مقالات

د. محمد حبش- النصف من شعبان .. حدث من الغيب وظلال من الواقع 31/8/2007

قالوا عنها الكثير إنها الليلة التي تقسم فيها الأرزاق وإنها الليلة التي بدأ فيها نزول الوحي وإنها الليلة التي يطلع الله فيها إلى عباده فيغفر لكل مستغفر إلا لمشرك أو مشاحن وأنها الليلة
التي فيها يفرق كل أمر حكيم, وفيها يغفر الله لخلق عظيم عددهم عدد شعور غنم بني كلب, ويغفر فيها لكل مستغفر إلا لمشرك أو مشاحن, إلى غير ذلك من المعاني التي يتحدث عنها الوعاظ في الليلة العظيمة التي تبشر قبل خمسة عشر يوماً بهلال رمضان.‏
من الصعب أن يخرج المرء من الإسار الروحي الذي تطرحه ليلة النصف من شعبان حين يملأ بدرها الصافي صفحة السماء, ويمنحك الشعور الغامر بأن الدنيا بيضاء طهور, ويبعث لديك الشعور بالأسى بأن صفحة قلبك ليست بالنقاء الذي يرسمه وجه القمر في تلك الليلة المقدسة.‏
ولكن دعونا نفتح الحوار من أفق آخر, وربما بدافع من نزعتي العقلانية في التعاطي مع مسائل الغيب فإنني أجد منبر الثورة يسمح لي بطرح جملة تساؤلات عشية الليلة الكريمة, تتصل بالهدف الأسمى لإحياء هذه الليلة الكريمة.‏
اتفق كتاب السير أن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي تم فيها تحويل القبلة, وللتذكير فإن النبي الكريم صلى أول الإسلام إلى الكعبة المشرفة على سنة أبيه إبراهيم ولكن الله أمره فيما بعد أن يتوجه صوب المسجد الأقصى في إرادة واضحة لإظهار ما بين الإسلام وأهل الكتاب من وشائج القربى والوصال, وكان استقبال بيت المقدس مناسبة لتأكيد المشترك بين الإسلام والمسيحية والتكامل بين رسالتي محمد والمسيح وتأكيداً للقطيعة بين التوحيد والوثنية التي كانت سائدة في مكة, وهكذا فقد صلى النبي الكريم وأصحابه ثلاثة عشر عاماً صوب بيت المقدس, وهو أكثر من نصف عمر الرسالة النبوية الكريمة.‏
ولا أخفيك أن النبي الكريم كان قلقاً من ترك قبلة أبيه إبراهيم ربما بدافع وطني يتصل بالوفاء لمكة وللعرب وقريش, وربما بسبب عاطفي يتصل بارتباطه بجده إبراهيم وإسماعيل, ولكنه على كل حال فقد وجد سبيلاً لطاعة الله وتلبية هوى فؤاده, فقد كان عادة ما يتوجه جنوب البيت الحرام فيصلي صوب بيت المقدس وبذلك يستقبل القبلتين جميعاً, قبلة أبيه إبراهيم وقبلة أخيه عيسى بن مريم, ولكن الأمر لم يعد ممكناً عندما هاجر إلى المدينة وأصبح جغرافياً بين القبلتين ولم يكن ثمة بد من استقبال القبلة التي أمر بها وهي بيت المقدس, وهكذا فإنه لم يكن يكتم رغبته وضراعته بأن تكون مكة هي قبلة صلاته كما هي قبلة روحه وأشواقه.‏
مضى أكثر من عام ونصف وهو يؤدي صلاته صوب بيت المقدس في المدينة, وهو يقلب وجهه في السماء حتى نزل عليه قول الله تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره, وحين نزلت الآية لم يتردد لحظة في إعلان ذلك ولم ينتظر صبح يوم جديد, بل أمر من فوره بأن ينادى في الناس بأن الله أذن لنا بقبلة إبراهيم, وفي المدينة اليوم مسجد معروف باسم مسجد القبلتين وفيه محرابان الأول صوب بيت المقدس والآخر صوب الكعبة, وهو لا يزال شاهداً حياً على فرح النبي الكريم باستجابة السماء لاقتراحه, حيث نودي في الناس بأن القبلة قد تحولت كما يريد النبي الكريم وفيما كان الصحابة يؤدون صلاة الظهر صوب بيت المقدس تحولوا وهم في الصلاة صوب الكعبة المشرفة!!‏
بالطبع لا يمكنك أن تمر بحدث كهذا دون تأمل فالإسلام هنا يدعوك لإبداء رأيك بحرية وشجاعة والنبي الكريم هنا تلقى أمر ربه صوب بيت المقدس ولكن ظل يقول إنني أرغب بقبلة مكة, وهي مظهر استقلال الدولة الناشئة ومظهر وفاء مع المؤسس الأول, وتأكيد على الاستعداد ليوم الفتح الأعظم, يوم تحقيق الاستقلال والسيادة.‏
كنت أتأمل طويلاً في قول النبي الكريم: الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم, ما معنى النصح لله ولرسوله ولكتابه? وهو سؤال بريء عادة ما نتجنبه بأجوبة بادرة ولكنني غدوت الآن مقتنعاً بأن المقصود بالنصح لله هو الدعاء الذي نمارسه في كل يوم ونحن نقول لرب العالمين: يا رب: ارزق وأعط وانصر وأهلك ودمر وشرد!! وهذه كلها مكانها في الإعراب أنها فعل أمر!! وحين نخفف اللهجة فنحن نقول إنها صيغ دعاء, ولكنها في المنطق السياسي إذن صريح أبيض بحرية التعبير وإبداء الرأي وتقديم الحجة والبرهان حتى أمام الله الذي يعلم السر والنجوى والذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.‏
تماما كما تمسك النبي الكريم بمعطفه أمام الله وراح يحاور من أجل تخفيف الصلوات يوم الإٍسراء من خمسين إلى خمس, وكما نصح أيضاً من أجل الاعتراف باللهجات العربية التي تخص بعض القبائل البعيدة التي لا تجيد لغة قريش حتى أذن له الله أن يقرأه على سبعة أحرف كلها شاف كاف, فإنه هنا راح هنا يحاور ويناقش ويقدم الحجج من أجل تحويل القبلة, وفق المصالح العليا للأمة.‏
على أن ذلك ليس أعجب ما في دلالة تحويل القبلة بل إن الجانب الأكثر إثارة هو موافقة السماء على هكذا تطوير وتحديث, فالأمر هنا يتصل بالثوابت بل بأكثر الثوابت رسوخاً وتجذراً وهي مسألة القبلة ومع ذلك فإن القرآن الكريم يأمر بتحويل هذا الحكم الراسخ لمصلحة المجتمع على الرغم مما سوف يثيره من عاصفة احتجاج لن تنتهي, وبإمكانك أن تقرأ في سورة البقرة وحدها أكثر من عشرين آية كريمة جاءت رداً على المشككين والمعترضين الذين رأوا في تحويل القبلة مساساً بالثوابت, ولعباً بالشريعة وقال اليهود ذلك مباشرة : إن محمداً يتلهى بالناس ويأمرهم اليوم بالقبلة التي ينهاهم عنها غداًً, فما قيمة دين لم يحسم أمر قبلته?? وعلى هؤلاء نزل رد القرآن الكريم: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.‏
أراد القرآن أن يقول إن الشريعة في خدمة الإنسان وإن الأحكام في الشريعة معللة, وأن القبلة نفسها ليس جهة صماء, بل هي أيضاً مشروع وحدوي ورسالة استقلال, وإن لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله, وأن القبلة الحق هي الله لا سواه, والشريعة واضحة مفهومة وليس فيها قدس أسرار, وتلك الآيات نبينها لقوم يعلمون.‏
النسخ ظاهرة جريئة وشجاعة في سياق التشريع, وأنا شخصياً أجد الشريعة تشدني إلى مقاصدها كلما درست بعمق ظاهرة النسخ في الإسلام فنحن هنا أمام نبي شجاع يقف أمام العالم ليقول نعم لقد أمرتكم بكذا ولكنني اليوم أنهاكم عنه وآمركم بغيره, ونهيتكم عن كذا واليوم آمركم به, لقد استجدت ظروف تقتضي التغيير ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان, والشريعة في خدمة الإنسان!!‏
هناك تيار غير قليل في الفكر الإسلامي الحديث ينكر النسخ, ويجتهد في إحياء رأي أبي مسلم الأصفهاني والمعتزلة الذين أنكروا النسخ وتأولوا الآيات القرآنية التي تتحدث عن النسخ على أنها وردت في نسخ اليهودية والمسيحية بالإسلام, ونسخ التوراة والإنجيل بالقرآن وليس نسخ القرآن بعضه بعضاً, ولا شك أنهم ينطلقون من هدف نبيل وهو استحالة أن يأمر الشرع بشيء ثم ينهى عنه, وأن هذا يستلزم النقص في كمال الله وعلمه, وأنه بدا له بعد أن لم يكن بادياً وعرف بعد أن يكن عارفاً!!‏
ومع أنني من جهة المبدأ كثير الولع بإنصاف الآراء الفقهية التي لم تنل إقرار الجمهور ولكنني أجد نفسي هنا متفقاً مع جمهور الفقهاء في إثبات النسخ عقلاً ونقلاً ويعجبني هنا بيان الإمام الآمدي بأن النسخ إبداء وليس بداء, إبداء من الله للناس وليس بداء يبدو له, إظهار من الله وليس ظهورا له, وكشف من الله وليس انكشافاً له, إنها أشياء يبديها ولا يبتديها, وهكذا فإن النسخ تغير في حال المخلوقين وليس تغيراً في حال الخالق, تطور في حياة الناس وليس تطوراً في علم الله.‏
لقد مضى القرآن ليقرر بوضوح تغير القبلة في نحو عشر آيات متتاليات تحمل معنى التحدي المباشر لأولئك الذين حنطوا الدين في قوالب جامدة ومنعوا فيه أي تطوير أو تجديد.‏
يبقى السؤال هنا مشرعاً: ما معنى أن نشيد بالنسخ مظهر تطور وتجدد وحياة في حين أنه يتعين علينا الجزم بأن باب النسخ قد أغلق بالكلية عند موت الرسول, وما فائدة هذه الإشادة المفتعلة بقدرة الشريعة على التطور مع التسليم بأن ذلك خاص فقط بعشرة أعوام مرت قبل ألف وأربعمائة سنة, في نماذج محددة لا تتجاوز أصابع اليدين?‏
من وجهة نظري فإن مشروع تطوير الشريعة وتجددها لم يتوقف أبداً بموت الرسول وما كنا نعبر عنه بالنسخ تم تحقيقه بآليات أصولية بارعة تحظى باحترام كافة علماء الإسلام , الذين لم يقعدوا أبداً عن اقتراح الجديد والمفيد في الشريعة, تحت عناوين كبيرة وحكيمة: تقييد المطلق, تخصيص العام, تأويل الظاهر, تحقيق المناط, تنقيح المناط, تخريج المناط, الاستحسان والاستصلاح, إلى غير ذلك من عناوين كبيرة, أعتقد أن هذه المقالة تشير إليها ولا تستطيع تفصيل القول فيها.‏
دعنا نقل إنها إغراء لك أيها القارئ لدراسة علم أصول الفقه بعمق, واكتشاف القدرة الاجتهادية الحرة التي تحلى بها الفقهاء في عصر الصعود الحضاري في الإسلام, وآمل أن لا تصاب بالإحباط حين تكتشف أن هذه القدرة الاجتهادية الهائلة للأئمة في عصر المجد الفقهي قد تم منعها بضراوة في عصر الانحطاط الذي ورثنا كثيراً من تفاصيله, باختصار إذا أردنا أن يبقى الإسلام حياً فعلينا أن نأخذ من تراث الآباء الجذوة لا الرماد.‏

Related posts

د.محمد حبش- فرصتك للخلاص من التدخين 29/9/2006

drmohammad

الحرب الطاحنة على الكاريكاتور

drmohammad

إخاء الأديان

drmohammad

Leave a Comment