سوريا عاصمة الروح
نجمة لمحمد ونجمة للمسيح
لكل أمة في العالم فخرها ومجدها، والفطرة السليمة تدعوك للاحتفاء بتاريخك وأجدادك وتراثك، ومن حق كل أحد أن يباهي بوطنه وأرضه، على الرغم مما قد يكابده فيها من عناء:
بلاد ألفنـــاها على كل حالة وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوا بها ولا ماؤها حلو ولكنـــــها وطن
ومن حق كل أحد أن يقول إنه في مركز العالم فهذه الأرض كروية وهي حنونة وعطوفة، وهي من جميع أبنائها على مسافة واحدة، وهذا شعور يستوي فيه الياباني مع الأرجنتيني مع الكندي والاسترالي، وهو حقيقة جغرافية لا ينازع فيها أحد.
ولكن العالم من جهة عطائه ودوره ليس شيئاً واحداً بل إن لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهنا في سوريا قد لا نكون في مركز العالم التكنولوجي كما في اليابان وألمانيا، وقد لا نكون في مركز العالم السياحي كما في الأندلس وسويسراً وقد لا نكون في مركز العالم المالي كما في نيويورك ولندن، وقد لا نكون في مركز العالم النفطي كما هو الحال في الظهران وكاراكاس، ولكننا بكل تأكيد في مركز العالم الروحي، هنا الأرض التي انطلقت منها النبوات، وهنا الأرض التي بدأت فيها رسالة المسيح وانطلقت منها رسالة النبي الكريم محمد إلى كافة أنحاء العالم.
لا نبالغ أبدا حين نقول إن ثلاثة أرباع سكان الكواكب يشربون الروح من سوريا، بل إن العام كله يستخدم التوقيت الزمني المرتبط بسوريا وهو التقويم الذي انطلق في العالم منذ ولادة فتى المغارة النبي الكريم عيسى ابن مريم ابن الناصرة ووليد بيت لحم، أما التوقيت القمري فالعالم اليوم عالة فيه على التاريخ الهجري الذي انطلق يوم هاجر النبي الأعظم محمد .
أبناء العالم المسيحي يسمون هذه الأرض سوريا المقدسة، فيما يسميها أبناء العالم الإسلامي في كل مكان بأنها أرض الشام الشريف.
إنه بالطبع الاسم المحبب الذي تختاره الشعوب الإسلامية في العالم كله للإشارة إلى سوريا!!
الدفء العاطفي الذي يسكن هذه التسمية لا يخفى على متأمل ، والشعوب العربية والإسلامية تشعر بالحنين إلى هذه التسمية الرقيقة الحانية لأرض أهل البيت الكرام وبلد الوليد وصلاح الدين وأرض الشيخ محيي الدين وابن تيمية، وبنظرة سريعة تدرك أي دلالة تاريخية ترمز إليها هذه الأسماء الكبيرة في واقع العالم الإسلامي وماضيه ومستقبله على الرغم من الاختلاف الإيديولوجي الحاد بينها ولكنها في الواقع ترسم لك مركزية الشام التاريخية في ضمير الأمة الإسلامية التي تعد اليوم أكثر من مليار ونصف يعدون نحو ربع سكان الأرض.
إنها ثروة قومية من حقنا أن نبحث عن ظلالها وآفاقها كل يوم لتكون زاداً لحاضرنا وضياء لمستقبلنا، السؤال البدهي هنا هل نحن جاهزون لتحويل هذا الدفء العاطفي الحميم إلى علاقات حقيقية تسهم في قضايانا الكبرى؟
لا يمكنك أبداً أن تتخلى عن الجذر الضارب في عمق التاريخ الموصول بمجد سوريا كأول أرض ظهرت فيها الحضارة البشرية المدونة أو على الأقل أول ألف بائية في التاريخ في رأس شمرا، وكذلك الرقم الإبلائية القديمة التي تؤرخ لحضارة بالغة التأثير في المشهد الثقافي العالمي، حيث تبدو حضارة الإبلائيين في سهول الشمال السوري وبالذات على أطراف معرة النعمان أول تدوين طموح في التاريخ الحديث للبشرية، وهنا على أرض الشام استمر تفاعل الحضارات الآرامية والأكادية والفينيقية والآشورية، وعرف الإنسان استخدام الآلة والمحراث والعربات الجرارة في وقت متقدم على تجارب الأمم الأخرى.
من حق السوريين الاعتزاز بماضيهم الحضاري الذي تشهد له إيبلا كما تشهد له تجربة الزباء زنوبيا المتمردة في قلب الصحراء في بالميرا وهي ترسم ملامح أمة لا يمكن لأحد أن يحد من طموحها حتى لو كان ساسة الامبراطورية الرومانية المقدسة.
سوريا في التاريخ منطلق الديانات السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية , وفيها عاشت الديانات بطوائفها حياة الأمة الواحدة، وفيها عاش الفلاسفة وعلماء الدين والقدّيسون والشّعراء والمستكشفون والفاتحون.
وسوريا قدمت للعالم عدداً من أبرز أسماء التاريخ الكبيرة، سارجون, حامورابي, أشوربانيبال, سميراميس, زينو الرّزين, هانيبال, زنوبيا، وتشير دراسات تاريخية متعددة إلى أن ستة أباطرة رومان كانوا من أبناء سوريا، كما لا يمكن أن ننسى الامبراطور اليوناني العظيم والد الاسكندر الملك المقدوني فيليب الثاني، الذي اشتهر باسم فيليب السوري. والإمبراطورة البيزنطية السّوريّة ثيودورا زوجة الامبراطور الحقوقي جوستنيان.
الطموح السوري تاريخياً لم يكن محض مغامرة مجنونة لنكرات في التاريخ طواها الزمن في سجله الصامت، بل إن السوريين كانوا أيضاً أصحاب مشروع امتد من الوسط السوري فامتد شرقاً إلى الخليج وامتد غرباً إلى المحيط، ولأمر يعلمه السوريون فإن هذا المد الحضاري هو الذي رسم بالضبط ملامح النهوض العربي الذي فرض نفسه عبر حركة الفتح الإسلامي، والذي أوغل شرقاً إلى السند وغرباً إلى الأندلس، ولكنه في استقراره وثباته انحسر تماماً إلى الحدود التي خطها من قبل الفاتح السوري تحديداً بحيث يكون الناتج الحضاري للعرب هو بالضبط تنفيذ الطموح السوري الأول.
ليس عسيراً أن نكتشف الخيط الجامع بين الدور التاريخي لسوريا كما استأنفه الفتح الإسلامي الذي حشد أشواق المسلمين في الأرض صوب الشام الشريف.
تاريخياً كانت دمشق الشام جزءاً رئيساً من أي رحلة للحج يتوجه إليها مسلمو آسيا من الأناضول والقوقاز أو من وسط آسيا والشرق الأقصى ، وكان لمحمل الحج محطات معروفة ينزل بها في الشام ومزارات مقصودة لا يزال إلى الآن كثير من أبناء تلك الشعوب يقصدونها في حارات دمشقية دقيقة ربما كانت غير معروفة لأبناء البلد كما هي معروفة للحاج الأندنوسي والماليزي والباكستاني، وهكذا فإن المطلوب هنا هو تفعيل هذا النشاط سياحياً بحيث نعيد رسم خريطة الحج والعمرة والزيارة لتمر من دمشق كما هو شأنها عبر التاريخ.
سوريا إذن مهوى أفئدة المؤمنين وفيها رقد عشرة من أنبياء القرآن الكريم وثلاثمائة من أصحاب النبي الأكرم، وبذلك فقد تم رسم ملامح أكثر البلدان في الأرض إشراقاً برغائب الروح.
تضم دمشق ضريح نبي الله يحيى عليه السلام، وقد اختار المسلمون أن يكون مرقده في المسجد الأموي على الرغم من أن المساجد لا يبنى فيها القبور، وفاء للسيد الحصور ورعاية لأتباعه من أمة المسيح عليه السلام، وفي جبل قاسيون يرقد النبي الأنبياء الكرام ذو الكفل وإلياس واليسع، وفي برزة ضريح لإبراهيم الخليل.
ويورد ابن عساكر كلاماً عن غزوة خاضها النبي لوط على أرض يعفور، ويرقد نبي الله أيوب في جنوب دمشق في حوران قرية الشيخ سعد وفي حلب يرقد نبي الله زكريا، أما في فلسطين سوريا الجنوبية فهناك يرقد أنبياء كثير منهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان، وهؤلاء الأنبياء هم مقصد آمال المؤمنين في كل مكان في العالم.
وقد عدد المؤرخ ابن عساكر أكثر من ثلاثمائة من الصحابة الكرام الذين وصلوا إلى الشام وجاهدوا فيها وأووا إلى رياضها، ومن أشهرهم بلال بن رباح وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وسعد بن عبادة ودحية بن خليفة الكلبي.
أما أهل البيت الكرام فقد نزل في سوريا طائفة من أبرهم وأرضاهم، وهم السيدة الطاهرة زينب بنت علي، ورقية بنت الحسين وسكينة بنت علي رضي الله عنهم أجمعين.
وقد صار ضريح السيدة زينب بنت علي في السيدة زينب مزاراً للعالمين، ولا يوجد أدنى مبالغة في القول إن أعظم ضريح امرأة يزار في العالم هو ضريح السيدة الطاهرة زينب بنت علي عليها سلام الله وإكرامه.
وهكذا فإن الدور التاريخي للشام كعاصمة إسلامية ومنتظر إشراقات الزمان الآخرة هي التي جعلت حنين المسلمين في العالم أبداً صوب الشام الشريف على أنها أرض المحشر والمنشر، واليوم يتحدث المسلمون عن الشام على أساس أولها شام وآخرها شام، وإليها كان تأوي عن قصد جموع المهاجرين من كل مكان في العالم ينالهم فيها اضطهاد أو ظلم على أساس أنها أرض الشام الشريف.
وخلال التاريخ فإن نسيج المجتمع السوري سعد بهجرات كثيرة معظمها كان طلباً للأمن الذي طبع سوريا نظراً لمكانة الروح والإيمان فيها، وفي جبل قاسيون ترتسم ملامح صدر رحيب أوى إليه المظلومون خلال التاريخ واستظلوا بظلاله وشربوا من مائه وأقاموا فيه فسطاطاً للرحمة والرجاء والأمن والسلام، وفي جبل المهاجرين اليوم حارة للأطراد وأخرى للشركس وثالثة للتركمان ورابعة للأرناؤوط وخامسة للمقادسة وسادسة للقوقاز وسابعة أرمن وثامنة للأفغان، وهي ترتسم على جبين الجبل، تحمل الحكمة الشرقية القديمة: أولها شام وآخرها شام، وتشرح بدون تكلف حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الشسام أرض المحشر والمنشر وفسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى، وموئل الأمن والأمان.
وتحتضن دمشق اليوم كما سائر المدن في سوريا اللاجئين الفلسطينيين واللاجئين العراقيين، وكانت في مطلع القرن العشرين مأوى المجاهدين المغاربة والجزائريين والتوانسة، بل والباكستانيين والأفغان والإيرانيين!!
يصل إلى الحج والعمرة على سبيل المثال سنوياً نحو عشرة ملايين زائر خلال العام منهم حوالي أربعة ملايين من آسيا يقدمون من وراء عربستان وطوروس وهؤلاء جميعاً كانوا يؤدون اعتمارهم وحجهم تاريخياً عبر دمشق وكانت محاملهم تاريخياً جزءاً رئيساً من الاقتصاد الشامي عبر التاريخ، حيث يبيعون ويشترون ويقيمون في الشام وكثيراً ما كان هوى دمشق وبركاتها يستهويهم فيقيمون فيها ويتزوجون منها يشهد على ذلك أسماء العائلات الدمشقية الكثيرة الشيرازي والأصفهاني والهندي واللاهوري والداغستاني والأباظة والبوسنلي والألباني والكرمنشاهي والمشهدي والنيسابوري والبخاري والسمرقندي وغيرها من القائمة الطويلة.
أليس من المنطقي أن نتساءل ما الذي أدى إلى همود هذه الحركة الدافئة التي شكلت تاريخياً جزءاً هاما من السياحة السورية؟
إن السفر بالطائرات يبدو السبب المنطقي لتجاوز زيارة الشام في رحلات الحج، حيث تغيرت خطوط السفر وتعقدت وتحول طريق الحرير الذي كان يتحرك الناس فيه بالأشواق والذكريات إلى طريق جوي من حديد يسير بالكيروسبن ويقاد من أبراج مراقبة إلكترونية لا مكان فيها لأي دفء عاطفي!! ولكن علينا أن نتذكر أن الطيران يفترض أنه سهل الدروب ولم يعقدها ، والوصول إلى الشام أصبح أسهل وأيسر عبر الطائرات لو أننا اهتممنا بإيجاد البرامج المقنعة لوصول تلك الأشواق اللاهبة إلى الشام . إنه لأمر مؤسف أن الأسفار في عصر الناقة والبعير كانت تعرف دربها إلى الشام وأنها لم تعد تعرفه في عصر الطيران والفضاء!!
الملايين الستمائة من المسلمين المقيمين في القارة الهندية ووسط آسيا والشرق الأقصى والقوقاز تجمعهم رؤية واحدة صوب الشام الشريف وتحن أشواقهم وأرواحهم لظلال الشام وغوطتها حيث تسكن ضمائرهم بشائر النبي الكريم لأهل الشام وهي البشائر التي جمعها ابن عساكر في جزء خاص من كتابه تاريخ دمشق نورد منها على سبيل المثال قول النبي الكريم الشام فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى في أرض يقال لها دمشق في غوطتها هي خير مدائن المسلمين يومئذ طوبى للشام طوبى للشام لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها إلى يوم القيامة، وكما اكتسبت سوريا اسم الشام الشريف فإنها أيضاً تعرف عند الشعوب الإسلامية باسم أرض المحشر والمنشر.
بالتأكيد الأمر لا يقتصر على رعاية الحجاج والمعتمرين فقط بل إن العالم الإسلامي يتطلع إلى الشام اليوم على أنها أرض علم ومعرفة وتمكن وقد أسهمت حركة التعليم الشرعي في سوريا لأبناء الشعوب الإسلامية إلى إحياء هذا الدور وتعزيزه وترسيخه، وبالإمكان التفكير جدياً في إطلاق أكثر من مشروع حقيقي بهذا الاتجاه.
نانسي بيلوسي عميدة الديمقراطية الأمريكية ورئيسة مجلس النواب حضرت إلى دمشق، إنها ليست أول القادمين من بلاد العم سام ولن تكون آخرهم، ولكن هذه السيدة الواثقة التي وقفت بكبرياء في مواجهة الإدارة الأمريكية ورفضت اختصار الحضارة الأمريكية بالجيوش والمدمرات والفرقاطات والبساطير، وهو المعنى الذي حذر منه السناتور هاري ريد بقوله إن سياسة الرئيس بوش جعلت صورتنا في العالم على هيئة رعاة البقر (الكاوبوي) ، ومن وجهة نظري فإن السيدة الأمريكية وصلت في المقام الأول إلى دمشق لتصحح صورة الأمريكي الذي هو أيضاً جزء من الحضارة الإنسانية، وأن الأمريكيين ليسوا فقط بوش ورامسفيلد وبيرل وولفوفيتز ونغروبونتي وأبي زيد، بل هم أيضاً ابراهام لينكولن وتوماس جيفرسون وجيمي كارتر، ولهم أيضاً قلوب ومشاعر وأحاسيس.
خلال زيارتها الأخيرة إلى دمشق قلت للسيدة الشجاعة: ما الذي أثار إعجابك في دمشق؟
قالت وهي لا تكتم دهشتها لقد زرت اليوم المسجد الأموي وأدهشني أنني زرت داخل المسجد الإسلامي قبراً لقديس مسيحي كبير هو يوحنا المعمدان!! ورأيت بأم عيني أن القديس المسيحي محل تقدير كبير من المسلمين والمسيحيين على السواء في حرم المسجد!!.
عادت بي الذاكرة إلى الكلمة نفسها وقد حدثني إياها الرئيس الماليزي مهاتير محمد حين كنا في زيارته في بوتراجايا بماليزيا، وقال بإعجاب لديكم في سوريا شيء مدهش لقد زرت نبياً مسيحياً داخل مسجد إسلامي إنه شيء يحصل فقط في سوريا!! إن بلادي لا يمكن على الإطلاق أن تشاهد فيها قديساً بوذياً في معبد هندوسي ولا قديساً هندوسياُ في معبد مسيحي ولا يوجد في المساجد على الإطلاق ضريح لقديس مسيحي ولا يهودي، فما هو سر هذا التسامح في بلدكم سوريا؟
قالت لي السيدة بيلوسي: لا يحتاج موقف كهذا لأدنى تفسير فهو واضح تماماً أن روح التسامح في سوريا ناضجة بحيث تتجاور الأديان في الأرض، وتتقابل في السماء.
قلت للسيدة بيلوسي وإذا ساعدك الوقت فبإمكاني أن أرتب لك زيارة أخرى لا تقل دهشة عن هذا وبإمكانك أن تزوري قديساً إسلامياً في معبد مسيحي، على مدخل معرة النعمان وفي الدير الشرقي يمكنك أن تزوري قبر الخليفة الراشدي الكبير عمر بن عبد العزيز الذي دفن في دير شرقي (دير سمعان) ولا يزال إلى اليوم تحت قبة الدير يزوره مسلمون ومسيحيون، في عبق صوفي نادر، تذوب عنده الفوارق، وتشتعل الأشواق:
وما من نبي ولا من ولي على الحق إلا له مسلكه
شعاب يسير بها العارفون وكل له مركب يركبه
وفي شاطئ الحق هم يلتقون على مركب واحد يدركه
إنه شيء يحصل فقط في سوريا!!
إنها إذن سوريا بلونها المدهش الذي أثار العالم وهي أيضاً حكاية الإيمان في الأرض، وموعد الأحرار من أبناء الأنبياء، لقد تركوا فينا تراثهم وأصبحنا مؤتمنين على قدسهم ووعدهم وعطائهم، كما يرسمه لنا القرآن الكريم في أكثر من مائة لوحة: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم واسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراَ ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً.
كل الأنبياء الذين نقرأ أخبارهم في العهد القديم وفي العهد الجديد وفي القرآن جاؤوا من سوريا أو هاجروا إليها، وسوريا التي نتحدث عنها هي أرض الشام الشريف التي تبدأ من جبال طوروس وتنتهي بعريش مصر، إنها أرض الأنبياء وتاريخهم وجهادهم وكفاحهم.
كل أمة في الأرض لديها شكل من الثروة يغني حياتها، ويفرض مكانها بين الأمم، روما لها تماثيلها وفنونها، ولليونان حكمتها وفلاسفتها، وللهند أساطيرها، وهناك أمم تختزن البترول وأخرى تختزن الفوسفات وثالثة تختزن الخشب والغابات، ولكن سوريا في الواقع تنفرد بأنها أكبر خزان للروح في الأرض!
يتحدث المسلمون في العالم عن سوريا أرض الشام الشريف، وهم بذلك يؤكدون شوقهم إلى تراث الأنبياء وروحهم الغامرة التي أضاءت للعالم، وبالنسبة للمسلمين فالشام هي مسرى الرسول ومعراجه، ومجلى آياته ومعجزاته، وهي الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وهي مرقد أهل البيت الأطهار، ومراقدها الطاهرة تخيرت من الصحابة حنجرة بلال وقصعة سعد وبأس خالد بن الوليد وحكمة أبي الدرداء، وتحت قبابها الخضراء سكن أروع فلاسفة الحب في الأرض ابن عربي وجلال الدين الرومي، وفي ربوتها غنى الفارابي أوتاره السبعة التي طرب لها الوحش والطير، محروسة برجال الفتوة والكرامة الشيخ أرسلان وضرار بن الأزور، تعبق بالتاريخ الإسلامي في كل ركن من أركانها، وتردد حاراتها صوت الأذان كلما رفعته جوقة المؤذنين في الجامع الأموي، وتطرب للحداء الذي تسيل له المدامع فيها في مراقد أهل البيت الأطهار.
وسوريا أرض الريادة الإسلامية فهي الأرض الوحيدة التي حرك إليها النبي الكريم جيشه خارج جزيرة العرب وهو يردد: “اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا” في إرادة واضحة لرسالة التحرر التي ما فتئ يتطلع بها ثوب الشام، وعلى مداخل الشام الجنوبية يرقد ثلاثة من رجاله المقربين زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة على ثرى مؤته في إشارة واضحة ترسم ملامح أول أبطال استقلال في تاريخ الشام.
وتتوالى إشارات النبي الكريم الواضحة في الدور المركزي للشام في رعاية الروح في الأرض: “طوبى للشام، ولم يا رسول الله! لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها، والشام فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى في ارض يقال لها دمشق في غوطتها هي خير مدائن الشام يومئذ.
ولم يخطئ أصحاب النبي الكريم هذه التوجهات فسرعان ما نقلوا عاصمتهم الحضارية إلى الشام، وكان ذلك إدراكاً من الصحابة الكرام للحاجة إلى الاستفادة من المنجز الحضاري التاريخي للشام لجهة نمح الإسلام الخبرة والتجربة، وأطلقت دمشق في ضمير العالم أكبر حركة فتح ظافرة، وحملت مشروعها التحرري بوسائل العصر الذي أدركته إلى آفاق العالم الأربعة وخلال أقل متن قرن أصبحت دمشق عاصمة لحضارة تمتد من الصين حتى الأندلس، وهي حضارة تضاهي في عظمتها حضارة الإسكندر غير أنها لم تمارس بطشه، ومنحت الشعوب التي نعمت بأدائها الحضاري دوراً غير قليل في رعاية التوثب الحضاري
والمسيحيون في الأرض ينظرون إلى الشام على أنها أرض سوريا المقدسة، وفيها طريق السيد المسيح وآلامه، ودمشق أرض يحيى عليه السلام، ومشرق النور في قلب بولس الرسول، ويضيف المسلمون إلى هذا الوعي التذكير بأن ربوة دمشق هي الأرض المذكورة في القرآن وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين.
وهذه الديانة العالمية التي يدين بها نحو نصف سكان الأرض وترسم تاريخ العالم وتحدد مواقيته بدون منازع هي منجز سوري بامتياز، وعلى الرغم من المؤسسات الجبارة القائمة في مختلف أرجاء العالم باستمرار منذ ألفي عام فإنه ليس بوسع أحد أن يزعم أن هذه الديانة ليست سورية المنشأ والمطلع والثقافة والهوية، فما بين ولادة عيسى الناصري في بيت لحم وطريق آلامه الممتد من الناصرة إلى الجولان والموصول في الوعي الإسلامي بربوة دمشق وما بين درب الاستنارة الذي خطى على أثره بولس الرسول فإن كل شيء في المسيحية يبدو سوري الملمح والمشهد، وعلينا أن نذكر العالم بأن السيد المسيح الذي يحمل صليبه اليوم أساطيل المارينز الأمريكي وجحافل اللاهوت الغربي ليس إلا مناضلاً سورياً كان يكدح هنا بزنده الأسمر وروحه الوثابة ويتوكل على الله.
إن السيد المسيح لم يولد في شيكاغو ولم يعمد في باريس ولا هو آت من لندن!! إنه ابن سوريا، ودرب آلامه وأحزانه بين الجليل والناصرة، موصول في الوعي الإسلامي إلى ربوة دمشق، وفي القرآن الكريم: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى بوة ذات قرار ومعين، قال سعيد بن جبير: الربوة هي موضع بظاهر دمشق إلى الغرب منها على بعد ميلين عند جبل يقال له النيرب، وهو ربة دمشق، وهو ما أشار إليه خير الدين الزركلي بقوله:
الأهل أهلي والديار دياري وشعر وادي النيربين شعاري.
ما كان من ألم بجلق نازل وأرى الزناد فزنده بي واري
وعلى الرغم من التناقض الصارخ بين أبناء العالم في المشهد الثقافي على الأقل فإنه لم يسجل في تاريخ البشرية إجماع على أمر كذلك الإجماع الذي التزمه العالم في احتفالاته بذكرى دخول الألف الثالث فهو حدث عكس إجماعاً عالمياً فريداً من نيوزيلاند إلى جزر هاواي وميكرونيزيا وما بينها، ولم يكن ذلك الإجماع العجيب إلا إقراراً بالدور الإنساني الريادي للسيد المسيح على مستوى العالم، وهو تذكير مرة أخرى بدور سوريا في ريادة الروح والحضارة في الأرض، وواضح أنه من غير الممكن أصلاً أن يحقق أحد في العالم أي معنى احتفالي في ذكريات الميلاد والفصح والجمعة العظيمة ورأس السنة من دون أن يطوف بخياله وضميره مشهد سوريا الأرض الجغرافيا التي تحركت فيها رسالات الأنبياء والمعالم المحلية التي لا تزال ترتل إلى اليوم في معابد الأرض على أنها مشاهد الروح القدس.
هكذا ينظر العالم إلى سوريا أو نصف العالم على الأقل على أنها أرض سوريا المقدسة مهد المسيحية وأرض الأنبياء والمعجزات ومغارة الميلاد.
وعلى الرغم من سيطرة الروم والرومان واليونان في الحضارات المتعاقبة التي حكموا فيها العالم فإنهم لم يفلحوا أن ينتجوا نبياً يونانياً أو رسولاً رومانياً وظلوا على الرغم من استبدادهم الامبراطوري عالة على سوريا في إنتاج أئمة الروح.
قد نتهم في التغني بمجد سوريا بأننا نرجسيون، نعبد الذات، وأن كل أرض الله سواء، كل بلاد الله مقدسة، وأينما تولوا فثم وجه الله، والله بكل شيء محيط!
إنني لا أنكر هذا ولكل أرض إشراق وأذواق، ولكننا في تاريخ الأنبياء لا نبالغ في شيء حين نصف الدور التاريخي لسوريا، وهنا أستعير كلمتين اثنتين: الأولى كان قد تحدث بها البابا البولوني يوحنا بولس الثاني حين زار سوريا، وعند الباب الشرقي كان يوزع نظراته بين الأرض والسماء، ثم قال في ذهول: والله لا أدري أيها أشد قدسية وأكثر إشراقاً: أرضكم أم سماؤكم يا أهل سوريا!!
أما الكلمة الثانية فهي للمفكر الفنلندي آرنه تويفانن: لكل إنسان في العالم وطنان وطنه وسوريا!!
لقد أنجزت كل أمة في الأرض تاريخها، وكتب كل شعب أبطاله ومخترعيه ومكتشفيه وأباطرته وجنرالاته ونبلاءه وأمراءه وشعراءه وحكماءه، وهو مشهد يرتسم من طوكيو إلى سياتل ومن بيونس أيريس إلى ملبورن، وكلهم يتغنى بتراثه الوطني بفخر واعتزاز، ولكن العالم كله توقف في شأن النبوة، وتهيب أن يقتحم ساحة الأنبياء وظل يرنو إلى الشام الشريف أرض سوريا المقدسة.
حتى الهندوصينا التي تعبد الحكمة المشرقية والتي ترسم آلهتها بريشة خارج سياق العالم، ظلت عبر التاريخ في وعيها الجمعي ترسم تاريخها بريشة النبي السوري المجيد عيسى بن مريم، وظلت ذكرى ولادته في المغارة هي التي تحكم تاريخ الناس حتى في بكين ودلهي وطوكيو وسيؤول.
كل الأنبياء مروا من هنا، ومن حق كل سوري أن يفخر بمجد النبوة في أرض الشام الشريف، أرض سوريا المقدسة!!
حين يريد كل أحد في العالم أن يتحرر من عناء الصخب المادي، ويرتقي إلى رغائب الروح، حين يريد أن يحلق بروحه في السماء ويبحث عن المثل الأعلى، حين يردي أن يعيش لحظات من الكهر والسمو والإشراق فلا بد أن يتصل بواحد من رموز الوحي والإشراق والطهر والنور إبراهيم أو موسى أو المسيح أو محمد!! وهؤلاء جميعاً عاشوا في سوريا وشربوا من مائها، أما النبي الكريم محمد فحين اختار الله أن يدعوه إلى زيارة السماء، وأن يدنيه منه إلى قاب قوسين عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى أمره أن يطير من المطار السوري عند سفوح الجولان الجنوبية، تحديداً عند الصخرة المشرفة جنوب سوريا.
حين أنظر إلى علم سوريا، أرى في ألوانه الأبيض والأحمر والأسود ذكرى الحضارات التي تعاقبت على أرض الشام الشريف، وتألقت في سماء سوريا المقدسة، ولكن حين أنظر في وسط العلم فأنا أرى نجمتين خضراوتين، لا أعتقد أنه يمكن قراءتهما إلا بصيغة واحدة: نجمة لمحمد ونجمة للمسيح!!
تحميل الملف سوريا عاصمة الروح