مقالات

اكسر سيفك

والوصية للرسول الكريم، وقد قالها بوضوح للصحابة الذين سألوه عن القتال في الفتن: إذا رأيت هوى مطاعاً وشحاً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فاكسر سيفك وليسعْك بيتك وابكِ على خطيئتك حتى تلقى الله!!

وواضح أن المقصود هو القتال في الفوضى حين يفشل الناس في عقد بيعة صحيحة لقيادة تحمي المجتمع وتوفر قضاء عادلاً ينتصف فيه المظلوم من الظالم، وهذا بالضبط هو فرق ما بين السلاح المشروع والعنف الممنوع.

أشعر بالحرج وأنا أفتح ملفاً فقهياً حول أحكام الاقتتال الداخلي بين أبناء الأمة الواحدة، وقد أصبحنا في عصر السوري المرتزق والبندقية المؤجرة، التي تضرب في كل اتجاه على كتف مستديرة، وتطلق الرصاص في عفرين وفي ليبيا وفي أذربيجان وفي إدلب وفي منبج، فأعداؤنا في كل مكان، وكل رصاص مأجور، ويكفينا أن نقول عند النار الله أكبر وسيكون قتالنا جهاداً في سبيل الله!!

ولا أكتب هذه الكلمات للمحاربين المحترفين لأنهم أصلاً لا يقرؤون ولا يكتبون، ولكنني أكتبها للشاب السوري الذي تدفعه ظروف الإحباط والقهر أن ينخرط في مافيا السلاح بحثاً عن مورد عيش فيأخذه تاجر البندقية إلى حمام الموت وهو يسبح ويهلل ويكبر، ولكنه يدرك متأخراً أنه ينخرط في رزق من حرام يقوم على قطع الأعناق وضرب النحور!!

الأصل الذي يرسم واجب المسلم في القتن هو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، وأمام نص صريح صادم كهذا لا يحتمل أي تأويل، ثارت سلسلة من التساؤلات الكبيرة، وتناوب الأصحاب على استيضاح الأمر من الرسول نفسه، وقال قائلهم: يا رسول الله هذا القاتل فماذا ذنب المقتول؟؟؟ والجواب النبوي لم يتأخر عن البيان وكشف النبي الكريم: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه!!

وهكذا فقد وقفت الشريعة موقفاً صارماً قاسياً في رفض الاقتتال الداخلي، واستخدمت أقسى عبارة تهديد ووعيد في حق المنغمسين في القتال الداخلي وهي الوعيد بجهنم للقاتل والمقتول جميعاً، وكان ينبغي لأمة تؤمن بربانية مصدر التشريع أن يصعقها هول الوعيد هذا فتكسر السيوف حال الفتن، وتعتزل الناس.

ليس التكليف بترك السيف في الفتن أمراً سهلاً بل هو بكل تأكيد أقسى من الأمر بامتشاق السيف يوم المعركة، أو قل إن شئت إن الأمرين في الشدة والعناء سواء، ولكن علينا أن نتذكر أن الشريعة التي أمرت بسل السيف يوم الجهاد أمرت بكسر السيف يوم الفتنة، وقد جاءت بيانات النبي الأكرم واضحة صريحة في ذلك، حين جاء الصحابي الكريم حذيفة بن اليمان يسأل النبي الكريم عن موقف المؤمن أيام الفتن، وتماماً كأنما كان يسأله عن الواقع السوري اليوم بعد أن تعبت البنادق ورهق الرصاص وتحول الصراع إلى مسرحية مكسيكية لا تنتهي.

قال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنّا كنا في جاهلية وشر، فأكرمنا الله بمبعثك فهدانا إلى هذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.

قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك يا رسول الله؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.

قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك.

والأمر هنا صريح وواضح في وجوب اعتزال الفتنة كلها مهما بدا لك هذا الخيار مرهقاً بالأوهام فإن الأمر الذي لا شك فيه أن المسلم مأمور بالهرب من الفتن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن.!!

إن الخروج من مستنقع الفتنة وإن بدا مطلباً سلبياً ولكنه في العمق أكثر من إيجابي، وهو يكشف لك عن إرادة واضحة للرسول الأعظم لحقن الدماء مهما كانت المبررات والأهداف، ولو كان ذلك على حساب الكرامة الشخصية للأفراد وهو الأمر الذي اقتحمه البيان القرآني إلى الغاية بالتعبير الصريح: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين!!

شخصياً أشعر كل يوم بمزيد من الشكوك حول استخدام السلاح في أي معنى، وأتساءل إن كان في ذنوب البشر ذنب أعظم من ذنب من أسهم في صناعة الموت المتفجر على شكل بندقية أو رصاص أو متفجرات، ولكن يردني عن شرادي معرفتي بأن البشرية لم تكن في عافية من داء القتل والهلكة قبل اختراع البارود، ويؤكد لي هنا أن المعرفة في حد ذاتها محايدة ولكنني أتساءل إلى أي مدى يمكن ان تكون صناعة الموت خدمة للإنسان؟

شخصياً لم أمسك في حياتي مسدساً ولم أطلق رصاصة واحدة في أي اتجاه وأتمنى أن ألقى الله على ذلك، ولست في حاجة لمن يذكرني بأن هذه الأحلام الطوباوية خيال سارح لا يصح أن يكون منهجاً لحراسة الأرض، وهو محض هوى تهواه ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، ولغلب الأشرار على الأرض، وأصبح الأخيار لقمة أسهل للموت، ولانتشرت الفوضى والخراب والقتل والموت في كل وجه.

ويتم التبرير بكلمات مشهورة معروفة: الاستعداد للمعركة يحول دون نشوب المعركة، ولو رأى القاتل سيفاً عند رأس الضحية لما قتله، والقتل أنفى للقتل، ولكم في القصاص حياة، وهي عبارات من ذهب، ولكن الشيطان يكمن في تفاصيلها وهي تفسر الفتح الإسلامي ولكنها تبرر أيضاً الحروب الصليبية والمغولية والاستعمارية التي أشعلت العالم كله قروناً طويلة.

كيف يمكن اليوم إطفاء الحرب الأهلية في ليبيا واليمن؟؟ ونذر الحرب الآتية في لبنان؟ شروط الموت الأربعة تتوافر لدى كل فريق: الغضب والمظلومية والسلاح والمال، ولدى كل فريق من المعاذير ما يدفعه إلى قتل أخيه وهو مرتاح الضمير، بالأدلة ذاتها التي نستنهضها من أجل الهجوم على العدو الصريح، وأصارحك القول أنني لم أعد أشعر بوجود الحرب العادلة، لقد وقعت حروب كثيرة في الأرض وخاضها فرسانها بحماس وتضحية، ولكنهم أدركوا بمرارة أن الهدف كان إرواء نزوات الثأر أكثر من مصالح الأمة العليا.

قبل عشرين عاماً كنا نتسامع ونحن صغار أن (مجرماً) ظهر في جنوب السودان، اسمه جون غرنغ، يقود مجموعة من الأبالسة والطواغيت لتدمير أمة عربية مسلمة، وكان التحريض المتواصل يجعل اسم غرنغ اختصاراً لكل أسماء المجرمين في التاريخ، فهو نيرون وجنكيز خان وتيمورلنك وإبليس اللعين وهتلر وشارون وشامير ونتنياهو، وكنت في السودان حين كانت عربات السيارات الشاحنة تحمل أبناء الخرطوم بالمئات يصيحون الله أكبر الله أكبر وهم يمضون إلى ساحات الموت في جنوب السودان ليقضوا على هذا الطاغية المجرم، وبعد سلسلة مذابح ومآسي، وبعد أن عاد عشرات الآلاف من أبناء الشمال بالنعوش، وبعد أن دفن أهل الجنوب عدداً مماثلاً من ضحاياهم، وفي لحظة عقل جلس الشمال والجنوب على مائدة التفاوض، وكانت المفاجأة، لقد ظهر ان الجنوب على حق والشمال على حق، وعلينا أن نخطو خطوة للأعلى وخطوة للأسفل، وينتهي كل شيء وتمت المصالحة وسمي الرجل نائباً أول لرئيس الدولة!!! وهو لقب لا يجوز أن يمنح إلا لمن هو أكثر المواطنين إخلاصاً ووطنية وعقلاً وحكمة، وأنظفهم سجلاً عدلياً!! وحين وصل غرنغ إلى العاصمة كان في استقباله في المطار نحو مليون سوداني!! وقفز الإعلام نفسه ليتحدث عن جهوده المبرورة الخيرة في الحفاظ على وحدة السودان وعن تضحياته لإنجاز السودان الموحد!!!!

فإلى من ستتوجه وجوه الأمهات اللاتي عصفت مآسي الموت بأبنائهن؟ ولماذا ظللنا نصر على شرف البندقية والشهادة ونحن نودع زهرات أبنائنا في قتال عابث يقتات بالموت ويعتصم بالبندقية؟

ذات يوم سيدركون أنهم ضحايا أوهام، وأن دماءهم التي سالت في الأرض كانت في سبيل الثأر أكثر منها في سبيل الحق، وأن البرامج السياسية للمتقاتلين لم تكن إلا صيغاً لتبادل اتهامات الموت، وسيتساءل الجيل الآتي: ما الذي استفدناه من شرف البندقية إذا كانت الوطن كله قد أصبح مزرعة للموت، وأن البندقية أياً كان مصدرها وموردها فهي محض سلعة لتجار السلاح الفارغي القلوب، أصحاب السحنة الداكنة والأفئدة المظلمة، الذين صنعوا ثرواتهم علقاً يستنزفون به دماء الشعوب.

بعد رحيل الإمام علي تزاحم الثائرون على باب سعد بن أبي وقاص وقالوا: أنت أولى الناس بالخلافة، رحل الرعيل الأول كله ولم تبق إلا أنت، فاغضب لنفسك، فإن من ورائك أربعون ألف سيف يغضبون لغضبك لا يسألون فيم غضبت!!

قال سعد: أريد من أربعين ألف سيف سيفاً واحداً إن ضربت به الظالم قطعه وإن ضربت به المظلوم لم يقطعه!!

كان تساؤلاً بريئاً أراد به سعد أن يمتلك السلاح الشريف البصير، الذي لا يمارس المظالم، ولكن عذراً أيها الصحابي الجليل: إن السيف الشريف الذي كنت تبحث عنه قبل أربعة عشر قرناً لم يخلق بعد!!

Related posts

د.محمد حبش- قراءة في المنطق الأمريكي للتعامل مع القضية الفلسطينية 9/2005

drmohammad

المونديال… عيال الله

drmohammad

الإسلاميون في المغرب صخب الصعود والافول

drmohammad