حين بدأ الوليد بناء الجامع الأموي وأعد له ما يحتاجه ذلك المشروع الكبير من المال والخبرات كان هناك سؤال كبير ماذا سيفعل الوليد بالقبر الموجود في المسجد الأموي المنسوب إلى النبي الكريم يحيى بن زكريا عليه سلام الله، وهو ما كان يسميه المسيحيون في الشام ضريح يوحنا المعمدان كمنا ورد في الإنجيل.
فالعقيدة الإسلامية تقتضي أن لا تكون القبور في المساجد، وهناك نهي شديد عن وجود القبور في المساجد وذلك سداً لذريعة عبادتها من دون الله، وقد أمر النبي الكريم بكل صورة كانت في البيت الحرام فطمست ومنها صور لإبراهيم عليه السلام وهو يصنع الأزلام، وبادر عدد من المحدثين والرواة بتقديم حجج من الكتاب والسنة بوجود هدم القبر لعدم جواز وجوده في المساجد.
ولكن الوليد بن عبد الملك ومستشاروه الذين كانوا آنذاك يقودون الحضارة الإسلامية تناول الأمر من زاوية أخرى وبعيداً عن ظاهر النص راح الوليد يقرأ في مقاصده، فالتوحيد قوي متين بحمد الله، ولا توجد إمكانية للعودة إلى عصر عبادة القبور، والضريح هنا ليس محض ناسك أو زاهد من الغابرين، إنه نبي الله يحيى، رمز الرسالتين فهو السيد الحصور الطاهر الذي آتاه الله الحكم صبياً وهو رمز حقيقي للإخاء بين أبناء الديانتين وهو دعوة مفتوحة لآخر الدهر لكل أبناء السيد المسيح أن يداوموا زيارتهم لمسجد بني أمية، وهكذا كان، وتقرر ترك الضريح الكريم في وسط المسجد خلافاً لكل تقليد سائد وأرسل الكتاب نفسه إلى حلب للحفاظ على ضريح نبي الله زكريا في المسجد الأموي فيها رمزاً للإخاء والمحبة بين أتباع الديانتين.
مئات السنين مرت والضريح في المسجد شاهد نور، على الإخاء بين الديانتين، تتخلله بين الحين والآخر دعوات متشددة وافدة، تطالب بإزالة القبور من المساجد عملاً بسنة السلف الأول، ولكن دمشق تبتسم وهي تؤوي رموز الإخاء العالمي في سواد عينيها ومقلة القلب فيها.
قبل سنوات زارت دمشق السيدة نانسي بلوسي رئيسة الكونغرس الأمريكي في خطوة اعتبرت تحدياً لإدارة بوش التي كانت تحاصر سوريا، سألتها خلال الزيارة : سيدة نانسي!! ما أجمل شيء رأيتيه في دمشق؟ قالت إنه الجامع الأموي!! من المدهش أنك تزور قديساً مسيحياً داخل مسجد إسلامي، إنه شيء مستحيل في بلادي أن يدفن قديس بوذي في معبد يهودي أو قديس مسيحي في معبد إسلامي ! قلت لها: سيدة نانسي وإذا كان لديك الوقت الكافي فبالإمكان أن نزور معاً قديساً إسلامياً داخل معبد مسيحي إنه ضريح الخليفة الراشدي العادل عمر بن عبد العزيز الذي اختار أن يكون مدفنه في دير سمعان في معرة النعمان وكذلك ضريح زوجته التي توفيت بعده بعشر سنوات وسعد بهما الدير ذاته في رسالة واضحة من الإخاء الديني والمحبة بين أبناء السماء.
إنه شيء يحصل فقط في سوريا! بلد الإخاء والمحبة بين أبناء السماء، الأرض التي وصفها نزار قباني بقوله: إنها تنبت قمحاً وأنبياء.