المهاجرين إلى الحبشة والتحقوا بالدولة الاسلامية في المدينة، ولكن جعفر ظل في الحبشة وكلف بمهام دبلوماسية أخرى، ولم يعد دوره إذن في توفير ملجأ للهاربين من ظلم قريش، بل كان المطلوب منه مواصلة الدور الدبلوماسي الناجح الذي قام به هو وزوجته أسماء في بلاط النجاشي، وبالفعل فقد روى لنا جعفر بن أبي طالب كثيراً من المواقف التي كان يمارس فيها دور سفارة الإسلام في الحبشة، ولو كان يتسع لبيان ذلك لأطلنا فيه القول وقد أشرنا من قبل أن النجاشي حين رزق بولد يكون ولياً لعهده في الحبشة اختار اسم عبد الله، اتباعاً لما فعله جعفر حين سمى ابنه المولود في الجبشة عبد الله! وهو اسم غير شائع في الحبشة، وهي دلالة قوة الرباط العائلي الذي كان يجمع بين أسرتي جعفر وأسرة النجاشي.

أقام جعفر في الحبشة سبع سنوات أخرى بعد عودة المهاجرين إلى المدينة المنورة، وتمكن من تنظيم عدة وفود من قادة الحبشة وبطارقتها قامت بزيارات متعاقبة لمكة المكرمة ونصرة المسلمين إبان الحصار في شعب أبي طالب، وكذلك إلى المدينة المنورة ولقاء النبي صلى الله عليه وسلم.

وعاد جعفر إلى المدينة إبان فتح خيبر في السنة السابعة، ويومها قال الرسول الكريم: والله ما أدري بايهما أسر، بفتح خيبر أم بعودة جعفر.

حاطب بن أبي بلتعة:

اختار النبي الكريم سفيره إلى مصر حاطب بن أبي بلتعة، وهو رجل لم يكن في السابقين الأولين ولا فيالعشرة المبشرين، ولم يكن كثير صلاة ولا صوم، ولكنه كان الرجل المناسب تماماً للحوار في مصر، فمصر بلد حضاري له تاريخ طويل، وهناك شراكة بين الكنيسة والعرش، وقد أسس القبط كنيسة وطنية، وفي هذه الحالة لا بد للسفير من معرفة وافية بعقيدة القوم وتفكيرهم الديني، وقد كان حاطب هو الرجل المناسب لسفارة كهذه.

في خطابه مع المقوقس أظهر حاطب معرفة فريدة بالعقيدة المسيحية، واعتمد النص القرآني مدخلاً للخطاب الدبلوماسي مع حاكم لا يستطيع أن ينزع عنه عباءة الكنيسة وسطوتها، وفي حواره معه قال له المقوقس:”هل كان صاحبكم نبياً مؤيداً من عند الله”، أجاب حاطب بالطبع بالإيجاب، قال المقوقس: “فما منعه إذ كذبه قومه ألا يكون قد دعا الله عليهم فأهلكهم”.

قال حاطب: “أيها الملك.. فما منع عيسى ابن مريم إذ كذبه قومه ألا يكون قد دعا الله عليهم فيهلكهم وينجو من ظلامتهم”.

قال له المقوقس: “أنت حكيم .. جئت من عند حكيم”.[225]

ومع أن اللقاء لم يسفرعن تحول في دين المقوقس، ولكن حاطب استطاع أن ينصب جسور مودة ووئام بين مصر وبين الدولة الإسلامية الناشئة وعاد من مصر محملاً بالهدايا من المقوقس وفيها طبيب وجارية وغلام، وصارت الجارية فيما بعد زوجة كريمة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

وكما كان بارعاً في نصب حبال المودة من الجانب المصري فقد طار إلى مصر مرة أخرى بكلمة الرسول الكريم: “استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم فيكم ذمة وصهراً”.

وهكذا تعتبر سفارة حاطب من أنجح السفارات في الإسلام وقد أثمرت بناء علاقات حسن جوار، وتجنيب مصر من ممارسة دور مقاوم للفتح الإسلامي في سوريا وفلسطين، كما كان لهذه الروح الودية التي أشاعتها سفارة حاطب أن يسرت السبيل فيما بعد أمام عمرو بن العاص لدخول مصر عبر فتح سريع جنب الفاتحين والشعب المصري أهوال حرب طاحنة.

دحية بن خليفة الكلبي:

كان دحية بن خليفة الكلبي أميراً عربياً من بني كلب وقد اشتهر بجماله وحسن طلعته، حتى قيل إنه كان إذا مر بالمدينة لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه لفرط جماله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يأتيه على صورة دحية، في إشارة لجماله وحسن طلعته حتى سمي نظير الملائكة، وبالفعل فقد اختاره الرسول الكريم سفيرا له إلى الشام.

وكان دحية واسع الثراء، وكان أعظم الخزرج تجارة مع الشام، وهو صاحب القافلة العظيمة التي وصلت المدينة عند صلاة الجمعة تضرب الطبول وتعزف البوق حتى انصرف الناس إليها عن صلاة الجمعة وفيها نزلت الآية: ﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا﴾.

وبدون شك فقد كان هذا الاختيار حكمة بصيرة من الرسول الكريم، فقد كان دحية واسع الصلات والروابط بتجار الشام وبلاط قيصر فيها، وكانت قوافله المستمرة رسالة واضحة لقادة الشام أنهم بالفتح الإسلامي يكسبون سوقا كبيرة في جزيرة العرب، وكانت سفارة رجل الأعمال الناجح دحية أوضح دليل على ذلك.

ومن جانب آخر، فإن الشام بلد حضارات وتاريخ، وكان الرومان بشعورهم الشقراء وعيونهم الزرقاء يوحون إلى أهل الشام الأصلين، ولاسيما أهل الساحل في سوريا ولبنانوفلسطين بأنهم أقرب إليهم من عرب الصحراء الذين تغلب عليم الدكنة والسمرة، وأن سوريا أشبه بأوروبا منها بجزيرة العرب!! وهكذا كانت سفارة دحية رسالة واضحة للسوريين بأن رباطهم بالجزيرة العربية هو رباط بالجذور، وأن رجال الإسلام من عرب المدينة هم من يملأ أسواق الشام بخير الصحراء، وهم من يصنعون رحلة الشتاء والصيف التي يعيش عليها الاقتصاد السوري، وأن الإسلام هو دين الكافة وهو الرحمة للعالمين.

عمرو بن أمية الضمري:

وهنا نصل إلى سفير فريد وغامض في تاريخ الرسالة، فقد كانت الحبشة أكثرالبلاد قرباً من مكة، وكان ملكها أكثر الملوك قرباً للنبي الكريم، وأكثرهم وداداً للإسلام، وفي هذه الحالة فالمفروض أن يكون سفير الاسلام إلى الحبشة واحداً من العشرة الكبار، كأبي بكر أو عمر، فللرجل سابقة ومودة تستحق غاية الاحترام والتقدير، وجرت العادة أن يكون التمثيل الدبلوماسي متسقاً مع الموقف الوطني للبلاد التي نتبادل التمثيل الدبلوماسي معها، ولكن رسول الله اختار لهذه السفارة رجلاً مغموراً لا يعرف بسابقة في إسلامه ولا في علمه ولا في فروسيته، وهو عمرو بن أمية الضمري، وقد شهد بدراً وأحداً يقاتل مع المشركين!! وفي وصفه قال: “بأنه كان قصير القامة شديد الدكنة منفوخ الشفتين!! فما الذي خول هذا الفتى الضمري ليكون أهم سفراء الإسلام في عصر الرسالة؟؟

في الواقع أثارني هذا الاختيار طويلاً وبحثت عن حكمة ذلك واعتقد أنني وقفت على جانب مدهش من حكمة الرسول في الاختيار وأرجو أن يوافقني القارئ الكريم في فهم هذه الحقيقة.

ومن يتأمل كلام عمرو بن أمية الضمري سيشهد بلا ريب ما هو مدهش ومثير من خطابه للملك النجاشي، فبينما كانت السفراء تخاطب الملوك بما تعارف عليه الناس من الألقاب فإن سفير الإسلام إلى الحبشة تجاوز ذلك كله، وخاطبه بلغة الاأصدقاء والأقارب قائلا:

“يا أصحمة……. إن علي القول وعليك الاستماع!!….

إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا في الثقة بك منك، لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز وإصابة الفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى بن مريم، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم، وأمنك على ما خافهم عليه، لخير سالف وأجر منتظر” [226].

ولدى أدنى تأمل في صيغة هذا اللون من الخطاب ستشعر بالذهول! فكيف تسنى لهذا الفتى أن يخاطبه باسمه أصحمة بن أبحر؟ وأن لا يناديه بألقاب الملك المعهودة؟ ثم أي جرأة هذه التي يقول له فيها إن علي القول وعليك الاستماع!!!

لقد حيرني أمر هذا الخطاب، لاسيما أن الروايات تشير إلى أن النجاشي استجاب لدعوة الرسول الكريم وأكرم وفادة رسوله وشهد شهادة الحق!! فكيف أمكن لخطاب قاسٍ كهذا أن يأتي بنتائح إيجابية طيبة؟

شخصياً أعتقد أن تفسير ذلك يمكن أن يكون في ثنايا هذه الرواية الكريمة التي أخرجها الطوسي في أماليه: وفيها أن النجاشي أرسل يوماًإلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت له جالس على التراب، وعليه خلقان الثياب! فقال جعفر: “أعز الله الملك! فما أجلسك على الرماد وعليك هذه الخلقان بغير هيئة الملك التي نعرفها؟”.

فقال: “إنه جاءني- الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك، وأخبرني أن الله قد نصر نبيه محمداً على قريش بواد يقال له بدر.. وإنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن الله يحب إذا أحدث نعمة لعبده أن يحدث عندها تواضعاً!”.

قال جعفر: “وهل تعرف بدراً أيها الملك؟”.

قال: “نعم.. كأني أنظر إليه!.. إنه لما سلبتني الحبشة الملك وأنا صغير ركبت البحر حتى أتيت ماء بدر فأقمت ثمة، وكنت أرعى الغنم لسيدي هناك وهو رجل من بني ضمرة!..”.[227]

إن عمرو بن أمية الضمري إذن هو ابن تلك القبيلة العربية التي احتضنت النجاشي مظلوماً مقهوراً، وعاش في خيامها سنين عدداً، يلعب مع أطفال بني ضمرة ويشاركونه حزنه وأساه ويشاركهم حياتهم وأيامهم.

وهكذا فقد كان فتى ضمرة ابن هذه القبيلة الهامة، ومن يدري فلعله كان شخصياً رفيق طفولته، واستطاع أن يكون بالغ التأثير على النجاشي بخطابه المباشر هذا الخالي من الألقاب.

ومن الدلالة على طبيعة هذا الاختيار ما أورده كتاب السير من أن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن يطلب من النجاشي تزويجه برملة بنت أبي سفيان! وكانت رملة قد هاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله بن جحش ولكن الأخير تركها وتنصر، فبقيت على عهد الإسلام صابرة محتسبة، حتى خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا لا بد من التساؤل: ما معنى أن يخطبها النجاشي للرسول؟ وليس بينهما أي صلة قرابة أو نسب؟ والرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟

والجواب أن رسول الله أراد أن يكرمها أولا بزفاف تقوم به الملوك، في رسالة وفاء لصبرها، ورسالة نصح لأبيها أبي سفيان ليدرك أنه بالإسلام سيكون أكثر عزاً ونصراً، وبالفعل فقد استجاب النجاشي وخطبها بنفسه للنبي الكريم وأصدقها هدايا الملوك وزفها على سفينيتين ملكيتين هي وسائر من بقي من المهاجرين، وتسامع العرب بمجد هذه العروس وما زفت به على مراكب الملوك، وبلغ ذلك أبا سفيان، فقال يصف النبي في زهو وفخر: “هو الفحل لا يجدع أنفه!!” على الرغم من أنه كان آنذاك كافراً يقود قريشاً لحرب الإسلام، ولعل هذا الزواج كان أول إشارة لنهاية الحرب بين مكة والمدينة، وهو ما حصل بالفعل.

وبعد أن تم ذلك الزواج الحكيم، نشير هنا إلى دور آخر لعمرو بن أمية الضمري في نزع فتيل العداء بين زعيم مكة أبي سفيان وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أورد بن حجر في ترجمة علقمة أن رسول الله أرسل عمرو بن أمية مع علقمة بن الفغواء في صرر مال أمره يعطيها لأبي سفيان يفرقها في فقراء قريش، وقال أبو سفيان يومها: “ما رأيت أبر من محمد نحاربه ونقاتله وهو يرسل لنا مالا نفرقه في ضعفائنا!!”.

وهنا يتأكد معنى ما أشرنا إليه من حكمة الرسول الكريم في اختيار عمرو بن أمية الضمري لهذه السفارة، ولا شك أن هذا الدور العائلي من الزفاف والفرح والإكرام لا يمكن أن يرتبه دبلوماسي عادي، ولا بد أنه كان ثمة علاقات من الود والصداقة في مضارب بني ضمرة توفر الجو لهذا الوداد.

إنها محض مطالعات في حكمة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم في حسن تخير سفرائه، ومراقبة أدائهم، وهو رسول الكتاب والحكمة التي هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الشكل الذي ينبغي.

ومع أنه لا يمكن القول بأن هذه السفارات تكفي لضبط الأداء الدبلوماسي الذي يقوم على تراكم من خبرات الأمم وتجاربها، ويتأسس على منطق التبادل الدبلوماسي، وأصبحت له اليوم مؤسسات دولية تقوم بترشيده وتنظيم علاقاته، ولكنها على كل حال توجيهات ملهِمة اقتبس منها فقهاء الإسلام كثيراً من أصول الوعي الدبلوماسي، وتوجيهه لخدمة الأمة، وبناء علاقات دولية رشيدة.

لقد كانت هذه القراءة جولة في سفارات النبي صلى الله عليه وسلم في السلم، والآن لنقترب أكثر من تجربته الثانية ومتابعة سفاراته في الحرب.

2) سفارة الحرب

دبلوماسية الرسول في حل النزاعات:

كما تجلت العبقرية النبوية في سفراء السلم فقد تجلت أيضاً في سفراء الحرب، فقد قدم الإسلام فقهاً واقعياً للحياة، فلم يرسم الدنيا على أنها مزرعة خضراء تعم بالمباهج، وإنما قدمها على ما هي عليه في الواقع سراء وضراء، وعسر ويسر، وسلم وحرب، ولأجل ذلك فقد جاءت الشريعة طافحة بأخبار السلم وأخبار الحرب، وقوانين السلم وقوانين الحرب، وخلال ذلك يمكننا أن نلتمس كثيراً من هديه صلى الله عليه وسلم في الجانب الدبلوماسي حال الحرب.

ولأن هذه الدراسة ليست مخصصة لبحث الدبلوماسية في السيرة النبوية فسنكتفي هنا بإيراد مثال واحد لما أنجزه الرسول الكريم في سفارات الحرب، من خلال استعراض غزوة الحديبية.[228]

ومن حسن حظ التاريخ أن وقائع معاهدة الحديبية قد دونت بتفصيل كبير وتناولها الشراح والكتاب والعارفون بتفاصيل واسعة، وهي ترسم ملامح العبقرية التفاوضية الدبلوماسية التي ظهرت في سلوك النبي الكريم خلال هذه المعاهدة.

كانت قريش قد حاربت الإسلام منذ فجر الرسالة، وحين هاجر الرسولصلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام لم تكف عن إرسال الجيش تلو الجيش لحربه وهو في المدينة، وخاضت معه ثلاثة أيام فاصلة بدر وأحد والخندق، وبعد الخندق أراد رسول الله أن تعلم قريش أن الرسالة ماضية ولن تتكسر أمام حملات العدوان المستمرة، فأمر أصحابه أن يتجهزوا ودعاهم للمشاركة في رحلة كريمة إلى العمرة النبوية المباركة.

لدى أول تحرك له خارج المدينة تسامعت قريش بأمر الخروج وعلى الفور استنفرت مجموعة من خيالتهم وفرسانهم وخرجوا صوب المدينة وتعاهدوا فيما بينهم أن يلقوا محمداً ورجاله، وقد لبسوا جلود النمور ومعهم العوذ المطافيل يقسمون بالله لا يدخلها عليهم أبداً.

كانت الظروف التي وضعهتا قريش كافية لتأجيج نار حرب حقيقية، ولكن الرسول الكريم كان في مراده شيء آخر، لقد كان يتطلع بالفعل إلى إقامة حوار جدي وعلاقة ندية مع قريش، ولم يكن خروجه من مكة بهدف المواجهة الحربية، على أن قريشاً لم توفر سبباً لاندلاع الحرب بينها وبين النبي إلا وفعلته، فقد مارست ضده الحرب النفسية والجسدية والتحالف مع أعدائه والاتصال بيهود المدينة وإغرائهم بنقض العهود مع الرسول الكريم، ولكن رسول الله ظل يبحث عن سبيل لحقن الدماء، وحين تسامع بخروجهم قال لمن حوله من الصحابة: “والذي نفس محمد بيده لا تسألني قريش خطة رشد إلا أجبتهم إليها”.

كان خروج النبي الكريم يوم الحديبية إعلاناً لتغير جديد طرأ على المشهد السياسي في جزيرة العرب فقد كانت الحال في السنوات السابقة على الحديبية أن قريشاً هي التي تغزو المدينة وقد عانى المسلمون أشد العناء من حرب قريش ضد النبي الكريم، وقد هدد المشركون المدينة ثلاث مرات في بدر وأحد والخندق، وبعد أن فشل حصارهم الأخير يوم الخندق نظر رسول الله إلى الأفق البعيد وقال:”الآن نغزوهم ولا يغزوننا”، وكان لا بدمن تغيير المعادلة التي فرضتها قريش طول هذه المدة.

لم يكن من الواضح أن هذا الخروج سينجلي عن نصر عظيم، فقريش حشدت بالأمس يوم الخندق عشرة آلاف مقاتل على حدود المدينة، وكان ذلك قبل سنة واحدة، وهي تقدر على حشد ضعف ذلك إذا كان الهدف هو الدفاع عن مكة، وهو ما أدركه النبي الكريم تماماً، ولذلك فإن كل خطاه يوم الحديبية كانت بهدف المكسب الدبلوماسي وليس المغنم الحربي والعسكري،مع أن الصحابة كانوا في أتم الحماس لدخول مكة، وقد بايعوا تحت شجرة الرضوان على الموت وكانوا يومذاك ألفاً وأربعمائة صحابي ولكن الرسول الكريم لم يكن راغباً بخوض حرب دامية غير محسوبة النتائج، بقدر ما كان حريصاً أن يحقق نصراً دبلوماسياً هاماً وهذا ما عمل عليه وأنجزه خلال أيام الحديبية.

ومع أن هذه الدراسة ليست دراسة في السيرة النبوية ولكن يمكننا أن ندنو من هذه الحقائق التي أكدها سياق الأحداث خلال مفاوضات الحديبية، لنراقب كيف نجح النبي الكريم في تحويل موقف قريش من الرسالة، من موقف رافض للاعتراف بشرعيتها إلى الاعتراف بها كياناً سياسياً واجتماعياً جديداً في جزيرة العرب.

كان رسول الله قد أعلن أنه ماض لأداء العمرة وزيارة البيت الحرام في مكة المكرمة بعد أن صده كفار قريش نحو عشرين عاماً من قبل، وهكذا بدأ خروجه، وصحبه في خروجه هذا ألف وأربعمائة صحابي كريم، كلهم يرجو زيارة البيت الحرام وأداء العمرة الشريفة وصحبة رسول الله.

وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية وهي على مسافة نحو عشرين كيلومترا من مكة، وبدأت طبول الحرب تقرع في مكة، وبدأ نداء الشهادة يتعالى في معسكر النبي الكريم، لاسيما بعد أن أصرت قريش على منع الصحابة من الدخول واحتجزت السفير المفاوض عثمان بن عفان رضي الله عنه، وشاع بين الناس أن عثمان قد قتل.

أما رسول الله فقد كان ينظر في أفق آخر، وكان له مراد واحد من خروجه وهو إرغام قريش على الجلوس إلى مائدة المفاوضات من أجل ترتيب المنطقة لمستقبل جديد.

لم يكن مشروعه القتال ولو أراد القتال لأعد له عدة، ولكنه كان في الواقع يتطلع إلى إنجاز دبلوماسي يتم من خلاله إعلان قيام الدولة المسلمة وتحقيق اعتراف أكبر قوة في جزيرة العرب، وهي قوة قريش آنذاك، وكانت قريش واعية تماماً لما يريده النبي الكريم، وعزمت أن لا تمنح الرسول هذه الفرصة، ولكنها في الوقت نفسه باتت مضطرة للتعامل مع ألف وأربعمائة صحابي جاؤوا مع رسول الله وكلهم يشتاق للشهادة في سبيل الله.

ونلاحظ أن قريشاً أرسلت للنبي الكريم عددا من المفاوضين، وهم:

  • بديل بن ورقاء الخزاعي
  • مكرز بن حفص العامري
  • عروة بن مسعود الثقفي
  • الحليس بن علقمة سيد الأحابيش

وبتأمل بسيط ندرك أن الوفود التي أرسلتها قريش ليس فيها قرشي واحد، فبديل من خزاعة وعروة من ثقيف بالطائف والحليس من الأحابيش، وهناك كلام عن مكرز بن حفص بن الأخيف الذي كان عامرياً من قريش ولكنه من فتاكها وصعاليكها، وسفارته لن تلزم قريشاً بشيء، وهذا بكل تأكيد موقف دبلوماسي مهم من قادة قريش الذين يدركون أن مجرد التفاوض مع النبي الكريم يعني اعترافاً بالواقع السياسي الذي فرضته الرسالة الناشئة في حين أن قريشاً كانت راغبة بأن تستمر في موقفها في تجاهل وجود النبي وأصحابه بالكلية، والتأكيد على أنهم مجرد عصابة مارقون، ولكن أدركوا أيضاً حتمية التفاوض وضرورته، فالرسول قد بلغ الحديبية وهو على مسافة عشرة أميال من مكة، وقد عبر أكثر من مئتين وخمسين ميلاً، ودخوله إلى الحرم أصبح شبه حتم، ولن تستطيع قريش دفعه إلا بحمام دم، ربما لن يكون مع ذلك في صالحها.

وبعد طول تردد تنبهت قريش إلى فكرة المفاوض غير المباشر، وهكذا أرسلت أولاً بديل بن ورقاء الخزاعي، وهو رجل من خزاعة، وقد التقاه النبي الكريم وتمكن من التاثير عليه تأثيراً بالغاً، فقد كان بديل صاحب عقل ورأي، ولكنه لم يكن من قريش وإنما من خزاعة، وخزاعة قبيلة حليفة لقريش، وأغلب أهل السير يقولون إن بديل بن ورقاء دخل في الإسلام بعد لقائه النبي الكريم، ولكنه أخفى ذلك، وهذا ما نرجحه، وقد كان له فيما بعد موقفان بالغا الأهمية في الأحداث، الأول: إقناعه لقبيلته خزاعة بالتحالف مع رسول الله بدلاً من التحالف مع قريش عقب الحديبية، وكذلك كان له موقف هام جداً في :تسليم أبي سفيان إلى خيمة النبي الكريم قبل الفتح الأعظم.

وعاد بديل إلى قريش ومعه رسالة دبلوماسية واضحة مفادها أنه قد وصل إلى مكة ولا شيء يثنيه عن دخول البيت ومعه ألف وأربعمائة صحابي كلهم مستعد للموت في سبيل دخول البيت الحرام، وأنه يتعين على قريش وجوب السماح لمحمد بدخول البيت تجنباً لمواجهة عسكرية لن تكون في صالحهم، ولكن قريشاً مضت في رفض الحوار إلى الغاية وأصرت على التعنت والعتو.

كررت قريش أسلوب المفاوض غير المباشر مرة أخرى وأرسلت عروة بن مسعود الثقفي وهو من زعماء الطائف من بني ثقيف، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوجيه سلسلة رسائل تفاوضية حكيمة لعروة بن مسعود كان لها أبلغ الأثر على تغيير موقفه في رفض دخول الرسول لمكة.

وبخلاف عادته صلى الله عليه وسلم في التواضع والبساطة فقد نظم استقبالاً مهيباً للرجل وأظهر الصحابة مشهداً من التعظيم للرسول لم يكن مألوفاً، حتى قال عروة بعد ذلك لقريش: “والله لقد زرت كسرى في ملكهوزرت قيصر في ملكه وما رأيت أحداً يعظم أحداً كحب أصحاب محمد لمحمد، والله ما إن توضأ وضوءاً إلا قام أصحابه يبتدرونه يلتمسون فيه البركة، وإني أرى أنه لا يرد هؤلاء عن مبتغاهم شيء”.

واختار النبي الكريم في الوفد المفاوض عدداً من الرجال الذين كان لهم تأثير مباشر على عروة بن مسعود، فقد جاء عروة متحمساً لمطلب قريش وهو عودة رسول الله من حيث جاء تجنباً للحرب، وكان يحمل الفكرة القرشية نفسهاأن هؤلاء عصابات إرهابية التحقوا بمتمرد مغامر، فقال له: “يا محمد أجمعت أوشاب الناس وجئت بهم إلى قومك تفض بيضتهم!! والله ما أرى من حولك إلا أوشاباً لو قامت الحرب لتفرقوا عنك في كل وجه!!!!”.

على الفور خاطبه أبو بكر الصديق بكلمة بالغة التأثير وقال له: “ويلك أنحن نفر عنه وندعه”، ثم قال له كلمة فاحشة بالغة يرد على دعواه!! كان ذلك أمراً صادماً في الدبلوماسية فالمفروض أن يحظى الرسول المفاوض باحترام في أداء مهمته، ولكن مع ذلك فإن عروة لم يستطع الرد وقال لولا يد كانت لك عندي لرددتها عليك.

وفي إشارة ذات مغزى اختار النبي الكريم أن يكون بين المفاوضين المغيرة بن شعبة الثقفي، وهو فارس داهية فاتك من ثقيف، قوم عروة، وكان يمثل طموح شباب الطائف، وحين رآه عروة بدأ عروة بالإساءة إلى النبي الكريم ومد يده إلى لحيته كأنه يهون من شأنه صرخ في وجهه المغيرة: ” ويلك.. اسحب يدك قبل أن لا تعود إليك!!”.

أدرك عروة أن الفتى الذي يمثل مستقبل قومه وأملهم قد أصبح جندياً في قافلة الرسالة، وهكذا وجد عروة نفسه يسير عكس التاريخ، ونجحت الدبلوماسية النبوية في فرض واقع جديد على عروة بن مسعود، ويمكن القول إنه بدأ منذ تلك اللحظة في إعداد قومه ثقيف في الطائف للدخول في الإسلام.

وظلت قريش تصر على رفض التفاوض المباشر مع الرسول الكريم، ولكنها في الوقت نفسه بدأت تدرك أنها بأسلوب التفاوض غير المباشر تمنح الرسول فرصاً حقيقية لكسب الأنصار من هذه القبائل العربية المؤثرة فبعد نجاح المفاوضات مع بديل بن ورقاء الخزاعي في كسب خزاعة ليصبحوا حلفاء للرسول، فقد حصل الشيء نفسه مع الوفد المفاوض الثاني عروة بن مسعود الثقفي، فقد عاد الرجل وهو مقتنع بأن أمر رسول الله ماض إلى نجاحات حقيقية وجديدة، وأن دخول ثقيف في الإسلام هو مسألة وقت ليس إلا.

ثم أرسلت قريش مكرز بن حفص بن الأخيف، وفي هذه المرة فإن الرسول الكريم اتخذ موقفاً تفاوضياً مختلفاً إذ رفض التفاوض مع الرجل وقال لأصحابه: “هذا رجل غادر، فاحذروه”، ولم يقبل اللقاء به، وكان امتناعه عن مفاوضته رسالة واضحة أنه قد أصبح في موقف من يملي شروطه وأن أحداً لا يستطيع أن يقوده إلى تفاوض عبثي لا معنى له.

وكذلك فإن التفاوض الدبلوماسي يتطلب مساواة في الرتبة أو في الصلاحية بين المتفاوضين، ولم يكن لمكرز شيء من هذا، فقد كان عروة زعيماً في ثقيف وبديل زعيماً في خزاعة، أما مكرزفلم يكن له شيء وهو أشبه بمخبر منه بمفاوض.

وكان من الواضح أن قريشاً لن تعترف بنتائج سفارة مكرز لأنه كان من الفتاك، أي الصعاليك الذين تنبذهم القبائل لسوء سلوكهم واعتدائهم على أهلهم، وكلمة الفتاك، جمع تكسير للفاتك وهو الملطخ بدماء قومه، وهو تعبير كانت العرب تقصد به ما نعبر عنه اليوم بأنه مطعون السجل المدني، وينظر إليه على أنه صعلوك مارق، ولن تلزم سفارته قريشاً في شيء.

ولكن عبقرية الرسول الكريم ظهرت مع المفاوض الأخير وهو الحليس بن علقمة، فقد كان الحليس سيد الأحابيش وهؤلاء كانوا قوماً من الحبشة يأتون لمجاورة البيت الحرام ويعظمونه ويقدسونه، وفاء لإبراهيم عليه السلام، وكانوا قد أبلوا بلاء شديداً في أحد إلى جانب قريش في حربها ضد الإسلام، وكان عددهم يقدر في مكة بثلاثة آلاف معظمهم من الشباب المحارب، وكلهم يحملون مشاعر التعظيم للبيتالحرام، وكانت قريش قد نفثت في روعهم أن محمداً قادم ليهدم الأصنام والكعبة، وأنه لا يعرف حرمة للشهر الحرام ولا للبلد الحرام، وبالفعل فقد ذهب الحليس غاضباً في رجال من أصحابه ليبلغوا الرسول الكريم قرار قريش برفض دخوله.

حين رآه رسول الله من بعيد قال لأصحابه: “هذا الحليس بن علقمة، هذا من قوم يتألهون، فأظهروا التلبية والتكبير وابعثوا في وجهه الهدي من الغنم والإبل…..”.

وخلال ساعة امتلأ الوادي بالتكبير والتهليل والصحابة في ثياب الإحرام، وسال الوادي بالأغنام والإبل التي أحضرها الصحابة لتكون هدياً كريماً للبيت الحرام..

كانت الرسالة التفاوضية واضحة تماماً ولم يحتج الحليس لأكثر من هذا فقد أدرك أن القوم جاؤوا معظمين للبيت الحرام، وأنهم يهللون ويكبرون، وقد ساقوا معهم الهدي الكثير، ومحله أن ينحر في مكة ويأكل منه الفقراء، تعظيماً للبيت الحرام.

أدرك الحليس وصحبه أن من يسوق معه الغنم والبعير ليس محارباً ولا راغباً في الحرب، وليس الغنم أداة الحرب بل الخيل، وثياب الحرب لا يمكن أن تكون تلك المناشف البيضاء التي يرتديها الصحابة ويهللون بها ويكبرون!!.

لم يكمل الحليس مشواره إلى الرسول الكريم بل قفل عائداً إلى قريش يملؤه الغضب!! لقد تمكنت قريش من خداعه يوم أحد فحارب إلى جانبها دفاعاً عن البيت الحرام، ولكن آن له الآن أن يدرك الحقيقة، لماذا يراد منه أن يمنع هؤلاء عن زيارة البيت الحرام، لقد ترك وقومه الدنياكلها من أجل خدمة الحجاج والمعتمرين، فلماذا يطيع قريشاً في حقدها وجنونها، ويخالف مبادئه التي كرس لها حياته في الدفاع عن البيت الحرام؟ وعلى الفور عاد إلى قريش وقال غاضباً: “والله ما على هذا عاهدناكم يا معشر قريش!!! أيصد عن البيت الحرام من جاء معظماً له،عارفاً لمكانته وفضله، وقد ساق الهدي للحرم الشريف، وقد أحرم وأصحابه تعظيماً للبيت الحرام وإجلالاً؟؟ والله لتأذنن لمحمد أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد حتى لا يصد عن البيت الحرام حاج ولا معتمر!!”.

لقد اتبع النبي الكريم أسلوب التفاوضية الصامتة، واستخدم وسائل تعبير أشد بلاغة وأثراً، وأمكنه أن يقدم أدلته بكامل الإقناع والتأثير عبر ماكينة إعلامية وتأثيرية.

وعقب هذه الرسائل المتتالية رأى النبي الكريم أن يرسل مفاوضاً من أصحابه إلى مكة، ودعا عمر بن الخطاب ليقوم بهذه المهمة ولكن عمر قال:”يا رسول الله… لقد علمت قريش أنه ما أحد أشد مني على كفرها وعنادها وآلهتها… فإن كنت تريد حرباً فأرسلني يا رسول الله، وإن كنت تريد سلماً فارسل عثمان بن عفان، فإنه من بني أمية وله في القوم منعة ومكانة”.

وبالفعل كان رأي عمر حكيماً، وقد قبله النبي الكريم وارسل على الفور عثمان بن عفان، وبالفعل فقد استقبل عثمان من بني عمه بني أمية، ولم يتعرض لأذى، وأبلغ قريشاً رسالة النبي الكريم، وأدركت قريش أنها لن تستطيع المضي في عنادها إلى الغاية.

ومرت ثلاثة أيام وقريش تؤجل ردها على رسالة عثمان، وشاع في الناس أن عثمان قد قتل، ودعا النبي الكريم أصحابه على الفور لبيعة الرضوان التي كانت بيعة على الموت، وكانت هذه البيعة رسالة ضرورية للضغط على قريش لتقر مبدأ التفاوض والحل السلمي للصراع.

فشلت كل محاولات قريش لتجنب التفاوض مع الرسول الكريم وأيقنت في النهاية أنه لا بد من التفاوض، واختارت لأجل ذلك سهيل بن عمرو، وهو أحد زعماء قريش من رجال الفصاحة والبلاغة، وكان موتوراً من الرسول والرسالة، فقد التحق بالإسلام ابنه أبو جندل، وقد واجهه بشراسة حتى حبسه في الدار موثقاً بالحديد لئلا يهاجر إلى المدينة.

حين رأى رسول الله سهيل بن عمرو قال لأصحابه: “لقد سهل أمركم”، ولم يكن ذلك اشتقاقاً لفظياً كما يتبادر إلى الذهن، بل كان في الحقيقة فهما دبلوماسياً عميقاً وهو أن جلوس قريش للمفاوضات المباشرة يعني الاعتراف الدبلوماسي الذي كان رسول الله يتطلع إليه.

وعبر جولات متتالية من التفاوض مارس فيها سهيل استفزازاً كبيراً، ضد الرسول والرسالة، اتبع رسول الله أسلوب التفاوض الهادئ، وترك الرد على استفزازات سهيل لمن شاء من الصحابة ولكن ظل يتبع سياسة النفس الطويل حتى وقع مع قريش صلح الحديبية.

كان الصلح في ظاهره ينظوي على مخاطر كبيرة واجهت اعتراضاً شديداً من الصحابة حيث نص على العودة إلى المدينة دون حج، ونص على أن من هاجر دون إذن والديه فالنبي مأمور أن يسلمه إليهم وأما من ارتد من المسلمين فليس للنبي أن يمنعه، في سبعة شروط كانت تمثل استعلاء قريش واستكبارها على الرسول وأصحابه.

ولكن الهدف التفاوضي الأكبر الذي كان رسول الله يسعى إليه هو اعتراف قريش بالدولة الإسلامية الوليدة، وهو مكسب سياسي كبير لم يدرك كثير من الصحابة أهميته ولا تأثيره، ولكن رسول الله أصر على ذلك وبالفعل تحقق له ذلك، وعاد إلى المدينة مغتبطاً بالنصر الدبلوماسي الكبير الذي أنجزه على صعيد الاعتراف بدولته الناشئة من القوة العربية الرئيسية آنذاك في جزيرة العرب.

لم يكن اعتراف قريش بالدولة الجديدة إيماناً، ولا تصديقاً بالرسول والرسالة، ولكنه كان تتويجاً لدبلوماسية ناجحة خاضها رسول الله بكل أدوات الدبلوماسية الواعية من الضغط والتأثير والرغب والرهب وإدراك مكامن التأثير في نفوس الناس.

ويمكن رصد عدد من النجاحات الدبلوماسية التي حققها الرسول الكريم في مفاوضات الحديبية على الشكل التالي:

  • فرض الاعتراف الدبلوماسي بالطرق السياسية السلمية.
  • تحقيق مكاسب هامة عبر التفاوض الجانبي غير المقصود: في خزاعة وثقيف والأحابيش.
  • اختيار الفريق المفاوض بما يحقق أهداف الرسالة ومصلحة الأمة.
  • سياسة التفاوض الصامت الموجه.
  • أثر النشاط الإعلاني والدعائي في العملية التفاوضية.
  • حق رفض التفاوض عند اختلال الرتبة أو الممارسات الاستفزازية للفريق المفاوض.
  • ضرورة تقديم تنازلات سياسية في سبيل الحصول على اعتراف دبلوماسي صحيح.

كانت هذه نجاحات كبيرة تحققت خلال صلح الحديبية، وعقب إنجاز الصلح نزل قول الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾.

قال عبد الله بن مسعود: “ما كان في الإسلام فتح أعظم من يوم الحديبية، لقد دخل في الإسلام عامذاك مثل من دخل في الإسلام من بداية الدعوة إلى الحديبية”.[229]

الفصل الرابع:

المشترك بين الإسلام والدبلوماسية الحديثة

دأب كثير من الكاتبين على إظهار عظمة الإسلام وفرادته من خلال التأكيد على اختلافه في المبادئ والقيم عن الكفاح العالمي وعدم الاعتراف بالمشترك الإنساني، وخلال ذلك يتم تبخيس المنجزات التي حققها الإنسان خلال تاريخه الطويل أو التعامل معها على أساس أنها كانت نضالاً ضد الدين الحق، ونفوراً منه.

وفي هذا السبيل يتم تصوير العالم على أنه يعيش جاهلية منكوسة وظلمات مطموسة، وأن لا سبيل لخلاص هذا العالم إلا أن يتبرأ من كل ما هو فيه ويتبع الرسالة الخاتمة.

ويمكن قراءة مثال واضح لهذا التفكير عبر كتاب جاهلية القرن العشرين لمحمد قطب، وما ساد في الخمسينات من القرن الماضي من أفكار متطرفة عنيفة، كرست تقسيم العالم إلى ثنائية الفسطاطين، وفرضت على المسلم الكفاح من أجل هدم المنجز الحضاري الإنساني على أساس أنه منجز كافر لا بد من هدمه حتى يقوم الإسلام على أنقاضه.

وحتى لا نذهب بعيداً في التحليل بما يخرج الكتاب عن هدفه وخصائصه فإن علينا أن نقول إن نصوص الإسلام الظاهرة لا توافق على هذه النظرة الازدرائية للمنجز الحضاري العالمي، وإن الهدي القرآني يتعامل بإيجابية مع كل ما أنجزه الإنسان خلال تاريخه الطويل من كفاح لبناء العدالة والمساواة والحريات في الارض.

وحتى نكون دقيقين فإن هذا المفهوم من وجوب الصدام بين الحضارات هو تيار في التفكير موجود في الشرق وموجود في الغرب، وقد اشتهر المصطلح في العقد الماضي عندما عمد الكاتب الأمريكي صمويل هنتنغتون إلى إصدار كتابه: صدام الحضارات الذي صار عنواناً على اتجاه في التفكير يفترض التناقض المطلق بين سعي الإنسان الحضاري وبين القيم الدينية التي بشر بها الأنبياء، وهكذا فإن مصطلح صدام الحضارات CLASH OF CIVILIZATIONS ليس مصطلحاً إسلامياً بالمرة بل هو مصطلح أمريكي بامتياز، ويجب القول إن الدبلوماسية الإسلامية قد قامت بدور بالغ الأهمية في الإطار الثقافي حين اعتمدت القمة الإسلامية عنوان حوار الحضارات، واقترحته على الأمم المتحدة التي أقرت تسمية عام 2001 على أنه عام حوار الحضارات، ومن ثم فقد انطلق برنامج تحالف الحضارات الذي صار الشكل الحضاري الأمثل للتعامل مع الاختلاف في القيم الحضارية بين الشرق والغرب.

وهنا نذكر بما قلناه في مطلع هذه الدراسة أن مصطلح حوار الحضارات نفسه ليس كافياً للتعبير عن روح الإسلام في التلاقي مع الآخر، بل يجب الحديث عن وحدة الحضارة الإنسانية؛ لا توجد حضارة تبدأ من الصفر كل حضارة تؤسس على من سبقها، وبدورنا عندما كنا نقوم بريادة الحضارة كنا نؤسس على من سبقنا من رواد الحضارات السابقة، وهذه هي حركة الحياة الدائبة التي يؤسس بعضها على بعض ويرتشف بعضها من معين بعض.

والأمر نفسه في إطار السنن الاجتماعية، فما تحقق للبشرية في إطار العدالة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان ليس منجزاً أمريكياً يجب أن نطالب بالكفر به والتنصل منه، وإنما هو نضال إنساني عظيم يشترك فيه كل بني آدم بالكفاح والعناء والعطاء.

ربما كان من أوضح الأمثلة على ذلك أن القرآن الكريم تحدث عن رسالة النبي الكريم في أربعة عشر موضعاً بصيغة مصدقاً لما بين يديه، ولم يقل أبداً مبطلاً أو ملغياً لما بين يديه أو ناسفاً لما بين يديه، بل إنه عبر بأوضح عبارة بقوله: “مثلي ومثل النبيين من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها إلا موضع لبنة فكان الناس إذا مروا بتلك اللبنة يقولون ما أجمل هذه الدار لولا موضع للبنة فكنت أنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين”،[230] إنه لم يقل أنا البناء كله وإنما قال أنا لبنة في البناء الكبير.

إن احترام إنجاز الآخرين والبناء عليه هو هدي الأنبياء وهو في الواقع مرتكز الموقف الإسلامي في حواره مع أهل الكتاب، أصحاب الحضارة الدينية السابقة على الإسلام، وهو موقف احترام كان من أقرب مظاهره أن المسلمين ظلوا يصلون نحو نصف عمر الرسالة صوب بيت المقدس قبلة أهل الكتاب في إشارة واضحة للتكامل بين رسالات الأنبياء وإخائهم.

إن الغرب أصبح مع التطور الحضاري أكثر وعياً باستحقاق السلام الدولي، وهو يوظف هذه العلاقة بكفاءة في علاقاته مع الآخرين، لقد تعلم الغرب من قانون الحضارة؛ في الماضي عندما قال هتلر: (ألمانيا فوق الجميع) أشعل حرباً عالمية ولكن عندما غيرت ألمانيا منطقها هذا، وأعلنت (ألمانيا مثل الجميع) قامت الوحدة الأوروبية، وتحقق أعظم إنجاز وحدوي في العالم في مطلع القرن الحادي والعشرين.

ومع أن هذه الحقيقة واضحة في كتاب الله وهدي الأنبياء، ولكنها لم تكن واضحة للعيان في أي مرحلة من مراحل التاريخ كما هي اليوم، بعد ثورة المعلومات والاتصالات التي عززت فكرة القرية الكونية، وأكدت إخاء الإنسان للإنسان على الرغم من إرادة الحرب الباطشة التي تتناوب على إشعالها في الأرض قوى متقابلة في الشر من الشرق والغرب والشمال والجنوب، ولكن أدنى قدر من الثقافة صار يدعو الإنسان إلى معرفة أخيه الإنسان شريكاً لا بد منه لبناء الأرض وتسخير خيراتها في منافع العباد والبلاد.

إننا جيران على كوكب واحد، وهذه حقيقة أكدها القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، وشرحها السيد المسيح بقوله: ﴿الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره﴾، ودلت لها حقائق العلم الحديث التي درست طبائع الإنسان وحاجاته ومقاصده وأكدت الأصل القرآني الكبير الذي دلت له عشرات الآيات: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾، و”كل مولود يولد على الفطرة”.

الناس وفاقيون وفروقيون، منهم من يبحث عن المشترك ومنهم من يبحث عن المختلف، ومن عجائب القدر أن كلاً من الفريقين يجد بغيته وشواهده في العقل والنقل، ولا يخفي كاتب هذه السطور انحيازه إلى تيار الوفاقيين الذين يؤمنون بالإخاء الإنساني في الأرض، ويؤمنون بأن الله خلق العالم من أجل نهاية سعيدة، ويؤمنون بكلمة إقبال:

لم ألق في هذا الوجود سعادة     كمحبـــــــــــــــــــــــة الإنسان للإنسان

لما سكرت بخمرها القدسي لم     أحتج إلى تلك التي في الحان

إن فكرة الجوار الإنساني على الكوكب ليست فكرة بلهاء تعفينا من التزام الحقوق، وتحولنا إلى مجرد دراويش على طرف الكوكب، بل هو تشارك ومسؤولية، وكفاح وجراح، ودمعة وابتسامة، وحين نتخلى عن مسؤوليتنا في القرية الكونية فنحن إذن من يخرق وثيقة الجوار، وربما كان أوضح شرح لمسؤولية الجوار ما عبر عنه الرسول الكريم: “مثل القائم في حدود الله والراتع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً”.

وهكذا فإن المنجز الإنساني الذي تحقق في المجال الدبلوماسي عاد بأعظم الفوائد على العلاقات الدولية، وأسهم في جعل العالم أكثر تقارباً وتفاهماً وتعارفاً وهذه كلها قيم إسلامية أصيلة، ينبغي استثمارها في خير الأمة وبالتالي الإسهام في تطويرها وتفاعلها المستمر.

وإن القاعدة الإسلامية التي تحكم هذا اللون من التعاون والتكامل هي قول الرسول الكريم: “الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله”.[231]

وهكذا فإن اعتماد نص الاتفاقية الدولية للعلاقات الدبلوماسية التي تم توقيعها في فيينا يوم 18/4/1961، هو من حيث المبدأ أمر مشروع ومطلوب فقهاً وديناً، لأنه من باب توافق الأمة مع جيرانها على أمر مباح، وثانياً لأنه وفاء بالعقود التي أمر الله أن نوفي بها، وثالثاً لأنه مصلحة حقيقية للأمة، تعود بالخير على سائر الناس.

وتتألف الاتفاقية من 52 مادة، تتناول بمجموعها طبيعة العلاقات الدبلوماسية والأصول المتفق عليها في إطار تبادل السفراء والمبعوثين الدبلوماسيين، ولا يوجد سبب لتكريس أي موقف سلبي ضد هذه المواد الإجرائية، وغاية الأمر أن مسؤولية الدولة الإسلامية في تنفيذ مضمون هذه الاتفاقيات تتأكد من اللحظة التي يتم توقيعها بوجه صحيح لأنها التزام بالعهد وقد قال الله تعالى:﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾[232].

ومع ذلك فإن من المفيد هنا أن نذكر ديباجة الاتفاقية، ونقارب بينها وبين المقاصد الإسلامية الكبرى في الوفاق والتعاون الإنساني.

الدول الأطراف في هذه الاتفاقية:

إذ تذكر أنه منذ زمن بعيد وشعوب كل البلدان تعترف بنظام الممثلين الدبلوماسيين وتعرف أهداف ومبادئ ميثاق هيئة الأمم لمتحدة الخاصة بالمساواة في حق سيادة كل الدول – وفي المحافظة على السلام والأمن الدوليين, وفي تنمية علاقات الصداقة بين الأمم.

وهى مقتنعة بأن اتفاقية دولية عن العلاقات والامتيازات والحصانات الدبلوماسية ستساعد على تحسين علاقات الصداقة بين البلدان مهما تباينت نظمها الدستورية والاجتماعية .

وهي على يقين بأن الغرض من هذه المزايا والحصانات, ليس هو تمييز أفراد, بل هو تأمين أداء البعثات الدبلوماسية لأعمالها على أفضل وجه كممثلة لدولها.

وتؤكد أنه يجب أن يستمر تطبيق قواعد القانون الدولي التقليدي في المسائل التي لم تفصل فيها نصوص هذه الاتفاقية صراحة .

واتفقت على ما يأتي:

ثم ترد مواد الاتفاقية الاثنتان والخمسون، وهي مواد إجرائية وعملية لتكريس هذا التعاون.

ويمكن القول إن ديباجة هذه الاتفاقية التي تحدد أهدافها منسجمة تماماً مع القيم الإسلامية في بناء عالم السلم والتعاون الدولي، وفق ما دلت له الآيات الكريمة:

  • قوله تعالى:﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾[233].
  • وقوله: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾[234].
  • وقوله: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.[235]
  • وقوله: ﴿فمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾.[236]
  • وقوله: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾.[237]
  • وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾.[238]

والآيات بهذا المعنى كثيرة، وكذلك ما ورد في السنة النبوية الكريمة من قيم التعاون الدولي والإخاء والتسامح، وكلها تحمل النتيجة إياها من وجوب الدخول في السلم والتعاون الإنساني، ووجوب تنفيذ العقود والعهود على وجه يستقيم أخلاقياً وحقوقياً.

وهكذا فإن المشترك بين الإسلام والقيم الدبلوماسية كثير، وقيام التعاون الدولي على أساس من السلم والمصالح المتبادلة هو مقصد إسلامي حقيقي، وتوافق إنساني وعالمي ناجح.

وفي نهاية هذه الدراسة يمكن القول إن تطوير المعارف الدبلوماسية وبناء مزيد من ظروف السلم لتأمين علاقات دولية ناجحة هو مقصد إسلامي نبيل أكدته نصوص الكتاب والسنة، وهو مصلحة حقيقية للأمة، وحيثما كانت المصلحة العامة فثم شرع الله.

﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.

الملاحق

نموذج من التعامل الدبلوماسي لرسول الله

نموذج من الخطاب الدبلوماسي لرسول الله

نموذج من التعامل الدبلوماسي لرسول الله

نجران إقليم كبير بين اليمن والحجاز، دخلت إليه النصرانية منذ القرن الرابع للميلاد وكان يعتبر أهم كرسي للأرثوذكسية الشرقية في جزيرة العرب، ثم تعرض أهل نجران لغزو ذو نواس اليهودي الذي أحرق المؤمنين من المسيحيين بالنار، وفيهم نزلت سورة البروج وفيها قصة أصحاب الأخدود، وقد بلغ عدد الشهداء منهم نحو أحد عشر ألفاً، وكان ذلك عام 524 أي قبل ولادة الرسول الكريم بنحو نصف قرن.

وقد أولى النبي الكريم اهتماماً بالغاً لأهل نجران، وقد استقبل النبي الكريم في السنة السابعة وفد نصارى نجران وكانوا نحو خمسين شخصاً على رأسهم السيد العاقب، وأقام الوفد في مسجد النبي الكريم خمسة عشر يوماً يأكلون من ثمارها ويشربون من مائها وينتجعون أرضها، ومع أن القوم لم يدخلوا في الإسلام ولم يقروا بنبوة رسول الله، ولكن النبي الكريم أكرمهم واستمع إليهم وأبلغهم رسالته، ثم كتب لهم كتاباً بالغ الأهمية صار فيما بعد أحد أهم الوثائق التاريخية في الحريات الدينية وتعزيز المشترك وحسن الجوار.

وفي نهاية مقامهم بالمدينة طلبوا من النبي أن يرسل فيهم رجلاً أميناً، فقال لأرسلن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف لها الناس واختار رسول الله أبا عبيدة بن الجراح سفيراً مقيماً فيهم، وقال هذا أمين هذه الأمة.

ومن طريف ما روي في أمر وفد نصارى نجران، ما أورده ابن كثير في تفسيره: “ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم، فصلّوا إلى المشرق”([239]).

فكانت صلاتهم في مسجد رسول الله إشارة بالغة الأهمية للحريات الدينية التي منحها الإسلام للناس، ويمكن القول إنه تأسيس لمبدأ تمكين السفراء من إقامة شعائر دينهم على ما اعتادوه، وحين هم بعض الصحابة بمنعهم، رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وأرشد القوم إلى الشرق حيث يؤدي النصارى عبادتهم ومناسكهم.

وهذا ما نطالعه في نص العهد الذي كتبه لهم رسول الله كما أورده البيهقي بنصه في دلائل النبوة:

« بسم الله الرحمن الرحيم ….

 هذا ما كتب محمد النبي رسول الله.. لنجرانوحاشيتها، ولأهل ملتها، جوار الله وذمة محمد النبى رسول الله، على أموالهم وأنفسهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم، وعشيرتهم، وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.

لا يُغيَّر أسقف من أسقفيته، ولا راهب من رهبانيته، وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسى وخاصتى وأهل الإسلام من ملتي،ولا يُحمَّلون من النكاح شططا لا يريدونه، ولا يُكرَه أهل البنت على تزويج المسلمين، ولا يُضارّ فى ذلك إن منعوا خاطبًا وأبَوْا تزويجًا؛ لأن ذلك لا يكون إلا بطيبة قلوبهم، ومسامحة أهوائهم، إن أحبوه ورضوا به.

ولهم إن احتاجوا فى مرمَّة بِيَعهم وصوامعهم أو أى شىء من مصالح أمورهم ودينهم إلى رِفْد من المسلمين وتقوية لهم على مرمَّتها، أن يُرْفدوا على ذلك ويُعاوَنوا، ولا يكون ذلك دَينًا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاءً بعهد رسول الله، وموهبة لهم، ومنَّة لله ورسوله عليهم.

وإضافة إلى جانب السماحة والمرحمة التي ظهرت في الكتاب فإن في العهد أيضاً واجبات دبلوماسية متبادلة بين الرسول وأهل نجران، وتضمن كتاب الرسول الكريم فصلاً متقدماً من التبادل الدبلوماسي، حيث نص على وجوب وفادة المبعوثين من قبل رسول الله، وتم تحديد هذه الوفادة بعشرين ليلة، كما اشتمل الكتاب على إلزامهم بعدد من الواجبات تجاه ظروف الطوارئ التي قد يتعرض لها المبعوثون في مناطق نجران، وتم تحديد مسؤولية نجران بالتفصيل:

“وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين يوما فدونه، ولا تحبس رسلي فوق شهر”.

ويعتبر ذلك يمثابة اتفاق ملحقية عسكرية بين البلدين، تلتزم بموجبه كل دولة بحماية الطرف الآخر على أراضيها، وينص الاتفاق أيضا على أن هذه المعونة تعتبر بمثابة الدين الملزم، وهي ذمة مضمونة لدى الدولة المسلمة.

ونصت الاتفاقية أن….

“عليهم عارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد ومعرة، وما هلك مما أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسلي حتى يؤدوه إليهم”.

ومع إقرار هذه الاتفاقية الدبلوماسية واعتراف الدولتين بحقوق كل منهما فإن النبي الكريم نص بوضوح على احترام الاختيار الديني لنصارى نجران، وكذلك التراتبية الدينية والترقيات الكنسية التي اعتادوها، وكان البيان النبوي حريصاً على استخدام مصطلح أهل نجران في التسميات الكهنوتية، على الرغم من غربته عن اللسان القرشي وتناقضه التام مع القيم الإسلامية:

ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي على أنفسهم وملتهم وأرضيهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وأن لا يغيروا مما كانوا عليه ولا يغيروا حقًا من حقوقهم ولا ملتهم، ولا يغيروا أسقفًا عن أسقفيته ولا راهبًا من رهبانيته، ولا واقها من وقيهاه، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير.

وليس عليهم دنية ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل فيهم حقًا فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين.[240]

وبتأمل دقيق ندرك أن النبي الكريم نجح في تحقيق مكاسب دبلوماسية بالغة الأهمية، من خلال هذا الاتفاق  نعد منها:

  • اتفاقية اعتراف دبلوماسي متبادل مع دولة عريقة لديها كرسي كنسي عريق.
  • اتفاقية عدم اعتداء بين الدولتين.
  • إقرار بالحقوق الدينية الكاملة لكل من الجانبين.
  • منح الحصانة الشخصية والمالية للمبعوثين المتبادلين (لا يحشرون ولا يعشرون).
  • تعاون لوجستي لتأمين السفراء والمندوبين من الطرفين غير المقيمين.
  • إعلان ما يمكن تسميته أول ملحقية عسكرية دبلوماسية في أرض العرب.
  • تعيين سفير مقيم وهو أبو عبيدة بن الجراح.

لقد كانت هذه انجازات بالغة الأهمية في إطار تأمين الحدود الجنوبية للدولة الإسلامية، وبناء علاقات حسن جوار، مع أن الحوار في العقيدة لم يفض إلى نتيجة مرضية، حيث تمسك وفد نجران بموقفهم الاعتقادي، ورفضوا الدخول في الإسلام.

كما ترسم الاتفاقية ملامح الحريات الدينية التي أعطاها الإسلام للناس، والتأكيد على المشترك الإنساني على الرغم من الاختلاف الفكري، كما تعكس اهتماماًخاصاً برعاية أهل الكتاب الذين خصتهم الشريعة بأحكام خاصة قائمة على الاعتراف المتبادل والاحترام.

نموذج من الخطاب الدبلوماسي لرسول الله

المناذرة عرب من قحطان غادروا اليمن عقب انهيار حضارة مأرب بعد انهيار السد بالسيل العرم، نحو ألف عام قبل الميلاد، واشتهرت هجرتهم بهجرة تنوخ أو لخم وقد نزلوا بأرض العراق، وأسسوا أكبر تجمع عربي حتى تاريخه، كانت عاصمتهم الحيرة وأطلقوا على أنفسهم لقب ملوك العرب، وكانت مدنهم تمتد من الأنبار إلى البحرين إلى عمان، ويمكن القول إنهم كانوا يسيطرون على جانب كبير من العراق ساحل الخليج الممتد إلى حضرموت، وقد كانوا يشكلون قلقاً للإمبراطورية الفارسية وفي عام 609 استدرج ملك الفرس خسرو الثاني ملك المناذرة النعمان بن المنذر وقتله تحت أقدام الفيلة، وقد ثار لذلك العرب واندلعت بينهم حرب ذي قار، وأظهروا فيها بسالة فريدة، وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا يوم انتصف فيه العرب من العجم”، وبعد سلسلة مواجهات تمكنوا من فرض شروط معقولة في علاقاتهم مع فارس، يضمنون فيها لأنفسهم قدراً كبيراً من الحكم الذاتي ولكنهم لا يخرجون عن سلطان الإمبراطورية.

أما عقائدهم فكانت على ملة إبراهيم وقد أصابها ما أصاب قريشاً من الشرك والوثنية، كما انتشرت في بلادهم كنيسة المشرق، وكانوا يأتون في الموسم إلى الحرم الشريف، وكان رسول الله يرجو أن يجد لديهم وعياً لرسالته وأن يقوموا بحمايته ونصرته من قريش.

وفي السنة العاشرة للمبعث وهي السنة التي تم فيها فك الحصار في شعب أبي طالب انطلق رسول الله إلى القبائل في الموسم يدعوهم إلى الله ويسألهم أن ينصروه ويحموه.

وكان رسول الله يرجو أن يجد لدى المناذرة حصناً وأمناً فهم أكبر قبائل العرب، ولديهم تاريخ حضاري، وتنتشر فيهم كنيسة المشرق المسيحية وهي على خلاف مع الأرثوذكسية البيزنطية، وتشبه أن تكون مسيحية عربية خالصة، ولديهم مراكز حضارية بالغة الأهمية منها الحيرة والنجف.

كما ظهر فيها أكبر شعراء الجاهلية: المثقب العابديوعبيد بن الأبرصوالنابغة الذبيانيوطرفة بن العبدولقيط بن يعمر الأياديوعدي بن زيد العباديوعمرو بن كلثوموعمرو بن قميئةوأعشى قيسوالمرقش الأكبرولبيد بن ربيعة.

وبترتيب من أبي بكر الصديق وهو أكثر رجال قريش علماً بالنسب ومعرفة بالقبائل، وعلي بن أبي طالب وهو الذي اختار فيما بعد منازل المناذرة في الكوفة والنجف عاصمة لخلافته تم إعداد هذا اللقاء الفريد الذي تتجلى فيه دبلوماسية رائعة في الخطاب والمعاملة، ومن حسن حظ التاريخ أنه دون هذا اللقاء الفريد، وهو وثيقة هامة في الدبلوماسية المتقدمة التي كانت تعرفها العرب على الرغم من حياة البداوة التي كانت غالبة فيهم.

ومن الروايات المتعددة لهذا اللقاء، وهي روايات متقاربة عموماً أختار لك هذا النص من دلائل النبوة للبيهقي.

عن علي بن أبي طالب قال: “لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر رضي الله عنه، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه وكان مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة فسلم ….. فقال: “ممن القوم؟” قالوا: “من شيبان بن ثعلبة”، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم جمالاً ولساناً، وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته وكان أدنى القوم مجلساً”، فقال أبو بكر رضي الله عنه: “كيف العدد فيكم؟” فقال مفروق: “إنا لنزيد على ألف، ولن تغلب ألف من قلة”. فقال أبو بكر: “وكيف المنعة فيكم؟” فقال المفروق: “علينا الجهد ولكل قوم جهد”. فقال أبو بكر رضي الله عنه: “كيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟” فقال مفروق: “إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش؟”، فقال أبو بكر رضي الله عنه:”قد بلغكم أنه رسول الله ألا هو ذا”، فقال مفروق:”بلغنا أنه يذكر ذلك، فإلام تدعو يا أخا قريش؟”، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر رضي الله عنه يظله بثوبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشاً قد ظاهرت على أمر الله، وكذبت رسله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد»، فقال مفروق بن عمرو:”وإلام تدعونا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا”، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم” ….. إلى “فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون”. فقال مفروق:”وإلام تدعونا يا أخا قريش .. فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ثم رجعنا إلى روايتنا، قال:”فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون”، فقال مفروق بن عمرو:”دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك”.

وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال: “وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا”، فقال هانئ:”قد سمعت مقالتك يا أخا قريش إني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر أنه زلل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة، وإنما تكون الزلة مع العجلة، ومن ورائنا قوم نكره أن يعقد عليهم عقد، ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر”. وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال:”وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا”، فقال المثنى بن حارثة: “سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك، وإنا إنما نزلنا بين صريين اليمامة، والسمامة”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذان الصريان؟» فقال: “أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا أن لا نحدث حدثاً ولا نؤوي محدثاً وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا”. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه؟”،فقال النعمان بن شريك:”اللهم فلك ذلك”، قال:”فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم “إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا”، ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضاً على يدي أبي بكر وهو يقول:”يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية !! ما أشرفها بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم عن بعض، وبها يتحاجزون فيما بينهم”([241]).

وفي قراءة دبلوماسية لهذا الحوار الفريد يمكننا إبراز الجوانب الآتية:

  • أهمية الأرشفة ومعرفة تاريخ الفريق المحاور ومنازله ومكانته وطبائعه.
  • المستوى البلاغي والخطابي الذي تميز به فريقا الحوار.
  • الموقع الدبلوماسي الذي كان يشغله كل عضو في هذا الوفد وحسن إدراك كل سفير لاختصاصاته.
  • مستوى الشفافية والوضوح الفريد الذي كان يطبع هذه اللقاءات والحوارات.
  • التأكيد على عدم التعجل في الموقف الدبلوماسي ووجوب عبور القرار عبر الأقنية المتخصصة.
  • ضرورة التأكيد على الالتزامات الدبلوماسية السابقة، ووجوب مراعاتها وعدم نقض بعضها ببعض.
  • التأكد من دستورية الاتفاقية الدبلوماسية قبل التوقيع عليها.
  • احترام المواقف السيادية للدول، ولو أخفق الطرفان في التوقيع على المعاهدة المطلوبة.
  • الإقرار بالمشترك الإنساني واحترامه، على الرغم من التناقض الأيديولوجي.

ولا شك أن متابعة هذا الموقف النبوي المسؤول في الحوار الدبلوماسي مع عرب المناذرة فإننا سندرك المستوى الدبلوماسي الرفيع الذي جرى من خلاله التفاوض، لاسيما إذا تذكرنا أن الفريق المشارك في وفد الحيرة كان يشكل أكبر كيان عربي في ذلك التاريخ وكان المناذرة يحكمون معظم العراق والخليج الشرقي لجزيرة العرب من الكويت إلى عمان، وكانت لهم مناطق نفوذ تصل إلى قلب الأردن ودومة الجندل.

ومع أن الحوار لم يفض إلى تحول القوم عن دينهم ولكن المتابعة الدبلوماسية فيما يأتي من الأيام استمرت، وعلينا أن نتذكر كيف أصبح المثنى بن حارثة وإخوانه من زعماء المناذرة قادة الجيش الإسلامي الذي افتتح بلاد فارس وخاض معركة القادسية، وهذا الموقف يعكس نجاحاً كبيراً في الدبلوماسية النبوية التي استمرت مع القوم حتى شرح الله صدورهم للإسلام وأدركوا أن دولة الإسلام الصاعدة هي المصلحة الحقيقية لهم ولقومهم من المناذرة من العراق إلى عمان.

النتائج والتوصيات

نتائج الدراسة

فيما يلي تلخيص موجز لأهم النتائج التي قادنا إليها الدراسة:

في الفصل التمهيدي:

  • إن الكتابة في الدبلوماسية الإسلامية ليست أمراً حديثاً بل سبق إلى ذلك عدد كبير من الفقهاء والعلماء في عصور مختلفة.
  • إن عدم استخدام مصطلح الدبلوماسية لا يعني أن السلف لم يهتم بأمر الدبلوماسية في الإسلام، بل كان يعبر عنها بلفظ السير أو الحكمة أو آداب الملوك أو غير ذلك من المصطلحات المرادفة.

في الفصل الأول: الفقه الدبلوماسي في الإسلام:

  • أقر الإسلام مبدأ العلاقات الودية بين الدول، والاعتراف المتبادل، وقد قدمت الدراسة الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل الأمة.
  • إن فكرة تقسيم العالم إلى فسطاطين دار إسلام ودار حرب هي فكرة غير واقعية وتتناقض مع تأسيس النبي الكريم لعلاقات ودية مع كثير من الملوك، وهم على أديانهم، ولا بد من مناقشة هذه الفكرة والتأكيد على أن ما نقل عن السلف من هذا المعنى لا يدل على قطع العلاقات مع الدول غير المسلمة.
  • تأكيد القسمة الثلاثية للعالم على أساس دار إسلام ودار حرب ودار معاهدة، أو دار صلح وعهد، وهي قسمة واقعية ومرنة وتستجيب لبناء علاقات إيجابية بناءة.
  • التأكيد على أن أصل علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم إنما هو السلم وليس الحرب، ومناقشة الآراء التي ذهبت إلى خلاف ذلك.
  • الإشارة إلى مظان تفصيل القضايا الدبلوماسية في كتب الفقه الإسلامي، وتوزع ذلك في أبواب الجهاد والعهد والذمة والصلح في كتب الفقه.
  • التأكيد على نجاحات الرسول الكريم في الجانب الدبلوماسي، ووجوب اتباعه في كل ما علمه من حكمة وخير.
  • الإشارة إلى الزواج الدبلوماسي الذي قام به رسول الله وأثمر في حقن الدماء وقطع أسباب الحروب.
  • الإشارة إلى تطور الوعي والممارسة بالمسائل الدبلوماسية عبر تاريخ الخلافة الراشدة والأمية والعباسية والدول المتتابعة بعد ذلك.
  • بيان التطور الإيجابي والسلبي في علاقات المسلمين بالأسرة الدولية، والتأكيد على المرونة التي تمنحها النصوص الشرعية في الحكم على الدول المختلفة بحسب مواقفها من الأمة في العدل وحسن الجوار.
  • بيان مشروعية التمثيل الدبلوماسي المؤقت في الإسلام، وتأييد ذلك من الكتاب والسنة وعمل الأمة.
  • بيان حكم التمثيل الدبلوماسي الدائم في الإسلام، ووجه الاستدلال على ذلك من الكتاب والسنة وعمل الأمة، والإشارة إلى أهم السفراء الدائمين في الدولة المحمدية.
  • استنباط شروط تعيين السفراء على وفق هدي الكتاب والسنة، ومحاولة تأصيل قواعد شرعية لاختيار السفراء اهتداء بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
  • بحث موضوع مشاركة المرأة في الحياة الدبلوماسية، ورفع القيود التي تحول دون ذلك والتأكيد على أن المرأة المسلمة شاركت في العمل العام، وأن مشاركتها في العمل الدبلوماسي ممكنة، ضمن آداب الإسلام وقيمه، وتقديم نماذج من مشاركة المرأة الفاعلة في العمل العام في عصر الصحابة.
  • بحث حصانة السفراء، من النواحي الشخصية والسياسية والمالية والقضائية، وإظهار موقف الشريعة الإسلامية في كل منها، ووجوب الموازنة بين قيم العدالة والمساواة في الإسلام وبين حاجات الدبلوماسيين لتسيير أعمالهم وأداء مهامهم.
  • دراسة موضوع الملحقيات الثقافية والعسكرية والتجارية الحديثة، والبحث عن نظائرها في التاريخ الإسلامي، والتماس سبل تعزيز مشروعيتها بما تقدم من خدمة للأمة في جوانب مختلفة.
  • الإشارة إلى سفارة الحج وهي مما اختصت به الحضارة الإسلامية وبيان أهميتها من الناحية الدبلوماسية في بناء علاقات متوازنة وعادلة.

في الفصل الثاني: القيم الدبلوماسية في الإسلام:

  • تفصيل آداب السفراء في الفقه الإسلامي، وفق دلالات الكتاب والسنة وعمل الأمة، ومحاولة جمعها في إطار منهجي وموضوعي، ومن أبرز هذه الآداب:
    • الأمانة والدقة فيما يوكل إليه من مهام.
    • التزام مبادئ القدوة في السلوك الشخصي.
    • الاعتناء بالمظهر وإظهار الهيبة في غير مخيلة ولا إسراف.
    • احترام التقاليد الدبلوماسية ما لم تتعارض مع قيم الإسلام.
    • معرفة ثقافة البلد التي يرحل إليها.
    • احترام القوانين المحلية والالتزام بعادات الناس وتقاليدهم.
    • عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
    • بناء جسورمن المحبة والاحترام مع الدول المضيفة.
    • الالتزام بالتواصل مع الدولة والعمل في سياق مؤسساتها.
    • وجوب التواصل مع الوطن وعدم جواز الانقطاع عنه لفترات تطول.
    • الشفافية والمكاشفة مع مرجعيته الوطنية.
    • تعزيز ثقافة الخدمة في أداء السفارات.
    • ترقية أحوال الجالية والاعتناء بها.
    • تمثيل الدولة وليس تمثيل الأحزاب.
  • إن مبدأ المعاملة بالمثل تقره الشريعة الإسلامية وتحتكم إليه اليوم الأعراف الدبلوماسية، والأمة مأمورة أن تلتزمه في علاقاتها الدبلوماسية، ولا يحق التخلي عنه إلا في إطار مصلحة حقيقية للأمة.
  • السفير مأمور بالوفاء لوطنه والإخلاص لأرض إقامته، ولا يجوز أن تتناقض هذه المصالح في العلاقات الودية، بل هي تتكامل وتتواصل.
  • إن اختلاف العقائد لا ينبغي أن يحول دون قيام علاقات صحيحة، فالتعامل الدبلوماسي هو شأن أرضي يقوم على أساس الظاهر، أما الغيب فهو شأن سماوي ولا يعلمه إلا الله، وأمر حساب الناس موكول إلى الله سبحانه.
  • إن التعاون والتكامل مع دول العالم الإسلامي هو مصلحة حقيقية لكل بلد إسلامي، وعلى السلك الدبلوماسي أن يعمل على بناء شبكة علاقات متينة مع العالم الإسلامي تحقيقاً لمصالح وطنه، واعتماداً على الحقائق الدينية والتاريخية والجغرافية التي تعزز هذا التواصل.

في الفصل الثالث: الدبلوماسية في هدي القرآن والسنة

  • محاولة استنباط بعض الدروس القيادية التي قدمها الأنبياء الكرام في القرآن الكريم بوصفهم سفراء بين الله وبين عباده.
  • بسط القول في سفارة موسى لدى فرعون نموذجاً للسفارة الناجحة التي شرحها القرآن الكريم بين دولتين، واستنباط الإشارات والتوجيهات منها.
  • دراسة عبقرية الرسول الكريم في اختيار سفراءه وقت السلم، وبراعة هؤلاء السفراء والنجاحات التي تمكنوا من تحقيقها.
  • دراسة عبقرية الرسول الكريم في دبلوماسية فض المنازعات وتجنب الحروب بالطرق الدبلوماسية.
  • دراسة نموذج من الأداء الدبلوماسي العظيم لرسول الله من خلال تعامله مع دولة مسيحية في جزيرة العرب وهي إقليم نجران.
  • دراسة نموذج آخر من الخطاب الدبلوماسي الذي قدمه رسول الله من خلال تعامله مع وفد المناذرة من بني شيبان.

الفصل الرابع: المشترك بين الإسلام والدبلوماسية الحديثة

  • إن المنجز الدبلوماسي الذي تحقق للبشرية وأسهم في تنظيم العلاقات بين الدول وقطع أسباب الحروب هو منجز إنساني وليس منجزاً غربياً، وإن الإسلام شريك في هذا المنجز الحضاري.
  • إن الإسلام لا يؤيد مبدأ الصراع بين الحضارات وإنما يسعى للحوار بينها والتحالف والتكامل.
  • إن صدام الحضارات مشروع أمريكي متطرف ونظيره من الثقافة الشرقية قسمة العالم إلى فسطاطين، ومن مسؤولية الدبلوماسية الإسلامية تصحيح صورة الإسلام في التعاون البناء مع كل أمم الأرض.
  • إن علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم يجب أن تتأسس على التوازن والاعتدال والمماثلة وليس على التعالي ولا على التبعية والاتكال.
  • الأمة الإسلامية وشعوب الأرض جيران على كوكب واحد، والأصل في العلاقة هو السلم والتعاون، وهذا لا يلغي حق الأمة في الدفاع عن نفسها إذا تعرضت للأخطار من الخارج.
  • تأكيد الاتفاق في المبادئ والأهداف بين الفقه الإسلامي المستنير وما ورد في ديباجة اتفاقية فيينا 1961 للعلاقات الدبلوماسية بين الدول، ووجوب التعامل بإيجابية مع التفاصيل الإجرائية لهذه الاتفاقات الدولية.

التوصيات

توصي هذه الدراسة بالأمور التالية:

  • دعوة المعاهد الدبلوماسية ومؤسسات إعداد الدبلوماسيين إلى إظهار اهتمام أكبر بالقيم الإسلامية في الدبلوماسية.
  • إدخال مادة الدبلوماسية الإسلامية في مناهج العلوم السياسية والدبلوماسية في الجامعات والمعاهد العربية.
  • ضرورة قيام دورات تأهيلية خاصة للسفراء والملحقين الدبلوماسيين لتأهيلهم وإعدادهم، وتزويدهم بالمعرفة الإسلامية في الجانب الدبلوماسي.
  • ضرورة تعريف السلك الدبلوماسي عموماً بالحقائق الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية التي تربط بين دول العالم الإسلامي والعمل على تعزيز هذه العلاقات.
  • تخصيص برامج خاصة لإعداد الدبلوماسيين المبتعثين إلى دول إسلامية، تشتمل على معرفة مذاهب هذه البلدان، وتاريخها الإسلامي وروابطها التاريخية بالبلد الموفد.
  • التأكيد على دور البعثات الدبلوماسية في تحقيق الترابط والتواصل مع الجاليات الإسلامية في البلاد التي يوفدون إليها سواء كانت الحكومات إسلامية أم لا.
  • دعوة السفراء والسلك الدبلوماسي إلى تحقيق إنتاج ثقافي يتصل بالعلاقات بين بلد الإيفاد وبلد الاستقبال واعتبار ذلك شرطاً للترقيات والتكريم.
  • تعزيز دور المرأة في العمل الدبلوماسي، وتوفير الظروف الملائمة لمشاركتها وإيجاد الفرص اللائقة بها، والاهتمام بالدبلوماسيات المتميزات.
  • إحياء الدور الدبلوماسي لسفارة الحج، ومنح قائد بعثات الحج الحكومية الصفة الدبلوماسية، وتوفير الشروط القانونية والمادية لقيامه بالدور الدبلوماسي التاريخي الذي كانت تعنيه سفارة الحج.
  • تعزيز دور الملحق الثقافي، إلى جانب مسؤولياته الثقافية التقليدية، وتوفير الوسائل والإمكانات اللازمة ليقوم بمسؤوليته في الدفاع الدبلوماسي عن سمعة الأمة الإسلامية ومواجهة ظاهرة الإسلاموفوبيا التي تنتشر اليوم في العالم الغربي ضد الإسلام، دون أن تتحول مهمته إلى رسالة تبشيرية.
  • دعوة الهيئات الاجتماعية إلى تكريم البعثات الدبلوماسية التي تقوم بتحقيق خدمات حقيقية للجالية، إضافة إلى التكريم الدبلوماسي الذي تناله البعثات من السلك السياسي.
  • ضرورة الاعتذار صراحة عن الصنفين المحرمين: وهي تداول الخمرة ولحم الخنزير في الموائد الدبلوماسية، واعتبار ذلك من خصائص هذه الأمة، وعدم السماح بالمجاملات في هذا، والتأكيد أن المحرم محصور في هذا الاستثناء.
  • الدعوة لإصدار وثيقة عالمية لاحترام المقدس الديني في الشأن الدبلوماسي، ومنع إهانة الرموز الدينية المحترمة في أي دين.
  • تدعو هذه الدراسة المعاهد والكليات الدبلوماسية في العالم الإسلامي لإعداد وثيقة الدبلوماسية الإسلامية العالمية وإقرارها في منظمة التعاون الإسلامي، ومن ثم اعتمادها في سائر المنظمات ذات الشأن.

المصادر والمراجع

فيما يلي بيان المراجع التي تم اعتمادها في الكتاب وبيان الطبعة التي تمت الإشارة إلى الصفحات منها، وتاريخ الطبع (إن ذكره الناشر) ومكانه والدار الناشرة.

وقمنا بالالتزام بذكر الكتاب أولاً ثم المؤلف اسمه أولاً ثم نسبه، ثم تاريخ وفاته، واكتفينا في المعاصرين بالإشارة إلى أنه معاصر، ولو أنه توفي قبل سنين.

وقد اكتفينا في حواشي الكتاب بالمعلومات الخمسة الضرورية عن كل إحالة وهي: الكتاب واسم الكاتب وشهرته، والجزء والصفحة، ثم توسعنا في الجدول بذكر الوفاة وبقية الألقاب وذكر الناشر والمطبعة وتاريخ النشر.

ولم نقم بالتمييز بين المصادر والمراجع، لقناعتنا أن معظم هذه الكتب يمكن تصنيفها تارة بأنها مصدر وتارة بأنها مرجع، حيث تشتمل على الأصالة والمباشرة في بعض نصوصها فتكون مصادر، كما تشتمل على النقل والإحالة في نصوص أخرى فتكون مراجع، وسيكون التمييز في هذه الحالة تشويشاً على الباحث.

وقد صدرنا القرآن الكريم والكتب التسعة لأئمة الرواية في السنة، نظراً لكثرة الرجوع إليهم خلال البحث، ثم تم تصنيف الباقي بحسب وروده في الكتاب.

وقد تت الإشارة إلى الكتب المطبوعة وزمان الطيع إن أشارت النسخة المطبوعة إلى ذلك، وفي موضع واحد قمنا بالإحالة إلى موقع الكتروني وهو مقال: إزالة الغواشي عن أخبار النجاشي، للشيخ ابراهيم المختار مفتي أرتريا، فقد اكتفينا بالعزو إليه استناداً إلى موقعه الرسمي ولم نجد نسخة ورقية مطبوعة تؤيد ذلك، وقد اكتفينا به لضرورته وفرادته.

م اسم المرجع المؤلف الدار الناشرة تاريخ النشر
1 القرآن الكريم
2 الجامع الصحيح محمد بن اسماعيل البخاري 194ه دار الفكر – بيروت 1981
3 الجامع الصحيح مسلم بن الحجاج القشيري  261 ه دار طيبة – الرياض 2006
4 سنن الترمذي محمد بن عيسى الترمذي279ه دار الكتب العلمية – بيروت 1988
5 سنن النسائي أحمد بن شعيب النسائي 303ه دار الكتب العلمية 0 بيروت 1991
6 سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني 275 ه المكتبة العصرية – صيدا 1988
7  سنن ابن ماجه محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه 273 ه دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 1977
8 موطأ الإمام مالك مالك بن أنس الأصبحي 179ه دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 1985
9 مسند أحمد بن حنبل أحمد بن عبد الله بن حنبل 224 ه طبع دار الرسالة – بيروت 2001
10 مسند الدارمي محمد عبد الله بن بهرام الدارمي 255 ه دار المغني 2000
م اسم المرجع المؤلف الدار الناشرة تاريخ النشر
11 موسوعة الدبلوماسية د.نبيل فتح الباب – معاصر دار الشروق – دبي 2006
12 الموسوعة العربية الكبرى هيئة الموسوعة العربية الكبرى رئاسة الجمهورية العربية السورية تأسست 1981
13 التراتيب الإدارية في نظام الحكومة النبوية عبد الحي الكتاني 1380ه دار البشائر الاسلامية – بيروت 1988
14 المغني في فقه الامام احمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي 620 ه دار الفكر – بيروت 1985
15 نواسخ القرآن أبو الفرج ابن الجوزي  597 ه الجامعة الاسلامية في المدينة المنورة 1988
16 الناسخ والمنسوخ هبة الله المقري 410 ه المكتب الاسلامي – بيروت 1984
17 الإتقان في علوم القرآن جلال الدين السيوطي 911 ه مجمع الملك فهد لطباعة المصحف بالمدينة 2005
18 الحاوي في الفقه الشافعي أبو الحسن الماوردي  450 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1994
19 الفقه الإسلامي وأدلته د.وهبة الزحيلي – معاصر دار الفكر – دمشق 1994
20 نهاية الأرب في فنون الأدب النويري أحمد بن عبد الوهاب 733 ه دار الكتب العلمية – بيروت 2004
21 السيرة النبوية – سيرة ابن هشام عبد الملك بن هشام – 218 ه دار الكتاب العربي – بيروت 1990
22 الوافي بالوفيات خليل بن أيبك الصفدي – 764 ه دار إحياء التراث العربي 2000
23 الدبلوماسية تاريخها ومؤسساتها د. سعيد بو عباه – معاصر دار الشيماء – فلسطين 2009
24 مجلة الجامعة الإسلامية المجلد 19 المدينة المنورة 2011
25 مجلة العلوم الاقتصادية والاجتماعية جامعة دمشق دمشق 2008
26 تاريخ الأمم والملوك ابن جرير الطبري  310 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1987
27 المواعظ والاعتبار أحمد بن علي المقريزي 845 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1998
28 قصة الحضارة ول ديورانت  ت 1981 ميلادية مؤسسة الرسالة – بيروت 1988
29 أبجد العلوم صديق حسن خان القنوجي 1307 ه دار ابن حزم – بيروت 1988
30 الدبلوماسية في التاريخ الإسلامي عباس حلمي – معاصر مقال في مجلة منار الإسلام الإماراتية – العدد 2 لعام 1979 2012
31 تطور الدبلوماسية الإسلامية عبر العصور محمد بوبوش، جامعة محمد الخامس – معاصر دار الفكر – دمشق 2010
32 نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب أحمد بن محمد المقري التلمساني –  758 ه دار صادر – بيروت 1997
33 تفسبر القرآن العظيم اسماعيل بن عمر بن كثير  774ه دار المعرفة – بيروت 1992
34 السيرة النبوية لابن كثير اسماعيل بن عمر بن كثير 774ه دار المعرفة – بيروت 1976
35 مغني المحتاج محمد بن أحمد الشربيني الخطيب 977 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1994
36 مواهب الجليل لشرح مختصر خليل شمس الدين محمد بن محمد الرعيني المغربي  954 ه دار عالم الكتب – بيروت 2003
37 شرح منح الجليل محمد عليش 1299 ه دار الفكر –بيروت 1989
38 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق عثمان بن علي الزيلعي 743 ه المطبعة الكبرى الأميرية بولاق – القاهرة 1898
39 البحر الزخار – مسند البزار أبو بكر بن العتكي البزار 292 ه دار الكتب العلمية – بيروت
40 المقنع موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي 620 ه طبع على نفقة خادم الحرمين 1993
41 الشرح الكبير شمس الدين عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي 682 ه  ويسمى أيضاً الشافي في شرح المقنع طبع على نفقة خادم الحرمين 1993
42 السنن الكبرى للبيهقي أحمد بن الحسين البيهقي 458 ه دار الكتب العلمية – بيروت 2003
43 المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية ابن حجر العسقلاني 773 ه دار الغيث – السعودية 1998
44 السياسة الشرعية أحمد بن عبد الحليم بن تيمية 728 ه دار المعرفة – بيروت
45 الجامع لأحكام القرآن محمد بن أحمد القرطبي 671 ه دار الرسالة  – بيروت 2006
46 اتحاف المهرة الخيرة بزوائد المسانيد العشرة أحمد بن أبي بكر البوصيري 839 ه نسخة على المكتبة الشاملة من موقع المشكاة
47 تحفة الأحوذي بشرح الترمذي محمد عبد الرحمن المباركفوري 1353 ه دار الكتب العلمية – بيروت
48 مسند الإمام الشافعي – ترتيب سنجر الناصري محمد بن إسماعيل الشاقعي 204 ه دار البشائر الإسلامية – بيروت 2005
49 عون المعبود في شرح سنن أبي داود محمد شمس الحق العظيم آبادي 1329 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1995
50 المنتقى شرح الباجي سليمان بن خلف الباجي الأندلسي 474 ه دار الكتب العلمية –  بيروت 1999
51 شرح العلل للترمذي ابن رجب الحنبلي 795 ه دار الملاح – دمشق 1988
52 فتح الباري في شرح البخاري أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 773 ه دار الفكر – بيروت 1988
53 المدونة الكبرى الإمام مالك بن أنس 179 ه               تحقيق زكريا عميرات دار الكتب العلمية – بيروت
54 الإصابة في تمييز الصحابة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 733 ه دار الكتب العلمية – بيروت
55 الاستيعاب في معرفة الأصحاب يوسف بن عبد البر القرطبي 463 ه دار الجيل – بيروت 1992
56 المدخل إلى القانون الدولي العام وقت السلم د.محمد عزيز شكري – معاصر دار الفكر –دمشق 1983
57 القانون الدولي العام علي صادق أبو هيف – معاصر منشأة المعارف –الإسكندرية 1995
58 نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار محمد بن علي الشوكاني 1255 ه مكتبة الدعوة الإسلامية –مصر
59 الخراج يعقوب بن ابراهيم أبو يوسف 182 ه المكتبة السلفية – القاهرة 1964
60 روضة الطالبين يحيى بن شرف النووي 676 ه دار الكتب العلمية – بيروت
61 أخبار القضاة محمد بن خلف الضبي الملقب وكيع 197 ه دار المكتبة التجارية الكبرى – القاهرة 1947
62 المبسوط شمس الأئمة السرخسي 286 ه دار المعرفة – بيروت
63 المهذب إبراهيم بن علي الشيرازي 476 ه دار الكتب العلمية – بيروت
64 حاشية العدوي علي الصعيدي العدوي 1189 ه دار  الفكر –بيروت 1992
65 شعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي 458 ه دار الكتب العلمية بيروت 1990
66 أسد الغابة علي بن محمد الجزري بن الأثير 637 ه دار إحياء التراث العربي – بيروت 1996
67 سيرة رسول الله محمد حبش – معاصر دار أفنان 1992
68 أخلاق الملوك عمرو بن بحر الجاحظ  255 ه المطبعة الأميرية – القاهرة

تحقيق أحمد زكي باشا

1914
69 المختصر الكبير في سيرة الرسول عبد العزيز بن محمد الكناني 767 ه دار البشير – الأردن 1993
70 ألفية العراقي في الحديث عبد الرحيم بن الحسين العراقي 806 ه عن ملتقى أهل الحديث
71 معجم الطبراني سليمان بن أحمد الطبراني 360 ه مكتبة العلوم والحكم – الموصل 1983
72 مجمع الزوائد علي بن أبي بكر الهيتمي 973 ه دار الفكر –بيروت 1992
73 السيرة النبوية محمد بن محمد بن شهبة – معاصر دار القلم – دمشق 1988
74 السياسة الحسين بن علي الوزير 840 ه طبع مؤسسة شباب الجامعة –الإسكندرية
75 كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار تقي الدين الحصني 829 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1988
76 دلائل النبوة أحمد بن الحسين البيهقي 458 ه دار الكتب العلمية – بيروت 1988
77 أحكام القرآن القاضي ابن العربي 543 ه دار الكتب العلمية – بيروت 2003
78 درء تعارض العقل والنقل ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم 728 ه دار الكنوز الأدبية  الرياض 1973

وإذ نضع القلم فإننا نأمل أن نكون قد قدمنا مفيداً وجديداً للمكتبة العربية ولأبنائنا من الصاعدين في السلك الدبلوماسي، نرجو الله أن يكتب لهم التوفيق في سعيهم، في تأمين دبلوماسية ناجحة وحكيمة، تكون رصيداً للوطن وأبنائه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

[1]  انظرموسوعة الدبلوماسية، د. عبد الوهاب الكيالي، الجزء الثاني، ص 115

[2]  الموسوعة العربية، دراسة للدكتور عزيز شكري، العلوم القانونية والاقتصادية، المجلد التاسع، ص196

[3] المصدر نفسه ص 195

[4] انظر كتاب التراتيب الإدارية في الدولة النبوية، الشيخ عبد الحي الكتاني، المقدمة والفهرس

[5] انظر مثلاً كتاب المغني لابن قدامة المقدسي ج9، ص 210 وفيه ان الجهاد قتال الناس لإدخالهم في الدين الحق وأمر بغزو أهل الكتاب والمجوس بدون إنذار أو بلاغ.

[6]  ﻤﺠﻠﺔ ﺍﻟﺠﺎﻤﻌﺔ ﺍﻹﺴﻼﻤﻴﺔ – المدينة المنورة، ﺍﻟﻤﺠﻠﺩ19، ﺍﻟﻌﺩﺩ ﺍﻟﺜﺎﻨﻲ، ﺹ379– ﺹ417 ﻴﻭﻨﻴﻭ 2011،  بحث ﺩ. ﻤﺤﻤﺩ ﻋﻠﻲ ﺴﻠﻴﻡ ﺍﻟﻬﻭﺍﺭﻱ

[7] سورة الأنفال 61

[8] سورة البقرة  208

[9]   سورة النساء 94

[10] سورة العنكبوت  46

[11] سورة النساء 90

[12] نواسخ القرآن لابي الفرج بن الجوزي ج1 ص 173 ، وانظر كذلك الناسخ والمنسوخ لهبة الله المقري ص 99

[13]  سورة التوبة 36

[14] انظر الاتقان في علوم القرآن  للسيوطي ج 1 ص256

[15] المصدر نفسه

[16] سورة الجاثية 14

[17] سورة البقرة 256

[18] سورة الكافرون 4

[19] سورة الحج 39

[20] سورة البقرة 190

[21]  سورة البقرة 192

[22]سورة الممتحنة 8

[23]  انظر الحاوي في الفقه الشافعي للماوردي ، ج 14، ص 267

[24] الانفال 61

[25] الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي  ج 8، ص 448

[26] نهاية الأرب، أحمد بن عبد الوهاب النويري  ج2، ص 168

[27] بحث الدكتور ابراهيم ابو جريبان نشرته مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والسياسية المحكمة، المجلد 24، العدد الاول لعام 2008، ص 616

[28] السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام،   ج2، ص 646، باب زواجه بميمونة، وكذلك باب زواجه برملة وجويرية

[29] الدبلوماسية، للدكتور سعيد ابو عباه، ص 31

[30] الدبلوماسية، للدكتور سعيد ابو عباه، ص 31

[31] تاريخ الأمم والملوك ابن جرير الطبري، ج 3، ص 176

[32] المواعظ والاعتبار، المقريزي، ج 1، ص 97

[33]الوافي بالوفيات، للصفدي، ج 5، ص 323

[34] قصة الحضارة، ول ديورانت، ج 22، ص 458

[35]   أبجد العلوم، صديق حسن خان القنوجي، ج 2، ص 252

[36]  الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي ج 4، ص 336

[37]  قصة الحضارة، ول ديورانت، ج 23، ص 463

[38] الدبلوماسية  للدكتور سعيد ابو عباه  ص188

[39] مقال الدكتور عباس حلمي، مجلة منار الإسلام الإماراتية عدد 4 لعام 1979 ومن المؤكد ان الكاتب غلط في اسم الامبراطور البيزنطي فالإمبراطور المعاصر للواثق هو الامبراطور مايكل الثالث، أما الإمبراطور دقلديانوس فقد توفي عام 305 ميلادية أي قبل الواثق بأكثر من خمسة قرون، ولا شك أنه التبس عليه بسبب أن دقلديانوس هو من ظهر في زمانه الفتية من أصحاب الكهف.

[40] تطور الدبلوماسية الإسلامية عبر العصور،  للكاتب محمد بوبوش،  ص 125 – دار الفكر

[41] نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب، لأحمد بن محمد المقري التلمساني ج1، ص 346

[42] سورة الحجرات  13

[43]  سورة المائدة  48

[44] سورة الحجرات 13

[45] سورة المطففين 26

[46] سورة المائدة 3

[47] سورة الفتح 29

[48] سورة الحشر 9

[49] سورة الحجرات 10

[50] سورة الحجرات 13

[51] سورة العنكبوت 46

[52] سورة البقرة  194

[53] سورة النساء 101

[54] سورة التوبة  52

[55] سورة الأنفال  60

[56] سورة الحج  40

[57] سورة البقرة 190

[58]  سورة التوبة 6

[59] ﺘﻔﺴﻴﺭ ﺍﻟﻘﺭﺍﻥ ﺍﻟﻌﻅﻴﻡ، ﻋﻤﺎﺩ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺃﺒﻰ ﺍﻟﻔﺩﺍﺀ ﺇﺴﻤﺎﻋﻴل ﺍﺒﻥ ﻜﺜﻴﺭ،  ﺝ2، ﺹ 337

[60]  سورة المائدة 32

[61]  سورة البقرة 206

[62] سورة النساء 114

[63] سورة الإسراء 7

[64]  سورة البقرة 207

[65] السيرة النبوية، لابن كثير، ج3، ص501

[66] مسند الامام أحمد، ج8، ص 346

[67]   سورة الفتح 10

[68]– مغني المحتاج، ﺍﻟﺸﺭﺒﻴﻨﻲ ﺍﻟﺨﻁﻴﺏ، ﺝ4،ﺹ 238، وانظر مواهب الجليل، ﻤﺤﻤﺩ ﺒﻥ ﻋﺒـﺩ ﺍﻟـﺭﺤﻤﻥ ﺍﻟﺤﻁﺎﺏ ﺝ3    ﺹ386

[69]  سورة التوبة 3

[70]  ﺸﺭﺡ ﻤﻨﺢ ﺍﻟﺠﻠﻴل، ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻤﺤﻤﺩ ﻋﻠﻴﺵ، ﺝ1،ﺹ766

[71]  ﺘﺒﻴﻴﻥ ﺍﻟﺤﻘﺎﺌﻕ ﺸﺭﺡ ﻜﻨﺯ ﺍﻟﺩﻗﺎئق، ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺒﻥ ﻋﻠﻲ الزيلعي، ﺝ3،ﺹ268،  ﻭﺍنظر البحر الزخار لأحمد بن يحيى ﺒﻥ ﺍﻟﻤﺭﺘﻀﻲ، ﺝ6،ﺹ 454.

[72] المقنع، لابن قدامة المقدسي، موفق الدين عبد الله بن أحمد  ﺝ1 ﺹ 518

[73] الشرح الكبير لاﺒﻥ ﻗﺩﺍﻤﺔ ﺍﻟﻤﻘﺩﺴﻲ، ﺸﻤﺱ ﺍﻟﺩﻴﻥ ﺃﺒﻭ ﺍﻟﻔﺭﺝ ﻋﺒﺩ ﺍﻟﺭﺤﻤﻥ بن أبي عمر، ﺝ10،ﺹ563

[74] الأمن الدبلوماسي في الإسلام، مجلة جامعة دمشق، مجلة العلوم الاقتصادية والقانونية المجلد 24 سنة 2008 بحث الدكتور محمد ابراهيم جريبان،

[75] سورة يوسف 55

[76] سورة القصص 26

[77] أخرجه البيهقي في سننه، ج10، ص 118، وفي رواية: من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله

[78]  أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر وهو عند البخاري، ج 3، ص 428، وعند مسلم، ج 6، ص 11

[79]  صحيح مسلم، ج6، ص 7

[80] صحيح البخاري، ج 8 ص 127

[81]  سورة المزمل  29

[82] سورة الزمر 29

[83] رواه البيهقي في السنن، ج10، ص 118

[84]  صحيح البخاري، ج1، ص 304

[85]  صحيح البخاري، ج 5، ص 168

[86] أخرجه البيهقي في سننه، ج10، ص 118، وفي رواية: من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله

[87] سورة الأنفال 27

[88]  الدبلوماسية، للدكتور بو عباه، ص 31

[89]  أورده ابن حجر العسقلاني  في المطالب العالية، وفي سنده مقال، ج 3، ص 8

[90]  مسند أحمد بن حنبل، تحقيق الأرناؤوط ج1 ص215

[91] أخرجه البخاري في الصحيح، ج1، ص22

[92] أخرجه مسلم في الصحيح، ج3، ص 1457

[93] سورة يوسف 54

[94] سورة التكوير21

[95] سورة الصف 3

[96] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لابن تيمية، ص9

([97]) الجامع لأحكام القرآن،  للإمام محمد بن أحمد القرطبي، ج14، تفسير سورة الأحزاب

([98]) أخرجه مسلم في الصحيح ج5 ص 199

([99]) أخرجه البخاري في الصحيح  ج 4 ص 33،  .

([100]) أخرجه البخاري في الصحيح، وعنون له:  باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال، ج4 ص34.

[101] الكامل في التاريخ، لابن الأثير الجزري، ج13، ص19

[102] اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة للحافظ البوصيري، ج 5، ص191

([103])  تحفة الأحوذي، شرح الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري   الحديث رقم 2303

وانظر كذلك المغني،لابن قدامة، كتاب القضاء ج10 ص 36، وفيه أن ابن جرير أجاز للمرأة أن تكون قاضية إذ يجوز أن تكون مفتية.

[104] سورة المائدة 6

[105] سورة البقرة 186

([106]) رواه البخاري في الصحيح، وعنون له: باب المرأة تحج بغير محرم، ج2 ص43 عن أبي سعيد الخدري، ورواه كذلك مسلم والترمذي وله لفظ: مسيرة يوم وليلة، وفي رواية لأبي داود: لا تسافر بريداً، وهو نحو عشرين ميلاً.

([107]) مغني المحتاج للخطيب الشربيني، ج5 ص402

([108]) حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب ج 8 ص250

([109]) كمال المعلم شرح صحيح مسلم للقاضي عياض ج4 ص232

([110]) المنتقى شرح الموطأ للباجي المالكي وقد عزاه إلى الإمام الأوزاعي، ج4 ص434

([111]) تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، للمباركفوري ج7 ص344

([112]) شرح صحيح مسلم للنووي، ج 9 ص104

([113]) المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس برواية عبد الرحمن الأصبحي، جـ،1 ص450

([114]) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني جـ4، ص446

([115]) رواه البخاري في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ج3 ص 1316

[116]  رواه الامام مالك، انظر المنتقى، شرح الموطأ، ج4، ص 442، كما رواه النسائي وأحمد

[117]  رواه البخاري ومسلم، البخاري ج7 ص49   ومسلم ج6 ص29

[118]  الإصابة في تمييز الصحابة، ج 8، ص 113، وكذلك الاستيعاب في معرفة الاصحاب، ج2، ص 119

[119]  رواه أبو داود في سننه  ج2، ص 475

[120] سورة النور 31

[121] سورة الأحزاب 59

[122]  تفسير الجامع لأحكام القرآن القرطبي، سورة النور آية 31

[123] صحيح البخاري، ج2، ص 551

[124] ﺍﻟﻤﺩﺨل ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻭﻗﺕ ﺍﻟﺴﻠﻡ، للدكتور عزيز شكري ﺹ342، وعلي صادق أبو هيف،ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻥ ﺍﻟﺩﻭﻟﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، ﺹ496.

[125] سورة الإسراء 33

[126] سورة المائدة 32

[127] صحيح البخاري، ج4 ص99

[128] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ج5، ص 36

 [129]  ﺃﺨﺭﺠﻪ ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺃﺤﻤﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﻨﺩ، ﺝ1، ﺹ396

[130]   سيرة ابن هشام، الجزء الثاني، ص 373

[131]  نيل الأوطار للإمام الشوكاني ج8 ص 30

[132] الخراج، لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم، ص 188

[133] روضة الطالبين، للرافعي، ج7، ص 481

[134]  سورة النساء 105-112

[135] أخبار القضاة  للقاضي وكيع بن الجراح ج1 ص334

[136]   الأمن الدبلوماسي في الإسلام، مجلة جامعة دمشق، عدد 24، عام 2008  بحث للدكتور محمد ابراهيم جريبان.

[137][ سورة التوبة، الآية 6.

[138]  تطور الدبلوماسية الإسلامية عبر العصور،  للكاتب محمد بوبوش،  ص 148 – دار الفكر

[139]  المبسوط، لشمس الأئمة السرخسي 9، ص55

[140] انظر ﺍﻟﺸﻴﺭﺍﺯﻱ، ﺃﺒﻭ ﺍﺴﺤﻕ ﺇﺒﺭﺍﻫﻴﻡ، ﺍﻟﻤﻬﺫﺏ ﻓﻲ ﻓﻘﻪ ﺍﻹﻤﺎﻡ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ، ﺝ2، ﺹ263، وكذلك حاشية العدوي على كتاب أبي زيد القيرواني، ج2، ص 256

[141]  الخطيب الشربيني، مغني المحتاج ج 4 ص 175

[142] سورة البقرة 188

[143] رواه الامام مالك في الموطأ، ج 3، ص 276

[144] الخراج، ﺃﺒﻭ ﻴﻭﺴﻑ، ﻴﻌﻘﻭﺏ ﺒﻥ ﺇﺒﺭﺍﻫﻴﻡ،  ﺹ188

[145] المغني، لابن قدامة المقدسي ﺝ 8 ﺹ 522

[146]  الخراج ، أبو يوسف، يعقوب بن ابراهيم، ص 133

[147]   المبسوط، لشمس الأئمة السرخسي، ج 2، ص 199

[148]   سنن البيهقي، كتاب الجزية،  باب ما يؤخذ من الذمي اذا اتجر  في غير بلده ج 9 ص210

[149]   الأمن الدبلوماسي في الإسلام، مجلة جامعة دمشق مجلد 24 عام 2008 بحث د.محمد ابراهيم جريبان،

[150] شعب الإيمان، للبيهقي، ج 11، ص 381

[151]  أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، ج3، ص 159

[152] سورة قريش

[153]  سورة الجاثية 13

[154] سورة المائدة 48

[155]سورة الحجرات 13

[156] سورة المائدة 4

[157] سورة النحل 91

[158] سورة التوبة 61

[159] الدبلوماسية في التاريخ الإسلامي، مجلة منار الإسلام الإماراتية عدد7 ص 49 بحث للدكتور عباس حلمي وقد ذكر عباس  أن الواثق ارسل رسوله إلى دقلديانوس وهو خطأ ظاهر إذ عاش دقلديانوس في المائة الثالثة للمسيح أي قبل الإسلام بنحو أربعمائة عام، وربما التبس عليه لأن دقلديانوس هو من عاش في زمانه أصحاب الكهف، وقد سبقت الإشارة لذلك في الفصل الخاص بتاريخ الدبلوماسية في الإسلام.

[160]  سيرة رسول الله، د.محمد حبش، طبع دار أفنان، دمشق، 1994

[161]    مجلة حراء – استامبول –  العدد 2 شهر يناير 2006 مقال للدكتور الصفصافي أحمد القطوري جامعة عين شمس

[162]  أخلاق الملوك، للجاحظ، ص 1 – 25

[163]  رواه الإمام أحمد في مسنده، ج 6، ص 8  كما رواه الترمذي والنسائي، والمعنى لا أحبس البرد أي لا أحبس البريد، بل يجب أن أيسره ليصل إلى غايته،

[164]  المختصر الكبير في سيرة الرسول، عز الدين بن جماعة الكتاني، ج1، ص 82

[165] سورة الأعراف 26

[166]قال العراقي في ألفيته في شمائل النبي الكريم:

الطِّيبُ والنسَاءُ حُبِّبَا لَهُ * ويَكرَهُ الريحَ الكَريهَ كُلَّهُ

وطِيبُهُ غَالِيَةٌ ومِسْكُ * والمِسكُ وحدَهُ كذاكَ السُّكُّ

بَخُورُهُ الكافورُ والعُودُ النَّدي * وعَينُهُ يَكْحُلُهَا بالإثمِدِ

الفية العراقي، ص 20

[167] صحيح مسلم، ج1، ص66

[168] سورة النحل 91

[169] سورة الأنعام  119

[170] سورة الأنعام  145

[171] سورة المائدة  90

[172] سورة الأنبياء 108

[173] سورة فصلت 37

[174] رواه الترمذي في سننه، ج3، ص5، كما رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد

[175]  إزالة الغواشي في أخبار النجاشي ، للشيخ ابراهيم المختار مفتي ارتيريا نشرته مجلة الوحدة 8/مايو /1965 وقد نقلناه من موقعه الرسمي.

[176]رواه البخاري، ج1، ص323، كما رواه مسلم والموطأ والنسائي وأحمد

[177]  رواه الطبراني من طريق شريك بن عبد الله عن عروة عن عائشة، وفي سنده مقال، ولكن يقويه ما أوردناه  قبله في الصحيح بهذا المعنى، انظر الطبراني في الأوسط، ج1، ص 167، وانظر الهيتمي في مجمع الزوائد، ج4، ص 289

[178]  سورة المائدة 48

[179] سورة المائدة 48

[180] سورة الأنعام 52

[181]  سورة المائدة 105

[182] السيرة النبوية، لابي شهبة، ج2، ص164

[183]   صحيح مسلم، ج4، ص 189

[184]   البداية والنهاية لابن كثير  ج7 ص62

[185]  كتاب السياسة، للحسين بن علي الوزير الملقب بابن الوزير، طبع مؤسسة شباب الجامعة، الاسكندرية

[186] رواه الامام احمد في مسنده، ج5، ص424

[187] صجيج البخاري، ج9 ص28

[188] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للهيتمي، ج11، ص 429

[189] سورة البقرة 190

[190] سورة البقرة 194

[191]  صحيح مسلم، ج8، ص8، ورواه كذلك الامام احمد بن حنبل في مسنده

[192] انظر مثلاً كتاب كفاية الأخيار في الفقه الشافعي  ج2 ص218

[193]   سورة المائدة 82

[194]  دلائل النبوة، للبيهقي، ج2، ص83

[195]   سورة آل عمران 199

[196]  أحكام القرآن، لابن العربي، ج1، ص 60

[197] سورة البقرة 272

[198] سورة المائدة  105

[199] سورة الزمر 46

[200] سورة يونس  99

[201]سورة الأنعام 108

[202]  وقد تعاقب على رئاسة منطمة المؤتمر الإسلامي كل من:

  • عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود – مؤسس المملكة العربية السعودية.
  • فيصل بن عبد العزيز آل سعود – الملك السعودي الثالث.
  • إدريس السنوسي – ملك المملكـة الليبيـة سابقاً.
  • محمد علي جناح – مؤسس دولة باكستان.
  • شكري القوتلي – الرئيس السوري الأسبـق.
  • عدن عبد الله عصمان دار – رئيس جمهورية الصومال الأسبق.
  • أمين الحسيني- المفتي الأكبر لدولة فلسطين سابقاً.
  • معروف الدواليبي- رئيس وزراء سوريا الأسبق.
  • عبد الله بن عمر نصيف- نائب رئيس مجلس الشورى السعودي سابقاً.

[203]  الموقع الرسمي لمنظمة التعاون الإسلامي على شبكة الانترنت    http://www.oic-oci.org/

[204]  سورة النجم 4

[205] سورة الكهف 109

[206] سورة يونس  15

 [207]  درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ج 5، ص 203

[208] سورة ابراهيم  14

[209] سورة النساء 64

[210] سورة فاطر 24

[211] سورة الرعد 38

[212] سورة الفرقان 20

[213] سورة الإسراء 95

[214] سورة الإسراء 54

[215] سورة الغاشية  22

[216] سورة الشورى 48

[217] سورة يس 14

[218]سورة الحديد 25

[219] سورة طه 44

[220] سورة طه  29

[221] سورة القصص 34

[222] سورة القصص 33

[223] سورة الشعراء 22

[224] سيرة ابن هشام ج1 ص 165

[225]   معرفة الصحابة لأبي نعيم ج2 ص 26

[226]   زاد المعاد ج3 ص600

[227]  إزالة الغواشي عن أخبار النجاشي ، ابراهيم المختار مفتي أرتريا، وقد نقلناه من موقعه الرسمي.

[228] والمصدر الذي نعتمده فيما نرويه من السير هو سيرة ابن هشام، في فصل الحديبية، وكذلك السيرة النبوية لابن كثير، ولا يخرج الخبر في كل ما تقرؤه في هذا الفصل عن هاتين السيرتين..

[229]  تفسير المراغي ج 9 سورة الفتح الآية 1

[230]   صحيح مسلم ج7 ص64

[231] رواه الطبراني عن أنس وأبي هريرة ، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة 4/372 رقم 1900

[232] سورة الإسراء 34

[233] سورة الأنفال 61

[234] سورة النساء 86

[235] سورة الحجرات 13

[236] سورة التوبة 7

[237] سورة النساء  90

[238] سورة البقرة  208

[239]      تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تفسير سورة آل عمران، آية المباهلة 61، ودلائل النبوة، للبيهقي، ج5، ص 482

 [240]  دلائل النبوة، للبيهقي، ج 5، ص 485

[241] دلائل النبوة للبيهقي، ج2، ص 297

Related posts

الدكتور محمد حبش- أدب الاختلاف عند الدعاة إلى الله 7/7/2006

drmohammad

التيارات الإسلامية ومسائل المواطنة والدولة والأمة… سؤال الأمة

drmohammad

المحكمة الأوروبية- حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة

drmohammad

Leave a Comment