مقالات

د.محمد حبش- الهجرة…من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن 11/1/2008

حين أراد الهجرة لم ينتظر أجنحة الملائكة ليهاجر عليها ولم يركب صهوة البراق الذي تركبه الأنبياء, ولم تحمله الريح التي سخرها الله لسليمان تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص, ولكنه هاجر كبشر وكافح كبشر وقاد كفاحه بزنده الأسمر وإرادته الصابرة.
من يراقب رحلة الهجرة المباركة يدرك كم كان فيها من كفاح ومصابرة, وكم كان فيها من دراسة متأنية دقيقة لأدق التفاصيل اللوجستية والاحتمالات المتوقعة وإعداد الطوارئ التي اتخذها النبي الكريم, حيث أعد لكل شيء عدته, إنه لم يجر حساباته على أساس :‏
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان‏
وإنما أجراها على قاعدة: قم والمخاوف كلهن أمان.‏
لقد تأكد تماماً أن إرادة المشركين حازمة في قتله, ولهذا اختار الهجرة, وحين توقع أنهم سيطاردونه إلى المدينة قرر أن يذهب في اتجاه آخر ورسم خطته ليأوي إلى غار ثور جنوب مكة على طريق اليمن ريثما يفقد المشركون الرجاء من العثور عليه, وهكذا كان.‏
وبحكمة الخبير الحذر أعد خطة دقيقة للهجرة يمكن القول إنها ست لجان متخصصة من الصحابة, تكمل مشواره للوصول إلى المدينة, وبنظرة عجلى يمكنك أن تراقب هذه اللجان الست, فهناك لجنة تمويهية عهد بها إلى علي بن أبي طالب وكانت مهمته تتمثل في التمويه على المشركين الذين أحاطوا بباب الدار وكانوا ينتظرون خروجه إلى صلاة الفجر, فقد كانت العرب تستنكر اقتحام حرمة البيوت, وكانوا يريدون قتله بأربعين سيفاً ليضيع دمه بين القبائل, وهو ما لا يتيسر إلا في درب مفتوح, وكان هناك لجنة تموينية كلفت بإعداد الزاد لهذه الرحلة النبوية الكريمة وهي السيدة الطاهرة أسماء ذات النطاقين التي كانت مكلفة حقيقة بإعداد الزاد للنبي الكريم وصاحبه وهو الزاد الذي سيكفيهما عشرة أيام على الأقل, واشتهر أنها قطعت نطاقيها لتربط الزاد وسميت لهذا ذات النطاقين, وكان هناك لجنة ثالثة تولت المهمة الإعلامية فقد كان النبي وصاحبه سيأويان للغار حتى يتوقف طلب المشركين وهذا الأمر قد يستغرق أياماً أو أسابيع, ولا بد خلال هذه الفترة من معرفة ما يبيتون في قريش, وكان فارس هذه اللجنة هو عبد الله بن أبي بكر الذي كان يمضي سائر النهار يسمع ما يبيتون ثم يأوي في جنح الليل إلى الغار, ليلقى النبي وصاحبه ويوافيهم بما يبيتون, وهناك حاجة إذاً للجنة ثالثة تتولى إزالة آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر وكذلك الرسول وصاحبه وهو ما عهد به إلى عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الذي كلف بأن يقوم بتضليل المشركين وتضييع آثار الأقدام, عبر قطيع من الماشية كان يرعاه في الطريق المؤدية إلى الغار لتضيع آثار الأقدام, وحين أمضى النبي وصاحبه ثلاثة أيام في الغار كان هناك لجنة دلالة مهمتها اختيار أسرع الطرق وأكثرها بعداً عن الريبة وهو ما عهد به إلى عبد الله بن أريقط حيث واعده عبد الله بن أبي بكر عند سيف البحر ليسير مع المهاجرين الكريمين, وأخيراً كان هناك لجنة مرافقة كريمة حظي بها أبو بكر الصديق الذي صحب النبي الكريم في سائر تفاصيل رحلته.‏
وبإمكانك أن تتصور هنا كيف كان النبي الكريم يأخذ لكل شيء عدته وحساباته, على أساس السنن الكونية , ولم يكن في شيء من حساباته يبني على الخوارق والعجائب.‏
من لم يضع ما عليه ما يحق له ما منه ما عنده ما بعده أهبا‏
ويسأل الله إنجازاً بلا سبب يجد ضياعاً على تضييعه حسبا‏
يفضل بعض الوعاظ أن يطرحوا هجرة النبي الكريم على طريقة غراندايزر الذي تلين له الجبال وتطوى له الأرض ويتكسر على صدره الرصاص والقنابل, وتسخر له الإنس والجن والوحش والطير, حيث يبدأ المشوار من باب النبي الكريم الذي ما إن خرج منه حتى نام المشركون الأربعون جميعاً وألقى على رؤوسهم التراب وهو يقول وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدأ فأغشيناهم فهم لا يبصرون, وبعد ذلك ذهب إلى الغار حيث خرق له جوف الغار وكان فيه بحر عظيم ومركب وثير وقبطان ماهر ينتظره, وحين أوى إلى الغار جاءت العناكب والحمام في لحظات فنسجت وباضت, (بالمناسبة لا يوجد سند صحيح لحكاية العنكبوت والحمامة) وحين بدأ طريقه في الصحراء كانت الغيوم تظلله والعواصف تجري في هواه, وكانت الخيل ذوات الأجنحة ترافقه في موكب ملائكي يركبها متى أراد, ومن اقترب منه فإن الأرض تبتلعه وحجارة السجيل ترجمه, وكل الذين حاولوا اللحاق به عميت أبصارهم, وكلما مر بقافلة من العرب كانت تخضر الأرض وتفيض لبناً وعسلاً , وحين تهم الشمس بالغروب فإنه يمسكها بيديه ويقول ردوها علي, إلى غير ذلك من العجائب والخوارق.‏
إننا نؤمن بقدرة الله سبحانه على كل هذه العجائب, وما ذلك على الله بعزيز, وقد كانت هذه العجائب لسليمان ويونس وموسى والله على كل شيء قدير, ولكن الله لم يشأ أن يمنح رسوله هذه العجائب, بل قال له حين طلبها ليفحم بها المشركين: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين!!‏
وقال له بعد ذلك ليظهر حكمة غياب المعجزة في مشوار الرسالة: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون, وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً!!‏
والحقيقة أن دراسة متأنية لتاريخ الهجرة تجعلك تدرك أن الهجرة كان كفاحاً إنسانياً بامتياز, وقد أراد الله ذلك قصداً وحكمة, وبمتابعة سريعة لمهام اللجان ندرك أن الله أراد أن يرى في الهجرة كفاح الإنسان وسعيه, وحين أراد النبي الخروج وهم يحيطون بداره, خرج من خوخة في الدار (أي باب خلفي صغير) مع أن الله كان قادراً أن يطمس أبصار المشركين فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون من دون أن يعرض علياً لخطر الموت بسيوف المشركين, وفي الغار كان الله قادراً أن يزودهما بمائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منه, وأن تسير معه جفان كالجواب وقدور راسيات تجرها الملائكة على خيول بلق, في صحاف من زبرجد تزخر باللوزينج والفالوذج في أطباق الفيروزج حيث سار في الصحراء!! ولكنه لم يفعل وأمره أن يتزود بالزاد المتواضع الذي أعدته أسماء ذات النطاقين, أما آثار أقدامه وصاحبه فقد كان في قدرة الله أن يرسل الرياح الذاريات ذروا والحاملات وقراًَ والجاريات يسراً فيعفو آثار الأقدام كأن لم يكن, ولكنه أراد أن نتبع الأسباب والسنن,أما خبر القوم وما يبيتون فقد كان قادراً أن يوافيه بأخبار ما يبيتون عبر أمين الوحي جبريل, أو أن يوافيه بمحطة فضاء إخبارية تامة توافيه بأدق التفاصيل بالصوت والصورة وهو على ذلك قدير, دون أن يكلف ابن أبي بكر أخطار السفر بالليل وما يعتور قراءته من نقص أو سوء تقدير, ولكنه لم يفعل, أما دليله إلى طريق المدينة فقد كان الله قادراً أن يجعل له دليلاً من نوره يهدي الله بنوره من يشاء, ولو شاء لجعل من أمامه نوراً ومن خلفه نوراً ومن بين يديه نوراً ولجعله نوراً على نور, ولكنه لم يفعل واختار أن ينهج في ذلك نهج الأسباب وعهد إلى الدلالة بخبيرها على الرغم من أنه لم يكن مسلماً, وأما المرافقة فلم يشأ الله أن يرسل للنبي خمسة آلاف من الملائكة مسومين يكونون بين يديه ومن خلفه وإنما أمره أن يتخذ صاحباً من الناس وقد اختار أبا بكر, وأما ما روي من العجائب والخوارق في الهجرة فغالبه حكايا جادت بها قرائح القصاصين وليس لها نصيب من السند الصحيح.‏
حين طالبوه بهذه العجائب أجابهم بكلمة واحدة: وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً?‏
متى سنكف عن قراءة سيرة الأنبياء على أنهم كانوا ملائكة عجائبيين يمشون على الماء ويسبحون في الهواء وتسارع الأقدار في أهوائهم, ولا يعرفون طعماً للكفاح الإنساني? ومتى سندرك أن رسالة المهاجر الأول كانت كفاحاً بشرياً بامتياز خط به المهاجر رسالة القدوة للناس, وهي الرسالة التي شرحها جودت سعيد بكلمة واحدة: إنه النبي الذي جاء ليخرج الناس من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن?‏

Related posts

عيده الحمودي – دعوة لمراجعات عميقة

drmohammad

د.محمد حبش- الشهادة والشهداء 9/5/2008

drmohammad

د.محمد حبش- القرآن على سفوح جبال الألب….. ليالي الأنس في فيينا 19/6/2009

drmohammad

Leave a Comment