مقالات

د.محمد حبش- زواج المسيار وأشياء أخرى 9/6/2006

أجاز مجمع الفقه الإسلامي في مكة المكرمة في خطوة جريئة ومفاجئة زواج المسيار الذي ظل محل جدل واسع منذ أكثر من عشرين سنة ولا زال.
أما كونها جريئة فلأنها جاءت من حيث لم نكن نحتسب فقد عودنا المجمع على الحيطة والحذر الشديد في فتاويه الأمر الذي حال دون أن تأخذ المبادرات الحقيقية سبيلها للتنفيذ، وأما كونها مفاجئة فلأن معظم أعضاء المجمع سبق أن قدموا فتاوى مختلفة، تحدثوا فيها عن حرمة زواج المسيار ونكاح الأصدقاء، وهكذا فإن خطوة مجمع الفقه الإسلامي تبدو مختلفة عن تاريخه الذي غلب عليه الاتجاه المحافظ، والتردد في الاستجابة للتطورات الحياتية.

وزواج المسيار أمر لا وجود له في الفقه الإسلامي بهذا الاصطلاح في الماضي، والمسيار كلمة عامية لا دلالة لها مباشرة في قواميس اللغة، ولم ترد على الإطلاق لا في القاموس المحيط ولا في جواهر اللغة ولا في غيرها.
وبالطبع فإن المقصود بكلمة المسيار هي الرجل الدائم السير تكون له أعمال في عدد من البلدان فيضطر للمبيت أياماً هنا وأياماً هناك فيلجأ للزواج السري في بلد الإقامة المؤقتة ويتخذ امرأة يلقاها كلما زار تلك المدينة فيبيت عندها وفق عقد زراج مكتوم في الغالب، وقد ظل هذا سلوكاً مكتوماً لأمد طويل إلى أن اتخذت هذه المسألة طابع الظاهرة في الخليج العربي فأصبح الحديث عنها لوناً من البحث عن الاجتهاد في الشريعة.
وأما زواج الأصدقاء أو ما أسماه الشيخ الزنداني زواج الفرند، فالمقصود به هنا هو الزواج بدون اشتراط السكن فهو زواج تام الأركان والشروط من العقد والولي والإشهاد والإشهار، ولكن لا يتوفر فيه سكن فيكون الزوج والزوجة كل في مكان سكناه ولكن يتلاقيان في أوقات محددة حيث يتوفر لهما سكن أو مبيت.
وكان المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الثامنة عشرة في مكة المكرمة، نيسان الماضي قد ناقش جملة من القضايا المعاصرة، منها تسعة أنواع من عقود الزواج المستحدثة، وهي زواج المسيار و”المقيد بالإنجاب” وبـ”شرط الطلاق” و”العرفي” و”السر” وبـ”نيّة الطلاق” و”المدني” و”الأصدقاء- فريند” و”الزواج المؤقت”، إضافة إلى قضايا أخرى، مثل “حق المرأة في الخلع” و”تحديد جنس الجنين” وغيرها، وقد اجتمع ستون عالماً على مدى أربعة أيام، وناقشوا هذه المسائل وقد توصلوا إلى جملة قرارات، منها جواز نكاح المسيار ونكاح الأصدقاء.

ومن الواضح أن مجمع الفقه الإسلامي أخذ برأي السادة الحنابلة في إقرار الشرط في العقد وهو مذهب كان يتحرج منه السادة الشافعية والحنفية وكانت العبارة الشائعة في ذلك: صح العقد وبطل الشرط.
والعقد مع الشرط قد يكون أقرب إلى روح الإسلام الذي أرد للزواج أن يكون عدة للمرأة والرجل في بناء حياة سعيدة، وطالما طالبتُ في الماضي بأن يكون عقد النكاح واسع التفصيل بحيث يتضمن الشروط المختلفة التي تناسب حاجة الطرفين، والتي لا نحتاج إلى كثير وعي لندرك أنها لا تتعارض مع مقاصد الزواج في بناء الأسرة.
وأجد نفسي متفقاً مع قرار المجمع الفقهي في عدد من المسائل التي طرحها من حيث الأمر المتعلق بتخفيف الشروط على طرفي عقد النكاح فأزمة العنوسة أزمة خانقة وهي تحتاج لحلول عملية، وليس سراً أن يقال إن كثيراً من النساء بحاجة إلى ظل رجل، لأسباب متعددة، خاصة في مجتمع أدمن شبابه على السفر وعادة ما يعودون بما يشاؤون من فتيات الأحلام من الشرق والغرب، ويستعملون أقصى ما ورد في الشريعة من رخص للنكاح في حين أن الفتيات لا يجدن الفرص إياها ولا يوفر لهن المجتمع الظروف المناسبة لاختيار شريك الحياة والسعي إليه الأمر الذي يجعل كثيراً منهن يمضين الأيام والسنين وربما العقود في انتظار فارس الأحلام على فرسه الأبيض أو الأسود أو الأعرج والذي قد لا يأتي أبداً في كثير من الأحيان.
ولكنني أجد نفسي مختلفاً اختلافاً حاداً مع اختيار المجمع حين سكت عن شرط الإعلان في الزواج، وترك الأمر لتقدير الزوجين الأمر الذي يعني إمكان التكاتم والسرية في هذا اللون من العلاقة الزوجية، وهنا أذكر بالشرط الحكيم الذي وضعه فقهاء المالكية على عقد النكاح بأنه يشترط فيه الإشهاد والإشهار، وأن التواصي مع الشهود بالتكاتم في أمر النكاح يفسد النكاح ولا يحقق أغراضه.
إن التواصي بتكاتم الزواج سيحيله إلى نوع من الزواج السري الذي سيتلازم بالتأكيد مع ممارسة الكذب اليومي والغدر وسيلقي على العلاقة الزوجية ظلال الخيانة وتداعياتها، ولو افترضنا استمرار التكاتم فإن الأمر سيكون كارثياً حين يتوفى الرجل ويفاجأ أبناؤه وزوجته بوجود زوجة وأبناء آخرين!! وكما هو معلوم فإن مسائل التوارث منصوص عليها في القرآن الكريم هي تمليك جبري لا يصح الاتفاق على خلافه.
وبالجملة فإن وجود شروط في عقد النكاح أمر حيوي ونافع، وهو استجابة للحاجة المتحققة في تطوير الأسرة، والتزام بالوصية النبوية الكريمة : إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج، ولكن هذه الشروط لا يجوز أن تتناقض مع روح الشريعة كأن يشترط لها أن لا ترث من ميراثه، أو أن لا تنسب إليه أبناءه، أو أن لا يسجل العقد في وثائق الدولة فهذه شروط تمهد لظلم الأسرة والمرأة جميعاً وتتناقض مع روح الشريعة.
وبحسبك في معرفة موقف الشريعة من مسألة نكاح المسيار قوله صلى الله عليه وسلم (البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس).
ومع احترامي الشديد لرأي المجمع الفقهي، وثنائي على مبادرته فإنني لا أعتقد أن إطلاق القول بإباحة زواج المسيار متفق مع مقاصد الشريعة، ويجب أن يشترط في العقد الإشهاد والإشهار، وأعتقد أن من الضروري عدم فتح الباب أمام أي نوع من الزواج السري في الإسلام، وضرورة أن تكون سائر العلاقات الأسرية في إطار العلانية والوضوح والشفافية والعدالة.

Related posts

المعراج والإسراء … مشاهد في السماء وتعاليم على الأرض 25/7/2008

drmohammad

د.محمد حبش العلمانية والإسلام…. قراءة من أفق آخر 8/6/2007

drmohammad

د.محمد حبش- ستون عاما من النكبة ستون عاماً من المقاومة 16/5/2008

drmohammad

Leave a Comment