Uncategorized

استوصوا بالقبط خيراً…. د.محمد حبش

استوصوا بالقبط خيراً فإن لكم فيهم ذمة وصهراً….

هكذا تحدث النبي الكريم بالعربية، وهو يبتسم وينظر ملء عينيه لزوجته الجديدة مارية القبطية التي أهداها له ملك مصر المقوقس القبطي، فأعتقها وأكرمها وتزوجها واختارها أماً للمؤمنين، وأنجب منها طفله الجميل ابراهيم، واتخذ له ولأمه داراَ في العوالي وكان يمضي فيه أروع أيام الرومانس والدفء والحب الحلال، وكان بداعب ولده الرائع ابراهيم الذي كان يأمله خليفة له من بعده، يحمل طيبة المصريين وعذوبتهم قبل أن يخطفه منه سلطان القدر.
ولكن النص الانكليزي الذي أطلقه الأشرار المقنعون لا يشبه هذا في شيء، وفيه يقول الذابحون: الحمد لله الذي أرسل محمداً بالسيف رحمة للعالمين، ويقول: نحن نذبح الأقباط الذين ينتمون الى الكنيسة القبطية الشركية، مصداقاً لما بشر به نبي الملحمة من ذبحهم في دابق …..
إلى من ينتمي هؤلاء الأشرار؟
لقد سئمنا القول إنهم مؤامرة دولية تشارك فيها الامبريالية والصهيونية والرجعية الدولية، وآن لنا أن نتحدث بروح أخرى يمليها الضمير.
لا يمكنك هنا أن تتحدث هنا محض محلل سياسي يلتزم الحياد، فروح الإنسان أعظم عند الله قدراً من أن نجللها برداء التكاذب، والأمر أكبر من مجرد تحليل سياسي هائم في عالم من الجريمة والحقد، لقد حان الوقت لقول الحقيقة الكاملة…
يتحدث الذابحون الانكليزية ولا يبدو في خطابهم أي إشارة إلى مآسي أو مظالم، ولا حديث أبداً عن الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، القضية ببساطة من وجهة نظرهم تطبيق لنص تاريخاني يتفاعل في قناعاتهم السوداء، يتحدث عن جانب من علامات الساعة وما يكون في آخرالزمان، يرد فيه ذكر دابق، حيث مضى الذابحون يغرسون سكاكينهم اللئيمة في أعناق عمال أقباط لا في العير ولا في النفير ألقت بهم أقدارهم السوداء إلى أخطر بلد في العالم، يبتغون لقمة العيش وأكل العيش مر، يذبحونهم بدم بارد ويعلنون أن المشهد الأسود الذي تشاهدونه هو إرهاصات إعجازية لما أخبر عنه رسول الله في معركة دابق!!
ودابق بلدة قرب أعزاز على حدود السورية التركية، وقد اتخذت داعش اسم دابق عنواناً لموقعها الالكتروني وجريدتها التي تبشر بها بالاسلام الآتي، وهي رسالة كافية لفهم عاصمة هذا السلوك الوحشي المنغمس بالدم.

والنص كاملاً كما رواه الامام مسلم:
لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون، فإذا جاءوا الشام خرج فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه و سلم فأمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته….
والنص من حديث مسلم، وهي نصوص لا يسمح عادة بالاقتراب منها على أساس أنها من المقطوع بثبوته الذي لا يحتمله الشك، وقد نقلوا سلسلة فتاوى في تحريم رد أي حديث في الصحيحين، وأن من رد منها حديثاً فقد خرق الإجماع، وهي تهمة توصل قائلها إلى قريب من الحكم بالردة.
اليوم ونحن نشاهد الدماء البريئة التي تشخب على ضفاف المتوسط، في مشهد الهول الذي أراده الذابحون وصوروه بحرفية ومهنية عالية، سيكون من الكفر أن نغمس رؤوسنا في الرمال مرة أخرى ونقول للعالم إن هؤلاء حصائد مؤامرات خارجية، وإن القوم لا ينطقون العربية، ولا ينتمون إلى ثقافتنا في شيء.

لقد روينا هذه الأحاديث على المنابر، وكانت حروفها تطرق الأسماع بمشاهد هول تحفه العجائب، ولكننا لم نشأ يوماً أن نصور هذه العجائب اللعينة بصورة الواقع الحقيقي الذي نشاهده اليوم، وماذا يعني تمجيد روايات كهذه تبشر بالموت والذبح، وما هو هذا النبل اللئيم الذي يبتغيه المشاركون في ملحمة حقيرة كهذه؟؟؟
لم نجرؤ ان نقول إن هذا الحديث مصادم بالمطلق لمنطق القرآن الكريم: قل لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء،
وأن الامام مسلم ذلك الشيخ النيسابوري الكريم الذي عاش على الحدود الإيرانية الأفعانية يروي ما يرويه بعيداً عن أرض النبوة بخمسة آلاف كم، وبعيداً عن زمن النبوة بمائتي عام، ولا تتوفر لديه أية مستندات مصدقة ومختومة ومراقبة من أي جهة توثيق، وإنما هي حكايات عن بلاد الروم يرويها مسافرون عابرون تنسب إلى نبي كريم لم يقم بأي زيارة خارج الحجاز طول عهد نبوته.!!

لا أنكر جهد الإمام مسلم وعلمه وضبطه، ولكنني أرفض بكل تأكيد منح العصمة لإنسان، وأعتبر القول بعصمة كتابه أبلغ إساءة إليه، ولا أشك أنه لو عاش أطول مما عاش لراجع ما روى، وعلى ضوء القرآن الكريم وضياء العقل فإنه لا شك سيرد كثيراً من الروايات المتهالكة المسيئة للإسلام، ومن الممكن أن تكون رواية نصوص كهذه أمراً عادياً في القرن التاسع الميلادي حيث يؤمن العالم بحق المتغلب، وحيث كانت حدود الدول هي ما ترسمه السيوف، ولكن لا يمكن على الإطلاق قبول روايات كهذه بعد ألف عام.

لم نجرؤ على القول بأن روايات كهذه تشجع على سبي النساء، وتمجد الذين يدافعون عن هذا السلوك الهمجي المتوحش، وبدلاً من أن يكون مكان المسلم هو رسالة الإعتاق ومنح الحرية للناس، فإنه يقاتل ويحارب من أجل الدفاع عن البلطجية الذين يقومون بسبي النساء، وهو عمل لا يتصور في الدنيا أكثر منه خسة ودناءة وبشاعة.

لقد بقينا نروي روايات كهذه على أنها عجائب العالم الأخير، ولم نشر أبداً إلى هذه النهاية السادية للإنسانية، التي تفترض وجوباً أنهاراً من الدم قربانا لنزول المسيح عليه السلام الذي قال للعالم: والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً.

لم نجرؤ أن نقول أبداً إن أشراط الساعة كلها وهم مناقض للعقل ولصريح القرآن الكريم: يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عن ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
لم نجرؤ على القول بأن الرواية بغض النظر عن حمولتها الايديولوجية كاذبة وغير منطقية فقد فتحت قسطنطينية ولم ينزل المسيح، وقد مضى على ذلك نحو ستمائة عام، فيما تتحدث الرواية الهائمة عن رجال الفتح الذين يفترض أنهم أصحاب محمد الفاتح 1453 وأنهم شاهدوا المسيح وصلوا وراءه، وهو كذب لا يوجد في الدنيا أوضح منه، يجب أن يبرأ منه كلام الأنبياء.

وسيكون أمراً محزناً أن يتولى بعض الكهنة من أصحابنا الرد على داعش بأن الحديث وارد في دابق قرب أعزاز بحلب وأنتم تقاتلون في ليبيا، وكأن الذبح والقتل يجوز في جغرافيا حلب ولا يجوز في الجغرافية الليبية، وكأن الذبح الموعود في دابق سيكون بالشكوكولا فيما تمارسه داعش بسكاكين الموت!!.
وسيتولى آخرون إعادة قراءة الرواية بتأويل جديد للجمع بين ما ورد فيها من نزول المسيح يوم فتح القسطنطينية وافتراض مزيد من ميثولوجيا الخرافة لتبرير التناقض الفاضح في صك الرواية.

إنها محض صرخات جريحة في لحظات مرارة وبؤس، أكتبها وأنا أشاهد مذبح الإنسانية تحت سيوف احترف أصحابها التكبير عند كل جريمة، والأشد لؤماً ونكاية أن تكون هذه التكبيرات والجرائم شيئاً يبذلونه في سبيل الله أو يتصورون أنهم يفعلون ذلك.
لا أستطيع أن أهرب من الحقيقة التي تفقأ العين، وهي أن هناك إسلامان اثنان: إسلام رحمة وإسلام ذبح، إسلام حكمة وإسلام دم، وهيهات أن يكون هناك وجه لوحدة بين هذين الفهمين المتلاعنين، ولكن ما لا يجوز السكوت عليه بعد اليوم هو أن مصادر الفريقين واحدة، وأننا لم ننجح أبداً في تمييز مناهجنا في تعليم أبنائنا عن مناهج التطرف، ولا زال صحيح مسلم مرجعاً للفريقين يحرم الإدلاء بأي نقد حوله، ويجب أن نبقى إلى يوم القيامة نمارس التكاذب الأبله القائل بأنهم لا يفهمون مراد الرواية، وأن تفسيرها في مكان آخر.
أرجو أنني لم أكن سمجاً في طرح مقال تأويلي تاريخاني في تفسير آخر ما ارتكبه الشر على مذبح الإنسانية.

Related posts

الصراع في ثوب العقيدة- أردوغان وماكرون

drmohammad

القراءات المتواترة

drmohammad

د.محمد حبش-نحو فقه إسلامي مناهض للتعذيب

drmohammad

Leave a Comment