مقالات

د.محمد الحبش- لبيك اللهم لبيك……… رسالة السلام للعالم 21/12/2007

يكمل الحجاج اليوم ثالث أيام النسك في منى, وهو ثاني أيام التشريق بعد يوم النحر, وبإمكانهم الآن اعتبار نسك الحج قد انتهى واكتمل , كما يمكنهم أن يضيفوا يوماً ثالثاً فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى.
كنت بالطبع واحداً من مئات الملايين بل من بلايين البشر الذين يتابعون على الفضائيات مشهد الحج الأعظم, وكان يدور في الخاطر سؤال واحد: هذا المشهد العلوي المقدس ألا يرسم للعالم أبلغ رسالة سلام, حيث يلتقي ثلاثة ملايين مسلم على الأقل في مكان واحد بثياب بيضاء طهور, وعلى الرغم من اختلاف ألسنتهم وألوانهم وثقافاتهم ومكان الريب بين حكوماتهم وتقاطع مصالحهم فلا يوجد في هذا المشهد الرهيب أي قطعة سلاح ولا توجد رصاصة واحدة, وعلى الفور يبادرك السؤال: كيف تم إلحاق وصم الإرهاب والعنف بالأمة الإسلامية?‏
كل شيء في الحج يحمل ملامح السلام أحكامه وآياته الباقيات رسالة سلام, اسم مكة دار السلام وبابها هو باب السلام, وتحية أهلها السلام, ودعاء زوارها وضراعتهم اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام حينا ربنا بالسلام وأدخلنا دار السلام.‏
أليس من المدهش أن الناس هنا عرب وعجم ينتمون إلى بلدان تتلاعن موقفها السياسي, وفيهم الهندي والباكستاني, والعراقي والكويتي, والمغربي والصحراوي, والصومالي والإثيوبي, والتركي واليوناني, والأمريكي والإيراني, بل وفيهم من أرض العراق فيلق بدر وهيئة علماء المسلمين, وفيهم التيار الصدري وجبهة التوافق والائتلاف الموحد, وفيهم من فلسطين الفتحاوي والحمساوي والجبهاوي, ومن لبنان المعارضة والموالاة وهلم جرا.‏
كيف يمكن لهذه الكوادر التي تعيش في بلادها يتربص بعضها ببعض أن تتقابل هنا في ضياء النسك الشريف وهي تلهج بلغة المحبة والسلام.‏
لنتصور أن ثلاثة ملايين أمريكي من نيويورك على سبيل المثال, فيهم الأبيض والأسود, وفيهم الملياردير والهومليس, يتحركون في نيويورك وأنهم يطوفون حول امباير ستيت, ويسعون بين ساحتي ماديسون والتايمز, وأن عليهم المبيت بحي هارلم الرهيب, حيث يشاركهم أيضاً عدة مئات آلاف من تكساس وكولورادو ومن الهند والصين والمكسيك والبرازيل والشرق الأوسط, ما الذي ترصده العين العابرة في هذا الجمع الهائل? دون أدنى مبالغة سيكون هناك نحو خمسمائة ألف مسدس وبضعة آلاف بندقية وعدة آلاف من الفرق الأمنية المدربة فيها أكثر من مائة ألف (بودي غارد) على أقل تقدير, ونحو عشرة آلاف سيارة مصفحة ضد الرصاص, وأكثر من مائة ألف جهاز إنذار مرتبط مباشرة بغرفة عمليات تقود وحدات تدخل سريع, وستتولى فرق أمنية خاصة حماية المشاهير في فنادق محكمة موصدة مجهزة بالعنابر الأمنية المتطورة, إلى آخر ما يلزم وجوده من وسائل الحماية الأمنية.‏
ومع ذلك ستطالعك صحف الصباح بتفاصيل عن مئات الجرائم التي وقعت وقوائم يومية بالمخطوفين والمخطوفات, وبازارات متنافسة بشأن فديات هائلة يطلبها الخاطفون لقاء الإفراج عن المنكوبين من الزوار والحجاج.‏
هل في ذلك أدنى مبالغة? لا أعتقد.‏
والآن ثلاثة ملايين حاج أو أكثر بالثياب البيضاء ينتمون إلى مائة وتسعين جنسية حول العالم, فيهم الملك وفيهم الخادم, وفيهم الأستاذ الجامعي وفيهم الأمي, ما بيد أحد منهم سيف ولا خنجر, ولا بيد أحد منهم مسدس ولا طلقة رصاص, ولا سيارات مصفحة ولا ما يحزنون, يقفون على صعيد عرفات ويفترشون أرض مزدلفة وينامون على تراب منى, وصدورهم عارية ورؤوسهم حاسرة, ولا يصح أن يتميز فيها أحد عن أحد, في مشهد يجسد على الأرض بكل وضوح إخاء الإنسان للإنسان. هل في ذلك أدنى مبالغة? أعتقد أن العين أبلغ شاهد على رسالة السلام التي يرسمها الحج الأعظم, ولكننا نخفق دوماً في توجيه الرسالة الإعلامية الصحيحة.‏
في تاريخ الحديبية قدم النبي الكريم أدق وعي برسالة الحج في السلام وقدم أروع نموذج لاستثمار ذلك إعلامياً وسياسياً إلى الغاية.‏
مع أن مواقيت الحج الستة (ينبع ورابغ وجدة ويلملم وذات عرق وقرن المنازل) تبعد عن مكة نحو خمسين أو ستين كيلومتراً ولكن الميقات السابع الذي اختار النبي الكريم أن يحرم فيه من ذي الحليفة يقع على بعد أربعمائة وعشرين كيلومتراً من مكة, وهو أمر نمر عليه مرور الكرام ولكن التأمل في دلالته يأخذك إلى حقيقة ما يجب فهمه من رسالة السلام في الإسلام فقد أراد النبي الكريم أن تصل الرسالة إلى قريش أن محمداً يرغب في السلام ولأجل ذلك فهو يلبس ثياب الإحرام والعبادة ويفارق لباس الحرب قبل أربعمائة كيلومتر من الحرم الشريف, ومع ذلك فقد جاء الخبر للنبي الكريم أن مجموعة من نحو خمسين فتى من قريش خرجوا وقد لبسوا جلود النمور ومعهم العوذ المطافيل يقسمون بالله لا تدخلها عليهم أبداً, نظر النبي بقلق شديد إلى الأفق الغارب وقال: يا ويح قريش , لقد حمشتهم الحرب, وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين قريش, فإن أصابوني كان الذي يريدون وأن أصبت منهم قاتلوا وبهم قوة, ثم قال من رجل يسلك بنا درباً غير الذي سلكوه, ثم مشى بأصحابه عبر واد كثير الحجارة وعر الطريق حتى يتجنب لقاءهم مع أنهم كانوا أفراداً لا يتجاوزون الخمسين في حين كان معه ألف وأربعمائة قد بايعوه على الموت.‏
ولكن أهم رسائل السلام التي وجهها كان بعد وصوله إلى الحديبية فقد رفضت قريش حواره وأرسلت مفاوضين من غير قريش ليصدوه عن البيت, وكانت رسالته واضحة للجميع أنني جئت حاجاً وملبياً قال ذلك لعروة بن مسعود الثقفي ولبديل بن ورقاء الخزاعي, ولكن أوضح رسالة وجهها هي تلك التي واجه بها ثالث المفاوضين وهو الحليس بن علقمة فقد كان الحليس زعيم الأحابيش بمكة والأحابيش قوم كانوا وفدوا على مكة وجاوروا البيت بقصد خدمته وتعظيمه وخدمة زواره, وقد تمكنت قريش من إقناعهم بوجوب مقاتلة النبي الكريم على أساس أنه هرطوق مارق, يمكر لهدم الآلهة والبيت الحرام, وقد قاتلوا بالفعل في بدر وأحد إلى جوار قريش, وحين وصل النبي إلى الحديبية دفعتهم قريش إلى مواجهته وصده عن الحرم الشريف, وخرج الحليس بالفعل ومعه مئات من أصحابه إلى الحديبية , وحين رآهم النبي الكريم أدرك تماماً المعنى الذي جاؤوا من أجله وقال لأصحابه إن هذا من قوم يتألهون أي يكثرون العبادة ويعظمون البيت الحرام فأمر أصحابه بأن ينثروا الهدي في الوادي, وهكذا رأى الحليس وأصحابه مشهد النبي الكريم , لم يكن هناك حوار أو جدال , لقد وجه لهم رسالة إعلامية واضحة فرأوا مشهد الأصحاب وهم ألف وأربعمائة يلبسون ثياب الإحرام البيضاء, ويكبرون ويهللون بانتظام وقد نثروا في الوادي قطيعاً كبيراً من الغنم جاؤوا بها لإهدائها لفقراء الحرم, وعلى الفور وصلت الرسالة ورجع الحليس غاضباً إلى قريش فقال: والله ما على هذا عاهدناكم يا قريش!! أيصد عن البيت من جاءه معظماً مهللاً مكبراً!! والله لتأذنن لمحمد أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد حتى ندخل محمداً وصحبه إلى مكة على رغم كل راغم!!‏
لقد تمكن النبي من تحييد أشد خصومه حماساً وتضحية من دون أن يخوض بهم أي جلسة ماراثونية من المفاوضات والبراهين والحجج والتعهدات, لقد كانت فقط رسالة الحج الإعلامية بصورتها البسيطة الهادئة.‏
والسؤال الآن : لماذا نعجز اليوم عن تقديم رسالة الحج للعالم رسالة سلام ومحبة على الرغم من حضور هذه الرسالة اليوم ليس أمام الأحابيش فقط, بل أمام العالم كله في القارات الخمس, وعلى الرغم من وصول خطاب المشايخ على أقمار العرب سات والنايل سات والهوت بيرد والنيوتل وعشرات الأقمار الأخرى السابحة في الفضاء والجاهزة أن تنقل أدق تفاصيل سلوكنا للعالم?‏
هل جاءكم نبأ العقيدة عندما خرت لها الأيام للأذقان‏
ومحت من الدنيا الفوارق بعدما محت الفوارق فطرة الإنسان‏

Related posts

د.محمد حبش- عزيزتي اليزابيث 24/6/2007

drmohammad

انهمار أحكام الإعدام في إيران

drmohammad

د. محمد حبش- ابن تيمية وابن عربي… حكاية من دمشق 12/1/2007

drmohammad

Leave a Comment