كان لقاء منبج الثلاثاء الماضي فريداً في حضوره وجمهوره الذي جاء يتقاطر من مختلف أنحاء الريف الحلبي من أجل مناقشة موضوع العلماني والفقيه.
العلماني والفقيه في ريف حلب في مدينة منبج!! قد يكون عنواناً صادماً ذلك أن السائد أن الريف الزراعي والرعوي ليس مشغولا بهذه الهموم من الثقافة والفكر، وأن الحديث عن حوار علماني إسلامي يعتبر تغريداً خارج السرب في هذه المدن المحافظة!
العلماني والفقيه كان في الماضي جدلاً مستحيلاً، فالمنبران متلاعنان، والريب التي تعصف بقاعدة المنبرين لا سبيل ابداً إلى جسرها أو ردمها، والخطاب الأصولي التقليدي لا يرى في العلماني إلا كافراً ملحداً ضالاً، وكذلك فإن الخطاب العلماني لم يكن يرى في الفقه الإسلامي إلا مركباً للتخلف والرجعية يجب تجاوزه والتخلص منه.
كان مشهد منبج مفاجئاً تماماً ولم تكن المداخلات التي قدمت في ذلك اللقاء من اللون التقليدي الذي يعرفه الجميع لقد كانت أسئلة في العمق تتجاوز المألوف من خطاب المجاملة، وتطرح الأسئلة الكبيرة أمام الجيل الجديد.
ولعل ما أضفى على الحوار طابعاً فريداً هو أن مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم كانت حاضرة في إدارتها ومدرسيها وخيرة طلابها، وشهدت المدرجات ازدحام مئات العمائم، وهكذا فقد كان الجدل في مكانه تماماً بين المحافظين والتجديديين، وكانت المفاجأة أن آفاق اللقاء والتواصل كانت أكثر بكثير من مناطق الظنون والريب، وكانت مشاركة العمائم في هذا اللقاء تؤكد حقيقة واحدة وهي أن الخطاب الإسلامي المحافظ قادر على الانخراط في خطاب الحداثة والمشاركة في جدل الهوية بعد أن تطورت وبشكل كبير النظم الإدارية في هذه المعاهد الناجحة وتوفر للطلبة فرص دراسة اللغات والعلوم العصرية من الفيزياء والكيمياء والرياضيات وهي علوم كانت محجوبة عنهم إلى عهد قريب.
هل يمكن أن ينطلق الحوار بين العلماني والفقيه في منبج! تبدو البلد لأول وهلة حائرة في هكذا عنوان، ولكن سرعان ما أدرك الناس أن العلماني الذي نتحدث عنه هو أخي واخوك وابن بلدي وبلدك، وهو حريص على بناء وطنه واحترام تاريخه وتراثه.
هل هي ظاهرة جديدة؟ وهل هي بدعة لا مبرر لها في بلد يلتزم بالمطلق بثقافة شديدة المحافظة وليس في وارد التخلي عن خياراته؟
ولكن سرعان ما يقدم التاريخ تجربة مماثلة متقدمة فهذا الحوار ليس جديداً ولا طارئاً في ثقافتنا الإسلامية، وفي القرن الثاني الهجري كانت مناظرات الفكر تنعقد على شاطئ دجلة ولم تكن بين العلمانيين والفقهاء، بل كانت مباشرة ودون أدنى مجاملة بين الفقهاء والملاحدة، وكانت الكتب التي تتحدث عن قدم العالم تهدى إلى الخلفاء مذيلة بأسماء كاتبيها أو مترجميها وهي صريحة في القول بقدم العالم ولكن لم تكن سيوف القصاص تضرب في رقاب العباد آنذاك!!
القصة أشهر من أن تحتاج إلى توثيق فأبو حنيفة كان هو الطرف المحاور الذي اختاره أبو جعفر للحوار مع الدهرية، ولك ان تتصور ماذا تعني مناظرة بإشراف الخليفة وبحضوره أيضاً، الدولة والجيش والقضاة والفقهاء سيكونون بكل تأكيد على شاطئ دجلة لمتابعة الحوار، إنه حوار تعقده الخلافة الإسلامية بين الملحد والفقيه، ويفترض أن تؤدي دورها في رعاية الحوار بحيدة ومسؤولية.
وتمام الحكاية أن الدهرية طلبوا من أبي جعفر ان يتخير لهم من يناظرهم ووقع الاختيار بالطبع على أبي حنيفة، وقيل للناس هل أنتم مجتمعون، وعلى ذلك الشاطئ اللاهب وصل المتحاورون وجلس الخليفة في مجلسه ولكن أبا جنيفة لم يحضر ذلك الحوار في الموعد المحدد! وطال انتظار القوم وبدأ الغمز والهمز واللمز، وقال بعضهم لبعض لو كان لديه حجة أو برهان لما تخلف عن تقديمها، وأحرج الخليفة الذي لم يكن يتوقع أن يتخلف أبو حنيفة عن أداء واجب كهذا، وقبيل الغروب يطل ابو حنيفة وتنهال عليه الأسئلة في سبب تأخره ويختار أن يجيب على الفور بأنه كان في الضفة الأخرى من دجلة ولم يجد مركباً يحمله إلى مجلس القوم، وقال: لقد انتطرت طويلاً ولم أحصل على مركب، ولكن كيف وصلت؟ يسأله الناس! قال أبو حنيفة بينا أنا في انتظاري إذا نزلت خشبة من السماء وصادفت خشبة في النهر وحضرت مطرقة ومسامير ودسر وضرب بعضها ببعض، ونزل من السماء طلاء وزيت وفرش واصطف كل في مكانه واكتمل مشهد قارب جاهز تقدم إلي فركيته ووصلت إلى موعدكم هذا متأخراً!!
قال القوم: يا أيا جعفر إن رسولك الذي اخترته لنا لمجنون!
كان جواب ابي حنيفة بسيطاً وقوياً: كيف تنكرون ضنع قارب بدون صانع؟ ثم تقبلون أن تكون سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج من صنع العبث والوهم والمصادفة؟
لقد تعودنا أن نروي الحكاية إلى هذه النقطة ثم نقدم ما شئنا بعد ذلك من العجائب حيث اهتدى الضالون وآمن المنكرون وسجد الدهريون كلهم أجمعون، ولكن قل أن ننتبه للدلالة الباقية في هذا الحوار فكيف أمكن لخليفة مسلم في عصر يتوافر فيه الفقهاء والعلماء أن يرعى حواراً مع الدهريين الذين يصرحون باعتقادهم أن العالم قديم وأن افتراض وجود خالق لا مبرر له!!
لقد انتهى الحوار وانتهت المناظرة بانتصار ساحق لأبي حنيفة ولكن ما يجب تأمله هو أن الدهريين بعد الحوار لم توضع في رقابهم السلاسل كمارقين زنادقة ولم ينظر إليهم ذلك المجتمع الإسلامي الناهض على أنهم مرتدون يجب أن تقام فيهم الحدود، لقد انصرفوا يكتبون من جديد آراءهم وأفكارهم في قدم العالم ووحدة الوجود وكانت الدولة الإسلامية توفر لهم الحماية كمفكرين أحرار بغض النظر عن مكانهم في العقيدة الإسلامية التي تأكد أنهم يتناقضون مع كثير من مسلماتها.
لم أتمكن من الوصول إلى مصدر هذه القصة في التاريخ الإسلامي ولكنها في الواقع محفوفة بعشرات الشواهد التي حملت إلينا بعناية واهتمام كتابات مشهورة تناقلها العلماء وهي طافحة بالفكر العلماني، من فكر صالح بن عبد القدوس وبشار بن برد وحماد عجرد وأبي حيان التوحيدي وأبي العلاء المعري وأبي عيسى الوراق وابن أبي العوجاء ومطر بن ابي الغيث وابن المقفع، بل وابن الراوندي الملحد، ولم يجد كثير من الفقهاء حرجاً في رواية شعر ابي العلاء وأدب أبي حيان التوحيدي وأفكار ابن المقفع في كتبهم على الرغم من اختلافهم الحاد معهم في خيارهم العلماني.
وفي هذا السياق فإن ما رواه التاريخ من إعدام السهروردي والحلاج (وهما بالمناسبة من الأتقياء والمصلين) لم يكن في الحقيقة بسبب موقف فكري بقدر ما كان موقفاً سياسياً مارسه الاستبداد لأسبابه الخاصة، ولو قد كان هذا هو شكل عقاب العلماني لكان علينا أن نستعرض اليوم قائمة بعشرات الآلاف من الذين أقيم فيهم حد الردة، وهو ما لا يمكن على الإطلاق أن نزعمه، بل إن المحدودين بالردة كانوا أفراداً قلائل، ولا يمكن الزعم بأن حادثة واحدة من هذه كانت تحصل كل نصف قرن!!.
لماذا كان ضمير الأمة يتسع آنئذ للفكر العلماني المعارض لكل قيم العقيدة ثم هو اليوم يضيق عن العلماني الذي يصرح بأنه يؤمن بالله ورسوله ولكنه يؤمن بحق الأمة في إنجاز تشريعاتها اليومية بما يتناسب مع ظروفها وحاجاتها
إن عبارات مثل الرأي والرأي الآخر، وأكثر من راي، وأعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس، وبوارق الحقائق تأتي من مصادمة الأفكار، وغير ذلك من شعارات منهجية في الفكر ليست طارئة على الثقافة الإسلامية، بل يجب القول إنها كانت شكل ثقافة الأمة وحراكها الفكري، قبل ان تصبح شعاراً للإعلام الجديد في قنواته المختلفة.
إن الصلاة والصوم والزكاة والحج شرط لدخول الجنة ولكنها ليست شرطاً لدخول الوطن، وإن أمر الحساب بين العباد موكول إلى الله وحده، قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون.
لست معنياً بالحديث عن العلماني الملحد وأنا أعتقد أنهم في بلد كسوريا لا يشكلون ظاهرة حقيقية بل محض أفراد قلقون، ولكنني معني بالعلماني الذي يؤمن بالله ويحترم الإسلام ويقيم كثيرا من شعائره ولكنه مع ذلك يفصل بين الدين والسياسة، ويرفع شعار الدين لله والوطن للجميع، وهؤلاء يشكلون سواداً كبيراً من ابناء الأمة، وهؤلاء يمكن رؤيتهم في سائر الأحزاب الوطنية في البلاد العربية ويمكن رؤيتهم بشكل أكثر وضوحاً في تجربة أردوغان ومواقف حزب العدالة والتنمية التي تحظى اليوم باحترام العالم الإسلامي على الرغم من أنها لا تسعى إلى تطبيق الشريعة والحدود وتكتفي بالدعوة إلى فضائل الإسلام وقيمه بما ينسجم مع المطلب الديمقراطي.
هل كان طرح هذا العنوان في منبج مدخلاً للتشويش على البلدة الهادئة؟
لا أعتقد أبداً فالفكر الحر الذي رأيته في تلك المدينة يؤكد لك ان التنوير لا يرتبط بصخب المدن الكبرى وجدلها وتسارعها بقدر ما يرتبط بالإرادة الصحيحة لبناء مجتمع متماسك يحترم تاريخه وتراثه ويصنع مستقبله بيديه.
تحميل الملف العلماني والفقيه