مقالات

د.محمد حبش- حوار في الدنمرك 24/10/2008

قال نيوتن: “إن الإنسان بنى كثيراً من الجدران وقليلاً من الجسور!”

ترددت كثيرا قبل أن أحزم حقائبي للسفر إلى الدنمرك، فذاكرة العرب ليست قصيرة أو باهتة ونحن نعلم العار الذي جلبه للدنمركيين رسام حاقد أشعل العالم كله بالغضب وهدم ما تأسس عبر عقود طويلة من الحوار والتفاهم، وقطع روابط الإخاء المأمول بين الشرق والغرب.
لقد كان علي أن أستجيب لواجد من أمرين: المقاطعة التي نادى بها عدد كبير من رجال الدين والتي كانت في الواقع رداً على الإساءات المتكررة من الصحافة الدنمركية، وهي مقاطعة صارمة تشمل ترك البيع والشراء والإعراض عن كل منتجات الدنمرك من صناعة وتجارة وسياحة، وبين موقفي وقناعتي التي تتمثل في أنه لا ينبغي أن نستجيب لطيش فجار حاقدين ونحقق لهم آمالهم في القطيعة بين الإسلام والغرب وهو بالضبط ما يأمله هؤلاء الذين يهدمون عن عمد جسور التواصل والإخاء الإنساني.
هل يكون صواباً أن تغيب سوريا عن لقاءات دولية لا تتوقف في عواصم الأرض وتستدعي فريقاً كبيراً من المحاورين على كفاءة غير عادية، يقومون بملئ هذا الفراغ باللغات العالمية الحية، والخبرات الاستثنائية، ولمصلحة من يتم تغييب الوطن عن هذه اللقاءات الدولية التي تنعقد في عواصم الأرض بعد أن تأكد أنها قائمة لا تتوقف على حضورنا أو غيابنا وهي لا تنتظر منا بياناً بمشروعيتها ولا ترخيصاً لانعقادها؟
حزمت حقائبي وتوكلت على الله خاصة وقد جاءني في الوقت نفسه فرصة مؤتمر آخر ينعقد بعد يوم واحد من مؤتمر الدنمرك في سالزبورغ المدينة النمساوية العريقة على شاطئ الدانوب.
كان العزيز إريك نورمان سفندسن الأسقف الدنمركي قد جاء إلى دمشق في آخر شهر رمضان، فيما يشبه زيارة تصحيح للعلاقات ولتقديم إعلان صريح حول موقف الكنيسة من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن أن الكنيسة تتألم للموقف الهمجي الذي صدر عن بعض من لا يؤمنون أصلاً برسالات الأنبياء، وفي لقائه مع السيد الرئيس بشار الأسد أعلن سفندسن أن روح التسامح والمحبة التي تشهدها سوريا هي في الواقع أرقى تجليات الإخاء الديني المأمول، وهي قدوة وأسوة حسنة في الأرض.
وفي ظلال آيتين كريمتين توجهت إلى الدنمرك: الأولى: ولا تزر وازرة وزر أخرى، والثانية: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها.
بالفعل كان اللقاء في كوبنهاغن فريداً ومدهشاً، فقد تمكنت الدبلوماسية الدنمركية من جمع عدد من كبار الساسة العالميين على منصتها منهم رئيس البرتغال السابق ووزير خارجية الدنمرك ووزير خارجية أسبانيا موراتينوس ورئيس اليونسكو والأسيسكو والأليسكو والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي إحسان أكمل الدين أوغلو، ومن النادر أن يتمكن مؤتمر في العالم من جمع هؤلاء الرجال على منصة واحدة، ولكن ذلك بالضبط هو ما تحقق على يد الدبلوماسية الدنمركية، ومزيد من الرجال الذين لا تخطئ العين منازلهم ودرجاتهم العلمية والأكاديمية.
كان عنوان اللقاء: التعليم من أجل التفاهم والحوار، وباختصار فهو ينقل الحوار بين الشرق والغرب من عبث الصحافة المستهترة إلى القاعة الرصينة للجامعة، ويعيد إلى الأذهان دور البحث العلمي في نشر ثقافة السلام بين الشرق والغرب.
في قاعة المؤتمر في كوبنهاغن كانت صور البعثة الدنمركية الأولى التي وصلت إلى اليمن في منتصف القرن الثامن عشر وبالتحديد عام 1761 وفيها يتبارى الدنمركيون في رسم ملامح الشرق بريشة غربية، ويظهرون وهم يلبسون الثياب العربية ويتحدثون عن أخلاق العرب وتسامح الإسلام، وبتصريح يعكس مشاعر القوم كتب كارستن نيبور من العسير أن تجد بلداً أوروبياً يحتفي بك كما تصنع اليمن، لا بد من صنعا وإن طال السفر.
قلت لهم: تحت عنوان حرية الرأي قام صحافي دنمركي باستفزاز العالم الإسلامي كله، وتولى الإعلام العالمي بالمجان مهمة الترويج لهذه الإساءة، ولم تفلح كل الجهود التي بذلها الشرفاء في العالم للتمييز بين حرية الرأي والتعبير وبين حرية الإساءة إلى المقدس الديني لدى الآخرين، وظلت الدبلوماسية الدنمركية تقول إن علينا عدم التدخل في حريات الآخرين، ولكنني طرحت الأمر من زاوية أخرى، قد لا يكون ما أقدم عليه الرسام الدنمركي مخالفة قانونية في الدنمرك، ولكن ألا تنبغي محاسبته على الاستهتار والعبث الذي مارسه وأدى بالتالي إلى تخريب العلاقة بين الدنمرك والبلاد العربية والإسلامية؟ قد لا يكون درس الأخلاق كافياً لتحقيق العدالة ولكن ماذا عن درس المصالح؟ ولماذا لا يحاسب هذا المستهتر المسيء على إضراره المباشر بالمصالح الحيوية لبلاده؟
كانت مشاركتي مع العزيز المطران إيسيدور بطيخة وحدها رسالة كافية للقول بأن سوريا أنجزت مشروعها الحيوي في التسامح والحوار، وقدمت للعالم نموذجاً فريداً في الإخاء، لقد عاشت الأديان جميعاً في سوريا متجاورة متآخية، لا نفرق بين أحد من رسله، ولو حصلت أي إساءة مباشرة لنبي من الأنبياء لاعتبرها المسلمون ردة عن الشريعة، حتى في حالة النبي الكريم موسى بن عمران وهو نبي اليهود الذين نحاربهم منذ وعد بلفور قبل تسعين عاماً فإننا لم نتغير على الإطلاق تجاه هذا النبي الكريم ولا زالت إلى اليوم أسماء أبنائنا على نسق موسى وداود وسليمان ويوسف ويعقوب وإسحق، ولم يقم أحد تحت أي ظرف بالإساءة المتعمدة إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل على الرغم من الحرب الطاحنة مع إسرائيل، لقد كان ذلك كله أثراً مباشراً لتعاليم الأنبياء الكرام.
ولكن أوروبا في مطلع القرن الحادي والعشرين، وفي أرقى عواصمها الاسكندنافية كوبنهاغن لم تتسع لاحترام عقيدة مائة وخمسين ألف دنمركي يؤمنون بلا تردد بان الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم هو نور العالم وهو منقذ البشرية من الظلمات إلى النور!!
إنها بالفعل مفارقة تجعلنا نشكك بالفعل أن يكون عالم الديمقراطيات المزدهر في أوروبا قد طمس عن عمد واحداً من أهم أشكال حقوق الإنسان وهو احترام مقدسه الديني.
في البيان الختامي كانت مطالبتنا شديدة بأن مسؤولية العرب في مقاومة التطرف لن تجدي طالما أن الغرب لا يقوم بواجبه في وقف الاحتلال المتزايد في الشرق الأوسط، وكذلك في مواجهة مخاطر الإسلاموفوبيا والعرب فوبيا وتبعات ذلك التي تتفاقم كل يوم.
هل سيتغير العالم بعد لقاء كوبنهاغن؟؟ بالتأكيد لا، ولكن غيابنا عن المحافل الدولية تفريط برسالة الحق التي نحملها، والساكت عن الحق شيطان أخرس، والكراسي الفارغة لا تتكلم والغائب ليس له نائب، ومعذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون.

Related posts

محمد رسول الحرية من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن 7/4/2006

drmohammad

تهنئة النصارى بأعياد الميلاد

drmohammad

د.محمد حبش- الإسلام والغرب…. المشترك بين رسالات السماء 29/5/2009

drmohammad

Leave a Comment