مقالات

د محمد حبش- الجهاد وحوار الحضارات 2003

هل ما زلت تؤمن بحوار الحضارات؟ في أجواء التوماهوك والكروز والأباتشي؟

لا حديث هذه الأيام إلا عن الحرب، وسائل الإعلام مؤجرة بالكامل للحديث عن الحرب وتبعاتها، حتى فنانو هوليوود جعلوا من الأوسكار هذا العام موقفاً سياسيا صارخا ضد الحرب حين وقف المخرج الأميركي مايكل مور الذي حاز جائزة افضل فيلم وثائقى عن “بولينغ فور كولومباين” وقال صارخا “نحن ضد الحرب سيد بوش عار عليك”. وقال مور فى وقت لاحق : يريدون أن نكون هناك (فى العراق) فقط لان العراقيين يملكون ثاني اكبر احتياطي من النفط في العالم”. والأمر نفسه تبناه عدد من فناني هوليود مثل بدرو مودفار الإسباني و مات ديمون وجيسكا لانغ، وبربارة ستريسند، وهي مواقف تمنينا لو أوتيها بعض أصحاب الفخامة والسيادة والجلالة والسمو والعظمة من (حكام العرب) هذه الأيام! .
هذا الواقع الصارخ كان يطاردني بمرارة وأنا أغادر الوطن في الأسبوع الماضي إلى السويد تلبية لدعوة من جامعتي لوند أعرق جامعات البلاد الاسكندنافية، وجامعة فاكسهو في الجنوب السويدي أيضاً.
ماذا يمكنك أن تقول في هذه الأيام الرديئة؟ وهل أبقى لك المستر بوش شيئاً تحاور فيه أو تتحاور فيه؟
الخطاب الذي نحمله عادة إلى أوربا وأمريكا بضاعة واحدة، وهي الحديث عن حوار الحضارات ولقاء الديانات، في مواجهة الصيغة العدوانية السائدة وهي الحديث عن صدام الحضارات، كما عبر عنه صمويل هنتغتون أو بشكل أكثر وقاحة وتهوراً : الحرب الصليبية الجديدة كما عبر السيد بوش نفسه!!
هذه المرة كان الأصدقاء هنا في الشام يحاولون إقناعي بإلغاء هذه النشاطات والبحث عن سبل أكثر فاعلية في خدمة قضايانا في الداخل والخارج،على أساس أن الآخر الذي سنمضي اليوم لمحاورته غير موجود بالمرة! وهو هذه الأيام سائل اللعاب للنفط العراقي ويعيش قلباً وقالباً مع الفرسان المارينـز الحاملين شعلة (الانبثاق) الحضاري للنظام العالمي الجديد، وفق النمط الغادر الذي حققه في الماضي فرسان الكاوبوي الأمريكان مع أصحاب الأرض الأصليين من الهنود الحمر، وذلك بالغدر نفسه حسب ما تسمح به إمكاناتهم (الثقافية) من باتريوت وأباتشي وإف 16 ويخلق ما لا تعلمون!
وددت لو أفعل، فكثير من المثقفين كسروا أقلامهم هذه الأيام الرديئة وراحوا يبحثون عن قاطرة يركبونها في موكب الشاعر اللبناني الكبير خليل حاوي الذي اختار أن يعبر بالرصاص عن إخفاق الأمة العربية عن حماية عاصمة عربية(بيروت)، في السادس من حزيران 1982 عقب الاجتياح وكانت آخر مقالاته إذن في صدره بالحبر الأحمر!
محنة المثقف أنه لا خيار له في خوض معركته أيضاً، وإن كان الإعلام يبدو هذه الأيام غير عابئ بها بالمرة ولكن لا بد مما ليس منه بد، وهكذا كان، حزمت حقيبتي الصغيرة في صمت، وتوجهت إلى السويد،بعد بدء الحرب بأيام.
كنت أشعر تماما في عيون هذا الشعب السويدي العريق كراهية الحرب ورغبة في تجنب آثارها المدمرة،بالتأكيد لم ينشأ ذلك من فراغ فللشعب السويدي تجربة جد مرة مع الحرب والحروب ذاق خلالها الأمرين.
في جامعة لوند تحدثت مطولاً عن رؤيتنا كمسلمين للحرب ورغبتنا في السلام، ومن زاوية فكرية بحتة كنت أتحدث عن موقف الإسلام من الحرب والسلام.
كانت كلمتي في جامعة فاكسهو مختلفة فقد خصصتها لشرح كلمة الجهاد، حيث تعتبر كلمة الجهاد هي المرادف المباشر لكلمة الإرهاب في القاموس السياسي الغربي هذه الأيام، وبصورة أكثر بجاحة فإن مارغريت تاتشر كتبت في مقال لها في الغارديان العام الماضي تطالب بالمواجهة العسكرية فوراً مع الإرهاب الإسلامي المسمى بالجهاد!! ولذلك فقد كانت القاعة حاشدة برجال الإعلام والصحافة وكان الانطباع السائد أن ثمة فرصة غير عادية لنستمع في السويد من أصولي سوري عن مشروعية الإرهاب وفق العقيدة الإسلامية!!
بالطبع المشهد لدينا واضح تماماً فنحن نفرق جيداً بين الكفاح المشروع والإرهاب الممنوع، وفي اللقاء قدمت لهم الأدلة الواضحة من السنة النبوية والقرآن التي تقطع أي شك في أن النبي الكريم كان أحرص الناس على حقن الدماء وأن غزواته التي خاضها وهي في الحقيقة ستة فقط وليس كما هو سائد سبع وعشرون غزوة،حيث درج المؤرخون على إطلاق اسم الغزوة على كل لقاء بين النبي وخصومه سواء حصل فيه قتال أو لم يحصل، أما الالتحام الذي جرى بينه وبين أعدائه فلم يكن في الواقع إلا الدفاع المشروع عن النفس، ومن العجيب أن هذا الدفاع المشروع عن النفس ظل حراماً على المسلمين خمسة عشر عاماً من عمر الإسلام، ولم يكن مسموحاً لهم حتى الدفاع المشروع عن النفس، وذلك في موقف فريد يعكس وعي النبي الكريم بالجانب السياسي والأصول الاجتماعية، فمن غير الوارد أن يخول الأفراد تحصيل حقوقهم بأيديهم عن طريق العنف، وذلك سينشأ منه كما قال غاندي: إن تطبيق قاعدة العين بالعين سيجعل الجميع عمياناً!، وهو بالتأكيد يرسم ظلال شريعة الغاب، وهكذا فقد ظل استخدام القوة حراماً حتى في إطار الدفاع عن النفس إلى أن أسس النبي الكريم دولته وجيشه وعند ذلك شرع القتال، وباستعراض سريع لغزواته  فإن الأيام التي حصل فيها التحام بين النبي وخصمائه لا تتعدى ستة أيام وهي تحديداً أيام بدر وأحد والمصطلق وخيبر وحنين، وهناك كلام عن يوم قريظة.
يوم بدر وقعت الغزوة عند ماء بدر وهو يبعد عن مكة أكثر من ثلاثمائة كيلومتر وقد سارت إليها قريش بخيلائها وجبروتها لمحاربة النبي الكريم ، أما أحد فإنها وقعت في ارض المدينة حيث سارت قريش لمحاربة النبي الكريم أكثر من أربعمائة وعشرين كيلومتر، وفي الخندق فإن النبي الكريم حفر الخندق حول المدينة وهي مكيدة لم تكن تعرفها العرب في محاولة منه لحقن الدماء، ومع أن قريشاً ظلت تستفزه أربعين يوماً حول الخندق ولكنه لم يشأ أن يأذن بأي قطرة دم تراق هناك وظل صامتاً خلف خندقه!!
كان فرسان قريش وغطفان ينادونه من وراء الخندق: يا محمد ! أليس تزعم أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟ فاخرج إلينا! ومن كلام عمرو بن ود العامري يومذاك:
ولقد بححت من النداء لجمعهم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المناجز موقف القرن المناجز
ومن كلام ابن الزبعرى:
شهرا وعشرا قاهرين محمدا وصحابه في الحرب خير صحاب
لولا الخنادق غادروا من جمعهم قـتلى لطـير سغب وذئاب
ومن كلام كعب بن زهير:
فأحجرناهم شهراً كريتاً وكنا فوقهم كالقاهرينا
نراوحهم ونغدو كل يوم عليهم بالسلاح مدججينا
فلولا خندق كانوا عليهم لدمرنا عليهـم أجمعيـنا
ولكن حال دونهم وكانوا به من خوفنا متعوذينـا
وهكذا كانت رغبته العارمة بالسلم تمسك عليه أنفاسه فلا يستجيب لاستفزازهم في شيء.
الشواهد من حياته وجهاده كثيرة ، كان ذلك يثير استغرابهم ودهشتهم، أين هو إذن ذلك النبي الذي يرسمه لنا الإعلام الغربي على هيئة السفاح المتعطش للدماء، لا ينزل عن حصانه، ولا ينثلم سيفه، ولا يرحم أعداءه؟ كما يقدمها لنا جيري فاليويل وبات روبنسون وجيمي سواغارت وجو أشكروفت من رجال الإعلام والسياسة في الغرب؟؟
إنني سعيد أنني تمكنت من إيصال قراءتي للموقف الإسلامي ضد سفك الدماء، وسعيد أن يطلع المثقف السويدي على ذلك مباشرة عبر (أصولي) سوري، وشعرت أن الرسالة كانت ناجحة عندما أجرت معي الإذاعة السويدية لقاء مطولاً ، تبعته ثلاث لقاءات مطولة في الصحف السويدية الرئيسية الثلاث، نشرت على التوالي أواخر الأسبوع الماضي، وهي تحمل عناوين كبار حول رفض الإسلام للعنف بكل أشكاله وتشوفه لبناء الحياة على أكمل الأسس من احترام الإنسان.
ولكن أليست مشكلة أن تتحدث عن تشوفنا في الشرق للسلام في حين أن الغرب قادم بألويته ومتاعه وعتاده وعناده في البر والبحر والجو ليواجه شعبنا في العراق، ويضرب في المستشفيات والأسواق، وفي قلب المدن وذلك تحت عنوان: تحرير الشعب العراقي!! لقد قلت لهم: كيف يمكنك أن تتحدث عن حرية شعب تقوم أنت بذبحه كل يوم؟ كيف يمكنك أن تدعي أنك تسعى لرفاهية شعب في حين أنك تمطره بالقنابل العنقودية وطائرات الأباتشي؟
أيهما أخطر على الوجود الإنساني اليوم: ابن لادن الذي يعيش في شعاب طوران، ربما حليقاً متخفياً لم يعد يملك إلا خطباً ونداءات يحث فيها على الجهاد بين كل حين ومين، أم ذلك الكاوبوي المتعطش للدماء ، والممسك بطاقات أمريكا الجبارة وأسلحتها الفتاكة، وناقلات طائراتها والمقيم في البيت الابيض؟؟
هل ما زال هناك معنى للحديث عن حوار الحضارات؟
إنها رسالة المثقف ، لا يمكنك أن تخون مبادئك ، مع أن الآخر يستفزك على ذلك كل يوم!!

Related posts

اغتيال التاريخ.. جرائم باسم الحرب على الأصنام – خالد الأسعد شهيد التاريخ

drmohammad

الصحوة الإسلامية…. قرار أنظمة أم خيار شعوب 6/10/2006

drmohammad

د.محمد حبش- أوروبا…. الطريق إلى الإسلام 16/2/2007

drmohammad

Leave a Comment