Uncategorized

د.محمد حبش-الوسطية وحرية الاجتهاد في الإسلام

الاحتهاد بذل الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وما نقصده هنا هو ذلك المنهج الوسطي في الفقه الإسلامي الذي وفر لجمهور العلماء فرصة الاحتهاد وإبداء الرأي والاختلاف المحمود حتى وجد الناس بالفعل قدراً وافياً من الحرية الفكرية الواعية.

وحين نتحدث عن الوسطية فنحن نقصد ذلك الخطاب الإسلامي الأصيل الذي عزز ثقافة الوحدة الإسلامية والاعتدال والتوسط، وإعذار المخالف والقبول بالرأي والرأي الآخر واجتناب المواقف الحادة الغاضبة التي تمزق وحدة الأمة، ولست راغباً في استغراق البحث في شرح المصطلح وتحديده كما أنني معني أن تبقى الوسطية بستاناً مفتوحاً لكل أبناء لا إله إلا الله، ولست من أنصار إلقاء القيود والحدود على الوسطية إذن لفقدت معناها مظلة جامعة للأمة تتبنى خطاب الله عز وجل: ولا تقولوا لمن ألقى عليكم السلام لست مؤمناً.
لقد تركنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عها إلا هالك، وبإمكاننا أن نلاحظ أن الأمة انطلقت كذلك تحت راية الراشدين على الرغم من وجود الاختلاف بين الصحابة ولكن ذلك الاختلاف لم يكن ليصرف الأمة عن وحدتها وجماعتها، وظهر الرأي والرأي الآخر، وانتصر كل أصحاب رأي لرأيهم بمختلف الوسائل ولكن ظل المختلفون يستظلون بروح الإسلام الجامعة، وفي موقف ذي دلالة قال بعض أصحاب علي خلال حرب الجمل ألا تدعو عليهم فقال: لا.. إن الذي بيننا لم يبلغ ديننا.
لقد كانت الأمة الإٍسلامية أمة موحدة وحين ظهر أهل الأهواء وأعلنوا عن مشاريعهم في الانفصال من الأمة وتشكيل كياناتهم الخاصة، وظهرن الفرق المختلفة من خوارج وجبرية وقدرية ورافضة وناصبة ظل المسلمون ضمن دائرة الوحدة والجماعة، وهؤلاء هم من نسميهم السواد الأعظم للأمة، الذين لا يريدون اسماً آخر إلا الإسلام وهم في الواقع التيار الوسطي الذي نتحدث عنه.
وباختصار فالوسطية هي الاعتدال والوسطيون هم سواد الأمة الأعظم.

انسحاب الفرق المبتدعة من بستان الجماعة خلال التاريخ

وعند انفصال هذه الفرق بقي السواد الأعظم من الأمة لا يبتغي إلا اسماً واحداً سماه به القرآن الكريم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيداً وتكونوا شهداء على الناس، وكانت الأمة تستمل وحدتها وجماعتها، وتظل سائر أبنائها بروح الجماعة تحت عنوان السواد الأعظم.

وتسمية أهل الجماعة باسم السواد الأعظم هو خيار نبوي حكيم أعلنه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث حذيفة بن اليمان الشهير:
عن أبي إدريس الخولانى قال سمعت حذيفة بن اليمان يقول : كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركنى فقلت : يا رسول الله إنا كنا فى جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال :« نعم ». فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال :« نعم وفيه دخن ». قلت : وما دخنه؟ قال :« قوم يستنون بغير سنتى ويهدون بغير هديى تعرف منهم وتنكر ». فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال :« نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ». فقلت : يا رسول الله صفهم لنا. قال :« نعم هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ». قلت : يا رسول الله فما تأمرنى إن أدركنى ذلك؟ قال :« تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ». قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال :« فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك » .

وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أمتي لن تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم

وهذه الروح الجماعية التي تتعزز في الإسلام هي في الواقع التي طبعت تاريخ الأمة الإسلامية ووفرت للناس فرصة الاختلاف في الرأي ضمن الجماعة الواحدة، ومنذ ذلك الوقت اكتشف المسلمون في وعيهم الحضاري تلك الشعارات الديمقراطية الحضارية التي ترفعها النخب المثقفة في العصر الحديث عن الرأي والرأي الآخر وأكثر من رأي واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية وبوارق الحقائق تأتي من مصادمة الأفكار، وروينا عن السلف الصالح عبارات من ذهب كانت تعكس موقفهم الحضاري في فهم طبيعة الاختلاف ومتى يكون الاختلاف رحمة ومتى يكون نقمة وبلاء، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم القاعدة الذهبية في أدب الاختلاف للمجتهد إن أصاب أجران اثنان وإن أخطأ فله أجر واحد، واعتاد السلف أن يقولوا: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وإن أقول إلا اجتهادي ورأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني، وحين كان يسأل أحدهم عن موقفه في المسالة أهو الحق الذي لا ريب فيه؟ كان يقول وما يدريك!! لعله الباطل الذي لا حق فيه، وإنما نحن مجتهدون ولكل قوم جد وعلى الله قصد السبيل.

وحين ظهرت المذاهب الفقهية بادر أصحاب الاتجاه الظاهري المتشدد إلى إنكار هذه الظاهرة باعتبارها تشظياً للإسلام، ورفعوا في وجه الفقه الإسلامي عبارات حادة مثل قولهم: الحق لا يتعدد، ولا حكم إلا لله، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدهم ما جاءتهم البينات، إلى غير ذلك من نصوص في الكتاب العزيز والسنة المشرفة التي وردت في الخلاف المذموم الذي يضيق فيه صدر المتخالفين ويتبادلون الاتهام بالتكفير والزندقة ومن ثم الشقاق والكراهية والحروب وهو بكل تأكيد أمر منبوذ مرفوض لا يشبه في شيء ما قصده الفقهاء الكرام من إعمال الرأي العقل في استباط الحكم الشرعي للمسائل المستجده وما يفرضه تغير الأزمان من تغير الأحكام.
وبعد صدام ضار بين الاتجاه الظاهري وبين الفقهاء بدا أن الأمر حسم لصالح الفقه الإسلامي وأدرك العقلاء أن اختلاف الناس في التأويل والتفسير أمر عادي وكتب سائر علماء أصول الفقه في كتبهم أبواباً خاصة عن أسباب اختلاف الفقهاء وعن حكمة اختلاف الفقهاء واسمحوا لي هنا أن أروي لكم طرفاً من منظومة المعتمد في أصول الفقه التي وفقني الله تعالى لنظمها في ألف بيت من الشعر لشرح أصول الفقه الإسلامي.

أسباب اختلاف الفقهاء

حِدْ عنْ كلامِ حاقدٍ مغرورِ وافهَمْ من اختلافِهِمْ تحريري
فالخلفُ في التَّشريعِ أَمْرٌ عادي كالنقــــــدِ والقانـــــــــونِ والأعدادِ
والخلفُ بينَهم على الفروعِ مع الوفاق في سوى الفروع
وخلفهم منحنا المرونـــــــة ومدنـــــــــا بثروة ثمينــــــــــة
وخلفُهم على الفروعِ توسِعَةْ لَوْ أَنَّهم ما اختلفوا لامتنعا
ولم يكن خلافُهم تَعصُّبــــــــــاً أو للهَوى أو يشتهونَ الرُّتَبَـــــــا
وانحصر الخلاف في المظنونِ كخبـــــــــرِ الآحـــــــاد لا اليقيني
ومطلقاً لم يجرِ عهدَ المصطفى فالوحيُ والحديثُ فيهمُ قَدْ كفى
ورُبَّما حكمَ في رأيَيْــــــــــــنِ مختلفينِ… جوَّزَ الوَجْهيــــــــــــنِ

وقد جرى هذا الأمر من التسامح وإعذار المخالف في تاريخ المعرفة في الإسلام، ولا تحتاج لأدنى تردد حين تطالع ما كتبه أئمة التفسير والحديث والفقه خلال التاريخ الإسلامي لتجد أن ما كتبوه كان دوماً يؤكد الحقيقة إياها وهي حق الأمة في الاختلاف والرأي في دائرة من الاحترام والمحبة، واعتاد الفقه الشافعي أن يقول الرأي عندنا كذا وعند السادة الحنفية بخلافه، واعتاد الفقيه المالكي ان يقول الرأي عندنا كذا وعند السادة الحنابلة بخلافه في سياق من الاحترام والتقدير، وكان بالحري أن تكون هذه هي لغة الخلاف اليوم بحيث يقول الفقيه السلفي الرأي عندنا كذا وعند السادة الصوفية بخلافه، وأن يقول الصوفي الرأي عندنا كذا وعند السادة السلفية بخلافه وأن يقول الفقيه السني الرأي عندنا وعند السادة الجعفرية بخلافه وأن يقول الجعفرية الرأي عندنا كذا وعند السادة السنة بخلافه، ولعلكم تدركون معي أن صورة الخطاب السائدة اليوم هي أبعد ما تكون عن هذا الواقع، وإن متابعة يوم واحد للفضائيات المتخصصة بالفتنة وشق الوحدة الإسلامية تكفي لاكتشاف الواقع المخجل الذي انتهت إليه الأمة من الشقاق والأحقاد، بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.

لقد أجريت عدداً من الإحصائيات بمساعدة الكمبيوتر للوقوف على حجم الحرية الفكرية وإعذار المخالف التي كانت سائدة في العصر الذهبي للفقه الإسلامي يوم كانت الأمة تدرك أن الله هو من شاء أن يكون في مسائل الفقه والاعتقاد هذه السعة من الاختلاف والرأي المحمود، وسأبداً هنا من علم القراءات القرآنية التي هي محل اتفاق بين أبناء الأمة الإسلامية.
من المعروف أن الله أنزل القرآن الكريم على سبعة أحرف وقد جرت العادة أن نتلقى علوم القراءات القرآنية عن السادة الحفاظ دون أن نتأمل في معنى نزول القرآن على سبعة أحرف.
لقد كان هذا المعنى غائباً عن الناس حتى أوضحه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج البخاري في الصحيح عن هشام بن حكيم أن عمر بن الخطاب قال: سمعت يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ قال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( أرسله اقرأ يا هشام) . فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( كذلك أنزلت) . ثم قال ( اقرأ يا عمر ) . فقرأت القراءة التي أقرأني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه )

ثم قال لهم كلمة من ذهب: إقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا!!
وعن أبي جهيم الأنصاري: أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تماريا في آية من القرآن , كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكلاهما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم آية سمعها منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فلا تماروا في القرآن فإن مراء في القرآن كفر.
وعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة
وعَنْ أبي بن كعب , أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – كان عَنْده أضاة بني غفار فأتاه جبريل , فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف , قَالَ : أسأل الله معافاته ومغفرته , وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية, فقال : إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين , قَالَ: أسأل الله معافاته ومغفرته, وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثالثة, فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف, قَالَ: أسأل الله معافاته ومغفرته, فإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة, فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف , فأيما حرف قرؤوا عليه, فقد أصابوا.

إنه إذن صريح من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم بالقراءة بأكثر من وجه وإعذار المخالف فيما يقرأ على الرغم من أنها مسألة في التنزيل وليست في التأويل!!
وحين تطالع كتب القراءات القرآنية فإنه يدهشك التسامح الكبير بين القراء في إعذار المخالف في قراءته وبإمكانك أن تطالع معي هذا الإحصاء الرقمي الدقيق للكلمات التي وردفيها الخلاف القرآن الكريم:

عدد الكلمات التي اختلف فيها القراء الأئمة في فرش القرآن الكريم، علماً أن العدد الإجمالي لكلمات القرآن الكريم يبلغ 74950 كلمة.

وهكذا فإن عدد الكلمات التي اختلف فيها القراء فرشاُ في القرآن الكريم هي 1184 كلمة من أصل كلمات القرآن الكريم البالغ عددها 74950 كلمة.
هذا في إطار الخلاف الفرشي وهو هنا الخلاف في أصل الكلمة في بنيتها وحروفها وليس في تلاوتها والمقصود بالفرشيات هو الخلاف الذي لا يتنزل على مثال ولا تضبطه قاعدة ومن الأمثلة على ذلك:
مالك يوم الدين قرأها عاصم والكسائي (مالك) فيما قرأها الخمسة الباقون (ملك) يوم الدين
قرأ عاصم وما هو على الغيب (بضنين) وقرأ الباقون وما هو على الغيب (بظنينن)
قرأ عاصم ولا تقربوهن حتى (يطْهرن) وقرئت بالتواتر ولا تقربوهن حتى (يطَّهرن)
وقرأ عاصم: ولكن رسول الله (وخاتََم) النبيين وقرأها الباقون (وخاتِم) النبيين
وقرأ عاصم إن جاءكم فاسق بنبأ (فتبينوا) وقرأ الباقون (فتثبتوا)

ولا شك أنه ينبني على ذلك اختلاف الأحكام الفقهية الناشئة من هذه القراءات وهي كما أحصيتها اثنين وتسعين حكماً شرعياً ينشأ من اختلاف القراء.
لقد وقع الخلاف في فرش القرآن الكريم في 1184 موضعاً ولم نسمع أن حفصاً كفر ورشاً، أو أن قالون أفتى بقتال أبي عمرو، أو أن ابن عامر حكم بكفر الكسائي، على أساس أن ذلك خلاف في التنزيل والعقيدة تستحل به الدماء، بل ظل القراء يروون هذه القراءات على أعلى درج من التسامح وإعذار المخالف واتساع الصدر، بل إن أئمة القراء لا زالوا يتصدرون للناس يعلمونهم القراءات جميعاً بلا نكير من أحد على أحد.

وهذا الذي أشرنا إليه هو خلافهم في الفرش أما خلافهم في الأصول فهو أكبر بكثير والمقصود بالأصول عند القراء: الاختلاف في لهجة القراءة، وإنما سمي ذلك بالأصول لأنه يضبطه أصل واحد، وهو اختلافهم في المد والغنة وتحقيق الهمزات وتسهيلها وترقيق الراءات وتفخيمها ومد الميمات وإسكانها وغير ذلك وهنا فإن الاختلاف في هذا المعنى يبلغ تقريباً ثلث الكلمات القرآنية، ويمكنك القول بدون نكير أن أكثر من عشرين ألف كلمة في القرآن الكريم تقرأ لدى القراء بأكثر من وجه!

خلاف القراء الأئمة الكرام في لهجة القراءة بكلمات القرآن الكريم

كل ذلك يجري خلال القرون الخيرية الأولى وما بعدها بدون نكير، وتتسع صدور المسلمين هنا للقراءة والقراءة الأخرى، والرواية والرواية الأخرى والرأي والرأي الآخر، وأعلم الناس أعلمهم بخلاف الناس.

ولم يقف الأمر عند حد القراءات السبع وهي قراءة نافع المدني وابن كثير المكي وأبي عمرو البصري وابن عامر الشامي وعاصم وحمزة والكسائي الكوفييين، بل أضاف ابن الجزري القراءات الثلاث تتمة العشر وهي قراءات يعقوب الحضرمي وأبي جعفر المدني وخلف البزار، ولكل قارئ من هؤلاء الأئمة راويان معتبران يختلف كل منهما عن أخيه في روايته أصولاً وفرشاً ثم تبدأ الطرق حتى تعد بالعشرات ولكل طريق خيارات في الفرش والأصول تختلف أو تتفق مع الإمام الذي روى عنه كل قارئ، وقد ظل ذلك كله يتلى ويروى بلا أدنى نكير.

وأظن أن كثيراً ممن ضاق أفقه فجزم بتحريم الاختلاف من الغلاة لو اطلع على ذلك فإنه سيرفض القراءات ويردها على أصحابها تحت عناوين براقة تشبه عنوان لا حكم إلا لله وأن الحق لا يتعدد والخلاف في التنزيل كفر، وغير ذلك ولكنني أحمد الله أن الأمة متفقة على احترام ما أنجزه القراء الكرام في رواية التنزيل العزيز.

وقد توسع قوم في ذلك غاية لا ينبغي أن نبلغها حتى قال شيخ المفسرين من أهل اللغة الإمام الزمخشري إن اختلاف القراءات يدور مع اجتهاد الفصحاء وخيار أهل اللغة، وهو رأي لا نتفق معه بالمطلق ولكنه على كل حال رأي واحد من أكبر أئمة القراءة والتفسير خلال التاريخ.

فلماذا تعلمنا التسامح في رواية القرآن الكريم إلى هذا الحد الذي لا مزيد عليه ثم عجزنا أن يعذر بعضنا بعضاً في خلاف في مسائل من الرأي لم تكن موجودة أصلاً في زمن التنزيل الأول؟

وفي التفسير فقد تتبعت الأئمة الخمسة المشهورين من المفسرين وبحثت عن كلمة (اختلف المفسرون) أو اختلفوا فكانت في كتبهم على الشكل التالي:
• كلمة: اختلف المفسرون أو اختلفوا
• في تفسير القرطبي 363 مرة
• في تفسير ابن كثير 61 مرة
• في تفسير الفخر الرازي 930 مرة
• في تفسير روح المعاني 189 مرة
• في تفسير الطبري 215مرة

كلمة اختلف المفسرون في كتب التفسير الخمسة الكبرى

وهو يعكس لك الروح المتسامحة التي كان يتحلى بها المفسرون من إعذار المخالف وحكاية رأيه ومذهبه والرد عليه باحترام وعلم، ولعلك تتذكر هنا الهجمة الضارية التي تعرض لها الإمام الفخر الرازي حين كان يورد بإسهاب رأي الكرامية حتى اتهمه خصومه بأنه يورد الشبهة نقداً ويورد الرد نسيئة، إلى غير ذلك من الاتهامات التي وجهها بعض من قصرت معارفهم عن بلوغ معنى التوسط والاعتدال في فهم اجتهادات العلماء والسعة التي أرادها الله تعالى في هذه الشريعة وفي تفسير القرآن الكريم على وجه الخصوص.

وفي كتب الفقه تتبعت كلمة (اختلف الفقهاء) في الكتب الأربعة الكبرى في المذاهب الفقهية وهي المبسوط للسرخسي الحنفي والمجموع للنووي الشافعي والمنتقى للباجي المالكي والمغني لابن قدامة الحنفي وبالفعل فقد أمكن الوقوف على حجم الخلاف المأذون به والذي كان الأئمة يروونه على غاية من الاحترام والتقدير.

• المبسوط أكبر كتب الحنفية 85 مرة
• المجموع أكبر كتب الشافعية 335 مرة
• شرح الموطأ للباجي المالكي 75 مرة
• المغني لابن قدامة الحنبلي 81 مرة

كما تتبعت ما ورد في هذه الكتب الأربعة من كلمة: (في المسألة قولان) أو مذهبان أو رأيان فوجدتهم يشيرون إلى آلاف المسائل وهي كالتالي:
• المبسوط للسرخسي الحنفي 188 مرة
• المجموع للنووي الشافعي 2050 مرة
• المنتقى للباجي المالكي 1088 مرة
• المغني لابن قدامة الحنبلي 1042 مرة

من المؤكد أن هذه الأرقام محايدة وهي تتبع منهجاً حاسوبياً أصم لا مكان فيه للعاطفة، وبإمكان كل باحث أن يقف عليها بجهد مماثل، كما يمكننا أن نقف على كثير من هذه الإحصائيات التي تحمل حقيقة واحدة وهي أن الأمة كانت تعيش حالة من الاحترام المتبادل وإعذار المخالف وقبول الرأي والرأي الآخر وأن هذه بالضبط هي صورة المعرفة خلال فترة العصر الحضاري الذهبي للإسلام.

إن ما حققه النبي صلى الله عليه وسلم من وضع المعرفة في سياقها الصحيح وبناء الوحدة الإسلامية على أساس من احترام خصوصية الناس وليس على أساس فرض قولبة صارمة تمنع على الناس الرأي والاجتهاد والفكر، إن ذلك الإنجاز كله هو الذي مكن النبي صلى الله من إطلاق برامج التنمية والبناء في مجتمعه الطاهر في المدينة المنورة وهو ما مكن من بعده قادة الأمة من إطلاق مشاريع البناء والتنمية في كل البلاد التي سعدت بالفتح الإسلامي.

إن ما نتطلع إليه بصدق وأمانة أن تتحول تلك التربية النبوية العظيمة إلى سلوكنا اليوم وأن يتلقاها شبابنا المتحمس والذي لا يرى للحق إلا لوناً واحداً، وتسود عنده عبارات ظلامية مخيفة لا تشبه في شيء روح التسامح الذي قرأناه في صدر تاريخ هذه الأمة مثل: الحق ما قلناه ومن قال بخلافه فقد كفر وارتد وحل دمه وماله، أو القول ما قلناه ومن قال بخلافه فقد كفر يستتاب وإلا قتل!!
أو قولهم لا يحل خلاف في هذه المسألة ومن قال بخلاف ذلك فقد ارتد ولحق باليهود والنصارى وهي عبارات يمكنك أن تتبعها في كتب المتشددين بالطريقة إياها التي استخرجنا بها من فقه الأئمة روح التسامح والمحبة.

إن هذه القضايا التي نناقشها ليست فضولاً من القول وإنما هي مسألة فاصلة حاسمة، وما لم تسد الروح الوسطية المعتدلة المتسامحة في الأمة فإننا لن نستطيع المضي قدماً في التنمية والبناء واستعادة دورنا الحضاري الذي كنا خلال التاريخ نقود فيه الإنسانية بروح القرآن الكريم التي بشر بها الرسول الأعظم: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

وفي نهاية ورقتي فإنني أوجز ما شرحناه من خلال هذه اللوحة المختصرة بهدف المقارنة بين ما ذهب إليه التيار العلماني وما ذهب إليه الغلاة، وبيان منهج الوسطية في فهم الشريعة الحنيفية السمحة:

إن الوسطية المأمولة التي نبتغيها هي ثقافة الوحدة والجماعة، ثقافة إعذار المخالف، ثقافة شرحها الله عز وجل بقوله: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً

ثبت المصادر والمراجع
تم الاعتماد في الجداول المرفقة على مقابلات حاسوبية دقيقة بإشراف مركز الدراسات الإسلامية بدمشق

أما المصادر الأخرى فهي:
• صحيح البخاري ط دار ابن كثير بيروت 1987 تعليق مصطفى البغا
• صحيح مسلم ط دار إحياء التراث العربي بيروت تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي
• سنن ابن ماجه ط دار الفكر بيروت تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي
• المعتمد في أصول الفقه ط دار ندوة العلماء دمشق 2002
• الفتاوى الكبرى على مذهب الإمام أبي حنيفة ط دار التراث العربي 1988
• مغني المحتاج للخطيب الشافعي مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي 1958
• حواشي الشرواني لم نحصل على نسخة مطبوعة والمرجع هو موقع يعسوب
• حاشية البجيرمي على الخطيب دار إحياء التراث العربي 1984
• نهاية الزين بشرح قرة العين لم نجد النسخة المطبوعة وهو موجود على موقع المشكاة الإسلامية
• مسند الإمام أحمد بن حنبل ط مؤسسة الرسالة تحقيق شعيب الأرناؤوط الطبعة الثانية 1999
• الشامل في القراءات للدكتور محمد حبش ط دار الكلم الطيب – دمشق 1999
• البرهان في علوم القرآن للزركشي ط دار المعرفة بيروت 1971
• الإحكام في اصول الأحكام لابن حزم الظاهري ط دار المعرفة بيروت 1979

Related posts

جرائم الشرف بين الشريعة والقانون

drmohammad

د.محمد حبش-قصتي مع النظام …

drmohammad

د.محمد حبش- هل ما نحن فيه محض إنتقام إلهي؟ 6/11/2016

drmohammad

Leave a Comment