أعلم أن هذا المقال سيجلب لي المتاعب، وقلما أكتب مقالاً بدون عناء ولكن أعتقد تماماً أنه بدون متاعب فأنت لا تقدم أي شيء جديد، وبدون ألم لا يمكن أن تحلم بالشفاء، وبدون فاتورة مزعجة لن تتناول مائدة دسمة، وبدون سهر لن تحظى بما تأمله من نجاح.
فضلت ألا أكتب عن التكفيريين الذين دفعوا حياتهم على باب التلفزيون السوري ثمناً لأوهام غير مفهومة، أثارت موجة كبيرة من الحيرة والتشكيك، ولم يفهم أحد لماذا يقدم هؤلاء على الزج بأنفسهم في أتون هذه المهلكة وهم في عمر يفترض أنه سن الأمل والطموح والعمل والمعرفة، ولكن تداعيات الحادث دفعتني أن أكتب من جديد حول ظاهرة التكفير التي أصبحت ببركة الاحتلالات الأمريكية علامة فارقة للمنطقة تميزها في سائر نشرات الأخبار في الفضائيات العالمية.
المواجهة مع التكفيريين من الزاوية الأمنية واضحة ولا تحتاج إلى فلسفة طويلة، ولكن المواجهة الأدق مع التيار التكفيري إنما تتمثل في التحدي الثقافي الذي يكون من مسؤوليته أن يفسر إقدام الجماعات التكفيرية على أعمال القتل، مشفوعة بصيحات الجنة، على حد ما كان يصدره التكفيريون في الجزائر عقب كل مذبحة ببياناتهم المعنونة: جئتكم بالذبح وأنا الذباح الرحيم!!
سيقال كالعادة إن هؤلاء صنيعة الصهيونية والامبريالية والمشروع العولمي والاستكبار العالمي ومخططات السي اي ايه والموساد الإسرائيلي والمارينز إلى غير ذلك من الأسطوانة التي تزداد كل يوم فروعاً وأصولاً وحواشي، ولكن لن تجيب هذه الأسطوانة الطويلة عن سؤال التحدي الأساسي: كيف يمارس هؤلاء القتل باسم الرب وأين وجدوا الله يأمرهم بقتل الناس؟
قبل شهور قام أحد المحسنين الكرام بطباعة لوحة كبيرة “لوجه الله” وقد علقها متطوعاً محتسباً على جدران عشرات المساجد والمحلات التجارية بقصد تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وكانت اللوحة تحت عنوان نواقض الإسلام العشرة وهي من ذلك اللون الذي قرأناه طويلاً في خطاب التكفيريين، وهي لوحة مختارة من كلام ابن تيمية مطلع القرن الثامن الهجري وكان ابن تيمية قد نص فيها على أن هذه العشرة خصال كل واحدة منها مكفرة وهي تستلزم حكم الردة في حق من ارتكب واحدة منها وبالتالي هدر دمه وماله!! وعد منها الآتي:
أما نواقض الإسلام فهي كثيرة وقد ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في باب حكم المرتد أن المسلم قد يرتد عن دينه بأمور وأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله ويكون بها كافراً كفراً أكبر خارجاً من الإسلام ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض، وعد من هذه العشرة: الشرك في عبادة الله تعالى ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو لقبر، وراح يذهب في تفصيل الشرك إلى حد قوله ومن الشرك شرك المحبة لغير الله!!
وعد من أنواع الكفر الأكبر أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعاً، أما الثالث فعد منه من لم يكفِّر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر!! وعد من المكفرات أعظم الكفر من اعتقد أن هدي غير النبي أكمل من هديه أو أن حكم غيره أحسن من حكمه ويدخل في هذا الناقض: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، ويدخل فيه أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر، ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات أو الحدود أو غيرهما وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة!!
ويمكنك لقراءة عجائب أشد فظاعة أن تعود إلى محرك بحث غوغل والسؤال بين حاصرتين عن كلمة : “نواقض الإسلام” أو “هدر دمه وماله” وعند ذلك ستعرف تماماً إلى أي مدى يصبح دم الناس وأعرضهم ملهاة مبكية لدى تيار التكفيريين الذين يزعمون أنهم ينتمون إلى دين نص قرآنه الكريم بوضوح أن من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً!!
وعلى سبيل الوجبات السريعة فبالإمكان قراءة كتاب الشييخ الطرطوسي: التكفير شرع الله فأين تذهبون؟! على الرابط: http://www.altartosi.com/articles/index.html
وبالإمكان أيضاً الاطلاع على موسوعة كاملة في ثقافة التكفير في موقع دار الإسلام على الأنترنت للشيخ سعيد بن رهف القحطاني.
وعندما تقرأ على سبيل المثال نواقض الإسلام العشرة التي ينص ابن تيمية أنها توجب هدر دمه وماله ستكتشف للتو أنك ارتكبت ثلاثة أو أربعة منها على أقل تقدير!! وفي اعتقادي أنك لن تجد من الملايين العشرين التي تسكن في سوريا ممن بلغ الحلم إلا أفراداً قلائل من الذين يستحقون شرف عصمة الدم، فيما يدخل الآخرون أوتوماتيكياً إلى دائرة التكفير إلى حد يطابق ما ورد في التراث من أن بعث النار الذي يخرج به آدم يوم القيامة هو تسع مائة وتسعة وتسعون من كل ألف!!
وببساطة يمكن هنا لأتباع التيار التكفيري أن يذهبوا إلى تكفير المجتمع برمته، على أساس أنهم ارتكبوا واحداً من هذه النواقض.
فالاحتكام إلى قانون وضعي يعني ببساطة قبول القوانين التي تشرعها البرلمانات ومجالس الشعب، وهو وفق قائمة نواقض الإسلام كفر أكبر ولو اعتقد أن الشريعة أفضل!! ويدخل فيها من لم يجزم بكفر الكافرين أو شك في كفرهم، ولعلك تعلم بأنه لا يقصد هنا بالكافرين أعداء الأمة من الصهاينة بل يقصد بالطبع شرائح كبيرة من المواطنين الذين نتقاسم معهم رغيف الخبز، ويدخل فيه من توجه إلى قبر بالتعظيم أو استغاث به أو ذبح عنده، وفي ذلك يدخل حكماً من يرى العدول عن قطع يد السارق إلى سجنه!! وعن رجم الزاني إلى حبسه، وأمثال ذلك فهذه كلها يقال فيمن فعلها عاص آثم، ولكن يقال فيمن اعتقدها كافر مرتد، وهذا الكلام ليس من سطور التاريخ الغابر بل إن بعض المصلين سمعوا هذا الكلام بعينه في الأسبوع الماضي في واحد من أكبر مساجد دمشق نفسها!!
والأمثلة هنا تتوارد بكثرة فمن ترك الصلاة مثلاً صنف فاسقاً، ولكن من شك في وجوبها أو مواقيتها فقد كفر كفراً أكبر وحل دمه وماله!! ومن تركت الحجاب صنفت فاسقة ولكن من شكك في وجوبه فقد أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، وبالتالي فقد كفر كفراً أكبر، وحتى لا أتهم بالمبالغة فإنني أحيل هنا على سبيل المثال إلى ما كتبه تقي الدين الحصني في باب حكم تارك الصلاة، وهو كتاب لا يزال يطبع وينشر في سوريا، ولن يغني شيئاً عند التكفيريين أن تقول لهم هذه مسؤولية الحاكم ولها شروطها وضوابطها إذ ما أسهل أن يقول تيار التكفير إن الحاكم قد فرط في هذا الواجب الشرعي ولم يقم بقتل شعبه كما هو حكم الله!! وبالتالي فهذه مسؤولية شباب الجنة الأبرار ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.
هل يعقل أن تتصور أن تكون هذه الثقافة التكفيرية تنتمي إلى الدين العظيم الذي قال فيه الله سبحانه: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً؟؟
إنني أعتقد بصراحة أن محاسبة الناس على شأن اختيارهم الاعتقادي ليست شأن الناس ولا شأن الدولة، ولا هي شأن الحاكم ولا شأن المحكوم، إنها فقط شأن الله، قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون
أنا أعلم أن إثارة هذا الأمر لن تمر من دون عاصفة احتجاج وسيقال لنا إنكم تحركون الماء الراكد منذ زمن، ومع أن هذا المقال لا يسمي أحداً ولا يوجه الاتهام إلى أحد بعينه ولكن ذلك لن يقلل من خصومه، لأنه يواجه في الحقيقة نسقاً معرفياً راسخاً كرسته قطيعة طويلة بين مصطلح الشرعي والوضعي، وهنا أشدد أنني إذ أفتح هذا الملف فأنا لا أنفخ في قربة مثقوبة ولا أطارد طواحين الهواء، إنني أتحدث عما يطبع وينشر كل يوم ويوزع على شكل كراسات صغيرة ولوحات مزركشة ومواقع الكترونية مزوقة تستخدم آخر التكنولوجيا الحديثة، ولكنها تعيد إنتاج طاحونة القتل وربما كان إثم هذا المقال يقتصر على إدخال ما هو مكتوب ومطبوع ومنشور بآلاف الوسائل إلى الصحافة السورية “الوقورة” التي تفضل تقليدياً القفز فوق هذه المسائل وتجاوزها إلى حد “مذهب النعامة” الذي يكتفي للدلالة على عدم وجود المشكلة بدفن الرأس في الرمال وتعمد عدم رؤيتها وغض البصر عنها بإحسان وبالتالي القول بعدم وجود المشكلة على الإطلاق إلى أن يقع الفاس بالراس وتقع الكارثة.
هل سندرك أن مسؤولية المواجهة مع التكفيريين هي في المقام الأول مسؤولية الخطاب الديني الشجاع، الذي سيسأله الله والتاريخ عن مسؤوليته في التصدي لتحريف الغالين وانتحال المبطلين حتى لو صار هذا الغلو والتحريف على ألسنة أسماء كبيرة في التاريخ منحت ألقاباً سخية من مثل شيخ الإسلام وحجة الإسلام والمسلمين وخاتمة المحققين وعمدة السالكين؟؟