لم أكن أتوقع أن نتحدث في التلفزيون السوري أو إذاعة دمشق أو أن نكتب هنا على صفحات الثورة كلاماً يتناول من البابا الذي نسميه عادة بكل احترام (الحبر الأعظم للمسيحية) والذي فرحت دمشق بزيارة سلفه الشجاعة إليها وإلى القنيطرة فرحاً جعل من خطواته الوئيدة في المسجد الأموي فصلاً هاماً من تاريخ دمشق في المحبة والسلام.
نعم لقد تعودنا أن تكون كرامة البابا محفوظة في سوريا، التي تتسع لكل الإيمان الذي جاء به الأنبياء من ذرية إبراهيم وممن حمل الله مع نوح وممن هدى الله واجتبى.
ولكن تداعيات الأحداث حول التصريحات الأخيرة للبابا جعلتنا نركب هذه الموجة مضطرين، ومع ذلك فرب ضارة نافعة وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً.
وإلى جانب التعاطي الحضاري للفتوى السورية الرسمية مع القضية، وهو تعاطي يتميز تماماً عن بقية البلدان العربية فإن من المناسب أن أضع بين يديك فصلاًَ آخر من لوحة الإخاء الديني التي تتميز بها سوريا.
مع تفاعل القضية والحصول على الترجمة الرسمية لخطاب البابا عبر السفارة البابوية أصبح لزاماً عليك أن تتحرك في جدل كهذا، وعلى الفور تنادينا في مكتب لجنة العمل الإسلامي المسيحي المشترك، وهي لجنة تضم نواباً ورجال دين من أبناء سوريا مسلمين ومسيحيين لبحث ما يمكن عمله، وتلوت لهم الترجمة الرسمية لكلام البابا، وهي تتضمن بشكل سافر اتهام الإسلام بأنه انتشر بالقوة، على الرغم من أن المسلمين في العالم الإسلامي كله اليوم يشعرون بأنهم يعانون من المظلومية، ويتهم الفلسطيني المقاوم بأنه إرهابي وتحاسب سوريا بتهمة الإرهاب لأنها قدمت له الكوفية والعقال!! ويتهم اللبناني المقاوم بالإرهاب وتحاسب سوريا لأنها توفر له الكهرباء والبطانيات، ويتهم العراقي المقاوم بالإرهاب وتحاسب سوريا بتهمة الإرهاب لأنها لم ترسل جيشها إلى العراق لحماية المحتل ولم تهلل له وتكبر، فيما لا يتحدث العالم عن القنابل الإسرائيلية الفتاكة، ولا يرى سبباً لإدانة الإدارة الأمريكية التي تقدم له كل شيء من الميركافا إلى العنقودي إلى الباتريوت.
الإسلام انتشر بالقوة ولم يخلف وراءه إلا شراً!! هذا على الأقل مفهوم التصريحات التي أدلى بها البابا نقلاً عن الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليوغوس.
لا بد من مخاطبة البابا مباشرة وطلب الاعتذار منه إذا كنا نريد لهذه الفتنة أن تسكن، ولكن كيف سنتصرف؟
لم يكن لدينا حرج من تناول المسألة مع الأعضاء المسلمين في اللجنة فهم غاضبون كسائر المسلمين، وهم يقرؤون قول الله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، ثأراً للكرامة الإسلامية التي شعرنا بأنها تمتهن عبر اتهام الإسلام بأنه انتشر عبر القوة في الأرض.
وكذلك فإن المطارنة من المسيحيين الشرقيين كانت لهم مواقف مشابهة حيث رأوا في تهجم البابا على الإسلام كلاماً غير مقبول أبداً يعزز القطيعة بين الشرق والغرب ويهدم الإخاء الديني، وقد صدر عن الكنائس الشرقية ما يفيد أنهم وقفوا هذا الموقف من التصريحات الأخيرة للبابا، وخاصة في البيان الواضح والجريء الذي أطلقه سعادة المطران باسيليوس منصور عضو لجنة العمل الإسلامي المسيحي المشترك ونشرته الصحف السورية الرسمية.
ولكن الحرج كان من رجال الدين الكاثوليك الذين ينتمون هرمياً للفاتيكان ويتعين عليهم أن يدافعوا عن خيار إدارتهم، ولكنهم هنا مدعوون لقول كلمة الحقيقة، وأن يقولوا بوضوح ما يعتقدونه في هذا السبيل.
كانت المفاجأة أننا لم نبدأ الكلام حتى بادرنا المطران إيسيدور بطيخة بموقف في غاية التعقل والوطنية والإنصاف وقال بصراحة: نشعر تماماً بأن البابا قد أساء في استشهاده هذا بالامبراطور الروماني الذي هاجم الإسلام، ونطالبه بأن يمتلك الجرأة والشجاعة ليعتذر للمسلمين من تصريحاته التي آلمتهم!!
وقال كيف يكون الإسلام مشجعاً للعنف وهو من قال: من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
من وجهة نظري فإن المطران قد عبر بصراحة عن حبه للبابا فالمحب صادق وناصح، وصدقه ونصيحته لا يتعارض أبداً مع محبته واحترامه، وصديقك من صدقك لا من صدقك، وهنا فقد اتفق الرأي على أن يكون المطران إيسيدور على رأس لجنة الصياغة لبيان لجنة العمل الإسلامي المسيحي المشترك الذي سنخاطب به حاضرة الفاتيكان.
إنه دليل جديد على سمو الإخاء السوري بين المسلمين والمسيحيين، وهو بكل تأكيد يحملك على الاطمئنان بأن تاريخ الإخاء بين الديانتين أكبر من أن تعكره رياح الكراهية التي أصبحت اليوم أبرز الصفات التي تميز بين الشرق والغرب.
سوريا روح واحدة، تشعر اليوم أكثر من كل وقت مضى بأنها مؤتمنة على تراث الأنبياء، وعلى الوفاء لخاتم المرسلين محمد عليه صلاة الله وسلامه ونوره.