الطب النبوي
بين المعرفة والعجائب
دعوة إلى التبصر بحكمة الهدي النبوي
أنجز الإنسان تقدماً هائلاً في الحقل الطبي والصحي، وقد نجحت الجهود العلمية والتجريبية في رفع معدلات الأعمار في الدول المتحضرة، وهو تطور حضاري يقيني، ولا ينبغي أن يشكل على المؤمن حين يتحدث أن الأعمار بيد الله وأن لا أحد يطيل أو يقصر في عمر ابن آدم، فالتداوي والطب أيضاً أمر إلهي، وقد قال رسول الله يا عباد الله تداووا فإن الله لك ينزل داء إلا وأنزل معه دواء إلا الهرم، وذلك يدرك المؤمن أن هذا التطور هو أيضاً سنة من سنن الله تعالى وليس عدواناً عليها ولون من قدر الله الذي كتبه وفق سننه الخالدة بأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى.
ولكن هذه المقالة ليست بالطبع لتكريس مشروعية الطب وأدلته من الكتاب والسنة فهي محل اتفاق بين علماء الإسلام إلا طائفة من قعدة الصوفية الذين رأوا في الطب تغييراً لخلق الله وقدره، وهو وهم أبله طارده فقهاء الإسلام المتنورون منذ فجر الرسالة، ولكن الجانب الذي تهدف إليه هذه المقالة هو الوعي بمشاركة المسلمين في قافلة المعرفة الطبية، واحترام المنجز الإنساني العلمي في تطور الطب والمعرفة به، ووقف الاعتماد على العجائب والأوهام في المعارف الطبية.
وتثير هذه المقالة مسألة بالغة الاشتهار وهي مسالة الطب النبوي، التي صارت اليوم وللأسف إحدى مظاهر القعود عن المعرفة والاكتفاء برواية العجائب، ومحاولات بناء الكب الحديث على عجائب الماضي وهو في رأيي سلوك مضاد لروح الشريعة ومخالف لهدي رسول الله.
وقد أصبح ذلك اليوم أحد أكبر مظاهر الشعبوية في المعرفة بعد أن تخصص واعظون كثير عبر قنوات متفرغة لإظهار عجائب الطب القديم وأسراره، وما يتضمنه ذلك تلقائياً من التشكيك بالمعرفة الحديثة ودعوة للاكتفاء بما ورثناه عن الأجداد بعد إلقاء قدر من القداسة عليه بوصفه طباً نبوياً، وربطه بالتالي بالوحي بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فإلى أي مدى يصح هذا الفهم للطب النبوي الكريم؟
بداية لا يمكن تجاوز حقيقة هامة في تاريخ الإسلام وهي اهتمام الرسول الكريم بالصحة والعافية، إنها جانب من مسؤوليته في رعاية الأمة والحرص عليها، وهي صورة لاهتمامه وتحصيله في معرفة النافع والضار من الأغذية والأمزجة الطبيعية والمركبة.
ولكن الأمة ابتليت في جملة ما ابتليت به من تقديس الماضي بتحنيط تاريخها وخبراتها والوقوف عند لحظة من الماضي، وهو سلوك رفضه النبي الكريم عندما واجه الجاهلية القرشية التي كانت تزعم الانتماء إلى الماضي المقدس: ملة إبراهيم، وكانت ترفع راية إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، مع أن القرآن أوضح أن إبراهيم نفسه نادى قومه: أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم؟ قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون.
الطب النبوي ليس أسراراً مقدسة جاء بها فريق طبي ملائكي، يحمل عقاقير سماوية، مذيلة بحجاب معصوم، إنه بكل بساطة جزء من كفاح الإنسان في سبيل المعرفة، وجانب من مسؤولية النبي الكريم في حماية المجتمع وتأمبن الصحة والعافية بالخبرات المتاحة، وهي معرفة تم تطويرها وتجديدها عدة مرات في حياة النبي الكريم نفسه، واستمر تطويرها بعد رحيله على يد خبرات طبية كبيرة من المسلمين والمسيحيين، وقدمت معرفة طبية مذهلة في زمانها، وقد تطورت على يد مدارس طبية شهيرة كآل يوحنا بن ماسويه وآل قسطا بن لوقا وآل حنين بن إسحق وآل الرازي وآل ابن زهر، ولكنها وللأسف تجمدت فيما بعد عند لحظة من انطفاء العقل وانصرفت تبحث خلفاً، وذهبنا نلتمس الإعجاز في خبر الغابرين بدل أن:
نبني كما كانت أوائلنا ****** تبني ونصنع مثلما صنعوا.
النبي الكريم حجم واحتجم، ولكن الحجامة التي مارسها الرسول لم تكن إلا طباً عربياً شائعاً، ثبت بالتجربة أنه ينشط الدورة الدموية ويساعد الإنسان على التخلص من بعض فضلاته، ومن هنا فقد مارسها الرسول، وانتفع بها، وليس في الحجامة أسرار مقدسة أو عجائب ميتافيزيقية، ولا هي في صلب رسالته، ومن غير المنطقي اليوم أن نسلط الضوء على عجائب الحجامة ونختصر العلم النبوي والطب النبوي بهذا العلاج الشعبي العربي القديم، بحيث يقال إن الغرب أنشأ المدن الطبية في كليفلاند وهامبورغ وليفربول، وطور التصوير الطبقي والمحوري والرنيم المغناطيسي وتمكن من زرع الكبد والقلب والعين والأعضاء، وفتت الحصى بالليزر، ونحن حققنا الحجامة!!
بدون أدنى شك فإن النبي الكريم لو أدرك زماننا فإنه لن يقر أبداً ما يمارسه الحلاقون والحائكون والطباخون وفاضو الأشغال في القرن الحادي والعشرين حيث يحملون طناجرهم وكاساتهم وشناتيهم ويهرولون مع مطلع الربيع من دار إلى دار لإحياء السنة النبوية بكاسات الهوا!!
الطب النبوي من وجهة نظري ليس الحجامة والكي والتداوي بحبة البركة ودبس الرمان والدهن بالعسل، فهذه الأنواع من الطب الشعبي كانت أفضل ما عرفه العرب في الحجاز في القرن السابع الميلادي، ولكن العالم اكتسب بعد ذلك خبرات عظيمة، وأسهم فيها علماء عرب ومسلمون وتطور الأداء الطبي خلال القرون تطوراً مذهلاً، وتمكن علماء الإسلام ابن سينا والرازي وابن زهر وابن النفيس من استلام طب أبقراط وجالينوس وتطوير الطب النبوي للرسول الكريم وأسلموه بكفاءة واقتدار إلى روجر بيكون ولويس باستور وليستر وتمكنوا من استخراج عقار العافية من سم الأفعى القاتل، وانطلق الطب في ازدهار متسارع وتمكن من رسم الخريطة الجينية وبشر بعالم جديد يمكن فيه استئصال أوبئة بحالها عبر فهم الخريطة الجينية للإنسان، وبالتالي عبر حملات طبية وقائية منظمة للقضاء على الوباء.
السواك سنة نبوية كريمة وهي تعبير عن رغبة النبي
الكريم بتربية المسلم على النظافة والطهارة، وكان يأمر بالسواك عند كل وضوء وعند
كل صلاة وعند كل لقاء للناس، ولا شك أن ذلك يعكس حرص الإسلام على النظافة والطهارة
وصحة الفم.
ولكن السواك ليس إلا وسيلة للطهارة والنظافة، ولم
يكن أمر النبي الكريم بالاستياك بسبب عروق مقدسة في عود الأراك، ولا بسبب ارتباط غرقدي
بين الأراك والأمة المنصورة، لقد كانت مسألة بحث عن النظافة والطهارة وكان السواك
هو الآلة المتوفرة آنذاك للتطهير والتعقيم.
وحين تتوفر وسائل حديثة من التعقيم والتطهير فمن المنطقي أن يأمر النبي الكريم بهذا الجديد، وليس لدي أدنى شك بأن النبي الكريم سيختار الفرشاة المعقمة بالفلورايد والمطيبة بنكهة التفاح لأنها ببساطة أكثر طهراً وأقل تعرضاً للأوبئة ولأنها حصيلة علم وتجربة وحكمة.
أخرج الإمام مالك بن أنس عن جذامة بنت وهب الأسدية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قد هممت أن انهى عن الغيلة ثم علمت أن فارس والروم يصنعونه ولا يضرهم فافعلوه. والغيلة هي الجماع وقت الرضاع.
كان بالإمكان أن يمر نص كهذا دون تعليق، ولكنني
أعتقد أن هذا النص النبوي يلهمنا منطق الرسول في التعاطي مع المعرفة.
وبعيداً عن
شرح أشهب لموطأ مالك وشرح ابن حجر لصحيح البخاري فإنني سأستعير عبارات معاصرة لشرح
هذا الخبر النبوي الحكيم:
خلال متابعة النبي الكريم للواقع الصحي في
المدينة قدمت إليه تقارير من بعض مراقبي الصحة بأن هناك شكوكاً حول اختلاط ماء
الرجل بحليب المرأة المرضع، ومن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى مضاعفات سيئة في حليب
الأطفال، وذيلت هذه التقارير باقتراح من وزير الصحة في الدولة المحمدية بمنع
الغيلة.
أمر النبي الكريم بصفته قائداً زمنياً ورئيساً
للدولة الناشئة بإعداد مشروع قانون لمنع الغيلة حفاظاً على الصحة الإنجابية.
ولكن مستشاره لشؤون الصحة اقترح استقدام خبرات
أجنبية أكثر متابعة لملف الغيلة، ولدى دراسة ما انتهوا إليه ثبت بالدليل القاطع أن
هذا الأمر شائع لدى الأمم المتحضرة آنذاك الروم والفرس، وأنه لا يؤدي إلى مضاعفات
سيئة، ولا باس من اعتماده، وأن المحاذير التي خشيها الخبراء المحليون موهومة ولا
داعي لاعتبارها.
بكل شجاعة يقف النبي الكريم أمام فريقه الإداري
ويقول للعالم: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ولكنني علمت أن فارس والروم يصنعونه ولا
يضرهم، وبناء على الخبرة لعلمية الموضوعية، فإنني آمر بوقف مشروع القانون إياه
لانتفاء مبرراته.
بدون أدنى مبالغة فإن ثقافة كهذه لا بد أن تشجع كل تجديد علمي ونشاط معرفي، ولا بد أن تكون مع الجديد والمفيد من المعارف العلمية والطبية، وأن توفر للناس ما يحتاجونه من الحكمة والمعرفة.
السياق الطبيعي للتوجيه النبوي الخالد يقتضي
متابعة كل خبرة جديدة في الطب لتحقيق ذلك، وإلا فأين تجد في كتب الطب النبوي علاج الشوزفرانيا
والباركنسون والسفلس والسيدا والشيخوخة المبكرة وترقق العظام وتليف الكبد والصمة
الرئوية واضطرابات التخثر وتناذر غود باستور والاتهاب الغضروفي وداء تايتز والفتوق
الشرسوفية والفتق السبيجلي وآلاف الأمراض والأوبئة التي لم تكن موصوفة أصلاً في
عصر النبوة؟ وهل يمكن التماس أجوبة على ذلك من خلال ما دونه الأقدمون من الروايات؟
أقرأ باحترام وتقدير ما كتبه عبد اللطيف البغدادي
وعمر بن خضر العطوفي وأبو نعيم الأصفهاني وابن قيم الجوزية حول الطب النبوي وهو ما
جمعه بعد ذلك السيوطي في كتابه المنهل الروي في الطب النبوي، ولكنني أقول لك بثقة
ويقين إن الطب النبوي يلتمس اليوم في معهد باستور في باريس والمدن الطبية في
اليابان ومخابر جامعة بون أكثر مما يلتمس في هذه الكتب الكريمة، التي هي تدوين
جامد للحظة من التجربة الإنسانية الطامحة حقها التأمل والاعتبار وليس التقليد
والجمود.
ولا أشك أبداً لو أن الرسول الكريم كان بيننا اليوم لأمر بدراسة مناهج جامعة هارفارد الطبية وليس كتب العطوفي والأصفهاني، ولأرسل الحارث بن كلدة وزيد بن ثابت إلى جامعات كمبردج وأكسفورد وليس إلى مضارب بني شيبان وبطاح بني ظبيان.
وبالجملة فإن استقراء دقيقاً لكتب الطب النبوي يحملنا على الاعتقاد أن ما روي في هذه الأطعمة والأشربة في معظمه واهن الإسناد ضعيف الرتبة ولا يرقى إلى درجة الصحيح إسناداً، وأن ما تأكدت روايته عن رسول الله فهو من باب إسهامه صلى الله عليه وسلم في تعزيز المعرفة وتطويرها بالتجارب وهو إلى باب الخبرة الدنيوية أقرب من باب الوحي، وتنطبق فيه وصية رسول الله: أنتم أعلم بأمور دنياكم.