مقالات

الإمارات في المريخ

قراءة في شروط النهضة

سجلت الإمارات سبقاً تاريخياً بنجاحها في إطلاق مسبار الأمل إلى مدار كوكب المريخ، ويعتبر هذا الحدث أول نجاح عربي أو إسلامي بالوصول إلى الكوكب الأحمر، وهي المحاولة الخامسة على المستوى العالمي.

المسبار تمت صناعته بالكامل على الأرض الإماراتية وبأيدي وطنية، ثم تم نقله إلى المحطة المناسبة في اليابان لإطلاقه، وانطلق سابحاً في الفضاء لستة أشهر قطع خلالها 480 مليون كم، قبل أن يرتبط بنجاح في مداره المحدد حول المريخ، وفرح لهذا النجاح كل عربي وكل مسلم.

بالطبع لا تمر هذه التجرية الآملة بدون جدل، ومن المؤسف ان الأمم الفاشلة لا تطيق رؤية الناجحين وللأسف فقد ابتلينا بهذا اللون من التذمر والتنمر، حيث لا نصدق ان أحداً ينجح إلا بمؤامرة، ولا أحد يفشل إلا بتآمر عليه!! وأن العالم كله محض مؤامرة ماكرة، وأن دورنا في الأحداث هو دور المفعول به المنصوب الذي وقع عليه فعل الفاعل!!

ومع أن كل الفريق الذي يعمل في وكالة الإمارات للفضاء إمارتي، حيث هذه المؤسسة تم توطينها من الأصل، ولكن لست أدري ما العار وما الخطأ ان تتوفر لمشروع كهذا خبرات من كل العالم، وأن يجد المقيمون في الإمارات فرصاً مساوية لأهلها في التنمية والبناء، ومن المؤسف ان هؤلاء يباهون بالسوري الناجح والعراقي الناجح حين ينجح في ألمانيا أو فرنسا وبدلأً من أن يعتبروا نجاحه في الإمارات في السياق ذاته، ويفرحون ببلد تستقدم الكفاءات الناجحة، وتتيح الفرص لجميع المقيمين فإنهم يغمزون ويلمزون بأن نجاح المقيم الوافد دليل على عجزهم وأن تفوقه دليل على غبائهم، وهو سلوك سلبي فاشل لا يتصور أنحس منه في بؤس الأخلاق وشؤم الشقاق.

لا أكتب هنا لأقدم بياناً صحفياً عن الحدث وهو ما تقوم به محطات عربية ودولية كثيرة، ولا يمكنني أن أضيف على التحليل العلمي والتقني شيئا، فعروض الديجيتال برودكشن أذهلت الناس ووفرت أدق المعلومات التي لا يستطيع أن يبلغها في وضوحها أي مقال.

ولكنني معني بتفسير معنى نجاح دولة عربية وإسلامية بهذا السبق العالمي، وتأكيد بؤس الفكرة المزروعة في أدمغتنا وهي أننا كمسلمين وعرب محاربون ومحاصرون وأن العالم يتىمر علينا وأنه ممنوع علينا أن ننجح، وأن دوائر المكر العالمي تعمل في الليل والنهار لتحطيم آمالنا، وأن أمريكا لا ترضى بأي قيام عربي، وممنوع على العرب أن ينجحوا وعليهم فقط تنفيذ مخططات الماسونية العالمية.

لقد أدت هذه الفكرة الملعونة فكرة المؤامرة إلى رسم سياسات طويلة الأمد تسببت في ضياع كل شيء، وفي بلاد المؤامرة في سوريا والعراق وإيران وجبهة الصمود والتصدي تم اتفاق الحكام على أن العالم يمكر بنا ويخطط للقضاء علينا وامتصاص ثرواتنا، وهكذا كان، وتم تأجيل كل برامج التنمية، وإنفاق موارد الدول لعقود طويلة لبناء الجيوش الهادرة القادرة على دحر المؤامرة، وتصليب موقف الصمود فلا صوت يعلو صوت المعركة، وتم التقتير والتقشف على الشعب من قوت يومه من أجل ضمان خط المقاومة والمواجهة.

لا وقت ولا نفقات لتأسيس جامعات متفوقة متحضرة، ولا مراكز بحث علمي، ولا مصانع استراتيجية فهذه كلها تفاصيل صغيرة سنفكر فيها حين ندحر المؤامرة وتنتصر على المؤامرة الكونية!

كل الموارد محجوزة للمعركة والعدو ينتشر في كل مكان، ولا خيار لنا إلا المواجهة، والصمود والتصدي لمواجهة الاستعمار والامبريالية.

هذا للأسف الخطاب الذي نشأت عليه أجيال متتالية، وكان حصادها الأوهام!

يمكن القول إن الإمارات اختارت لوناً من العلاقة السلمية مع العالم بصورة لا تشبه واقعنا المرير، وحين اكتملت إرادة التوحد وبناء الدولة لم تقم الإمارات بخوض أي حرب استقلال ضد البريطانيين، لقد وجدت سبيلاً لفهم وجودهم في إطار فلسفة القابلية للاستعمار، فقد كانت البلاد في واقع قبلي متفرق وكانت بريطانيا تقود مملكة لا تغرب عنها الشمس ومن الطبيعي أن تكون لهم مصالح في هذه النقاط الساحلية المهمة، وقد أقاموا فيها مائة وخمسين سنة.

لم يتوجه الإماراتيون إلى البريطاني بخطاب الثورة المضرية، إذا ما غضبنا غذبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما!!  ولم يعلنوا أن لندن مربط خيلنا، ولم يقوموا بتفجير فرقاطاتهم في البحر، ولم يخطفوا تجارهم ورحالتهم ولا حتى جنودهم، لقد أكدوا سنة طبيعية من سنن الله وهي أنك حين لا تقوم باستخلاف الأرض كما ينبغي فسياتي قوم آخرون، ولا أحد سيركب على ظهرك إلا إذا وجده محمياً، ولا احد سيحتل أرضك إلا إذا كنت فاشلاً في إدارتها عدواً لشعبك.

اختار الشيخ زايد منذ نهاية الستينات فتح حوار مع البريطاني، وفي درجة عالية من المصداقية نجح في الحصول على دعمهم للاتحاد، وبالتالي لم يتعامل معهم كمحتلين أعداء وإنما كدول ذات مصالح، وببساطة يمكن أن تكون مصالح مشتركة لمصلحة الطرفين.

كان بالإمكان أن يحشدوا عدداً من العناترة الانتحاريين ويبدؤوا كفاحاً ضارياً نحو الحرية الحمراء بيد مضرجة بالدم، وأن يجعلوا بلادهم مقبرة للرجل الأبيض، ويملؤوا صفحا الأخبار العالمية بعملياتهم الانتحارية الجريئة وإثخانهم في العدو، ولا أعتقد ان ذكرى الخمسين التي يحتفلون بها اليوم ستكون أكثر من ذكرى شهداء وقبور!!!

اليوم يشارك في نهضة الامارات خبراء من دول كثيرة وقد نجح قادتها إلى حد بعيد في استبعاد فكرة المؤامرة وصورة العدو من الحياة السريعة في الامارات، وهم يتعاونون مع كل الأمم ويأخذون ويعطون، ويبيعون ويشترون، ويستوردون ويصدرون….. وحدنا نحن في الدول الفاشلة، نطل من حطام أوطاننا التعيسة، ومن ركام مدننا المدمرة، وشعوبنا الجائعة، وننظر إليهم بغيظ ونقول: إنهم محتلون، ينفذون خطط الامبريالية والاستكبار العالمي، ولو كانوا مقاومين حقيقيين لحاربهم العالم كما يحاربنا!!

لقد استمعت طويلاً من فلاسفة الصمود والتصدي في بلادنا أن الاستقلال الحقيقي والسيادة الوطنية توجب الصدام مع الاستكبار العالمي، ومراراً كان فيلسوفنا يشير إلى اليابان وألمانيا بحسرة وأسف أنها دول بائسة مسكينة!! فقد رضخت لشروط أمريكا، وباتت مستعمرات ذليلة للامريكان!!!…

فإذا كانت المؤامرة والامبريالية وخططها العميقة هي ما نشاهده اليوم في اليابان وألمانيا والامارات فكم نحتاج لنستفيق؟ وفي حين أوصلتنا أوهامنا إلى البلاد المدمرة والشعوب المشردة والإفلاس الاقتصادي والقطيعة الكاملة مع العالم، فإن اليابان وألمانيا والإمارات باتت أكثر دول الأرض رفاهية وتقدما وصناعة، وباتوا يملكون أقوى جواز سفر في الأرض، ولديهم أفضل مطار في العالم وأكبر ميناء في العالم وأعلى برج في العالم وأعلى دخل في العالم، وأفضل جامعات في العالم، وها هم يصلون بثقة واقتدار نحو الكوكب الأحمر والمزيد قادم. هل ستدفعنا هذه النجاحات المذهلة إلى مراجعة وعينا، والإيمان بالعالم كما هو، بدون أوهام ومؤامرات، والتوقف عن مطاردة طواحين الهواء، والإيمان بقوانين هذه الحضارة وشروطها، وهي في العمق سنن الله في الأنفس والآفاق؟

Related posts

د.محمد حبش- العالم الإسلامي وتحديات 11 أيلول 2001…31/8/2007

drmohammad

د.محمد حبش- قرأت الحب في أربعين وجهاً فما رأيت أصدق من وجه أمي 21/3/2008

drmohammad

جرائم الكراهية من كندا إلى شنكال

drmohammad