مقالات

د.محمد حبش- أيبتغون عندهم العزة؟ فإن العزة لله جميعاً 9/1/2009

كتب الآباء الأمريكيون ثقافتهم في ساعات من الحقيقة والصدق، وتحدث توماس جيفرسون حينذاك عن حق الإنسان في الكرامة والحياة والديمقراطية والاختيار، وأنتجت أمريكا رجالاً شرفاء دفعوا حياتهم من أجل مبادئهم، وأطلقوا نداءهم في مسمع العالم دفاعاً عن العدالة والحرية وانتصاراً للمستضعفين في الأرض، ومر بالتاريخ الأمريكي رجال كبار كإبراهام لينكولن محرر العبيد ومرت عقود من الزمان كان الناس هنا في الشرق يسمعون بامريكا كما نسمع بالإمام الغائب عجل الله فرجه، وكانوا يتحدثون عنها على أساس أنها الأرض الموعودة التي وصل إليها التائقون إلى الحرية والهاربون من جحيم الاضطهاد الديني في أوروبا وأنها الأرض التي بناها الهاربون من المظالم وهي الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً، وبعد الحرب العالمية الثانية اكتسبت أمريكا موقعأً هائلاً في ضمائر الأحرار في العالم، حيث نظر إليها كشعلة للحرية والتقدم والازدهار وكانت نظيفة الكف من الحروب الاستعمارية، ولم يحصل أن شبراً في الأرض العربية احتله الجنود الأمريكيون رغم أن البلاد العربية وقعت تحت الاحتلال الأوروبي بأشكاله المختلفة، وخرجت أمريكا من الحرب الكونية منتصرة ظافرة، مكللة بالغار، وأصبح كل شيء في العالم ينتظر أمريكا لتكون سيدة الكون بلا منازع، حتى اليابانيون والألمان الذين ضربت أمريكا فيهم أسوأ قنابل الموت فقد تقبلوا الموقف الأمريكي بالمقارنة مع الدكتاتوريات التي حكمتهم وتحولوا فيما بعد إلى حلفاء لأمريكا، واليابان وألمانيا اليوم من أهم حلفاء أمريكا في العالم.
هكذا جاء روزفلت إلى المنطقة وهكذا جاء إيزنهاور، وحين انتخب كيندي في أمريكا رقصت العواصم العربية بجذل وفرح، وحين مات أقيمت لراحة نفسه آلاف الصلوات هنا في البلاد العربية.
ولكن أمريكا اليوم في أسوأ حال، ورئيس أمريكا المنتخب يضرب على رأسه بالأحذية، وتهدي شعوب الأرض تحياتها وعروضها وقصائدها الشعرية بمختلف اللغات للصحفي العراقي الثائر الذي ضرب بوش بحذائه، ويبلغ عدد الذين شاركوا في لعبة ضرب بوش بالحذاء اثنين وخمسين مليوناً على الأنترنت، ولعبة ضرب وجه أمريكا بالحذاء انتقلت من بغداد عبر سلسلة لا تنتهي من المدائن إلى الباحة المحيطة بالأبيض، ويقترح نواب في الكونغرس على الرئيس الأمريكي أن يطوف في العالم لجمع الأحذية التي يمكن أن يسهم بيعها في مواجهة الانهيار المصرفي في أمريكا!! أما علم أمريكا فقد أصبحت إهانته ودوسه بالنعال جزءاً من أي مظاهرة للحرية في العالم!!

هل سيحاسب في أمريكا أولئك الأشرار الذين تسببوا في إلحاق هذا الهوان بسمعة العلم الأمريكي المصمم من الناحية الفنية بمنتهى النجاح رمزاً للبهجة والتعاون والتكامل؟
من المسؤول عن هذا السقوط المريع للسياسة الأمريكية على المستوى الأخلاقي؟

إنه اللوبي الصهيوني تحديداً، الذي تمكن عبر إيباك من تشكيل مافيات النفوذ الأمريكي المذهل وهكذا قام بتحويل قدرات أمريكا الجبارة من حلم عالمي واعد إلى شرطي في خدمة إسرائيل، ولم يتوقف عن تبرير جرائمها في البر والبحر والجو، إلى حد أن الناطق باسم البيت الأبيض يطل بعد عدة أيام من الجرائم الوحشية على غزة، وبعد أن بلغ عدد الضحايا أكثر من ثلاثمائة شهيد ونحو ألفي جريح ليقول بملئ شفتيه وتتسلل من بين عينيه كل مشاهد الكذب والعار والغدر “إن إسرائيل في حالة دفاع عن النفس وعلى حماس أن توقف ضرب المستوطنات الإسرائيلية بالصواريخ!!”
لا يوجد صورة وجه في العالم يختبئ فيها قدر من الكذب والذنب أكثر من هذا الوجه النحس، الوجه الذي يجمل العدوان الإسرائيلي على غزة بعبارات النفاق والبؤس والمكر.

هناك صورتان في مواجهة إسرائيل: الأولى صورة المنافق اللدود الذي يطل عبر منبر البيت الأبيض ليمارس باحتراف فاجر مهنة الكذب والدجل، وغالباً ما يقف ذات يوم موقف كولن باول ليقول للعالم لقد كنت أكذب وأنا أشعر بالعار مما فعلته!! وصورة المقاوم الجبار المنتشي بالحقيقة لا يصانع ولا يماري ولا يساوم ويراه العالم على شاشات التلفزة وهو يرفع أصبعه على مركب الموت ويقول لا إله إلا لله محمد رسول الله، وهي الكلمة التي عاش عليها ويموت عليها وسيلقى ربه ليقول له طبتم فادخلوها خالدين.

فأين مكان الساسة العرب في جدل كهذا؟
إنهم بالتأكيد خلف واحد من المشهدين، فحين يقوم بعضهم بالتأكيد على وفائه لالتزاماته الدولية بشكل يثير إعجاب أمريكا ورضاها فليعلم أنه سيقف أمام محكمة التاريخ ومحكمة الله ذات يوم لا قوي فينتصر ولا بريء فيعتذر.

لقد غمزوا من قناة المقاومة في جنوب لبنان وأعلنوا بوقاحة أنها من تدبير المخابرات الإيراينية لفتنة مذهبية وأن لها بعداً طائفيا، ويا للهول لقد وجدوا من ينفخ في ذلك الطبل اللئيم، وانبرت أقلام موتورة مأجورة تتحدث بلؤم وغدر عن المقاومة، وأعيد إنتاج نصوص من التاريخ أكل عليها الدهر وشرب، ولم تكن خلال التاريخ إلا قتاماً وسخاماً على أقدار الأمة وشتاتها وقدراً ضائعاً في بؤسها وهوانها كل يوم، وتحول الجدل في وجوب المقاومة والجهاد إلى جدل بيزنطي قميء حول يزيد وابن هبيرة وشمر بن ذي الجوشن، وقدمت دفعة جديدة للتعصب والجنون في الحركات التكفيرية المستعدة لأي لون من التهييج بالمجان!!

ولكن المقاومة اليوم في غزة لا يمكن اتهامها بالاتهام اللئيم إياه، ومع ذلك كانت المفاجأة أسوأ وأشأم، وارتفعت عقيرة أعداء المقاومة هذه المرة بالخطاب نفسه الذي كانوا يهاجمون به من قبل رجال المقاومة على أساس أنه سلوك متهور، وأن المسؤول عن الكارثة هو عدم الانضباط الإداري مع السلطة التي سلمت مجلس نوابها بالكامل لسجون أعدائها في الضفة وكانت في وارد تسليم الباقين في غزة للمصير إياه!!
أما جرائم إسرائيل ووحشيتها وغدرها وقصفها الإجرامي في يوم السبت الأسود رغم زعبرة رب إسرائيل في تحريم العمل يوم السبت، فكل ذلك ليس مدعاة للقلق ولا لسحب السفراء ولا لوقف المفاوضات ولا لفتح المعابر!!
من المعروف أن السجن الذي يحتوي على سجناء خطرين إذا تعرض لحريق فإن من مسؤولية السجانين أن يفتحوا أبوابه لينجو النزلاء مهما كانوا خطرين، فما هي الخطورة التي يشكلها أطفال غزة ونساؤها على العالم ليستمر إغلاق السجن الرهيب على الرغم من الحريق الهائل الذي ينهش أطرافها الأربعة؟
ليس لدي كلام كثير لزعماء العرب الذين اختاروا الولاء لأعداء الأمة بدل الوفاء لمقاومتها، ووضعوا أنفسهم مباشرة في خدمة القضية الفاشلة، ومارسوا الارتهان لصالح المشروع الصهيوني.
لقد عثرت على عدة آيات في القرآن الكريم، كأنما نزلت للتو وهي تتحدث عن المنافقين الذين يرهنون أنفسهم للغزاة الطامعين:
إن الآيات لم تتحدث عن نفاقهم في إطار الصلاة والصيام والحج، ولم تشر إلى لحاهم وجبابهم ومساويكهم ومسابحهم، وإنما بنت الحكم عليهم بالنفاق فقط من خلال العلاقات المشبوهة مع أعداء الأمة:
بشر المنافقين بأن لهم عذاباَ أليماً، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عدهم العزة فإن العزة لله جميعاً….
إنه لم يتحدث عن نفاقهم وكفرهم في إطار أقوال وطقوس، أو تقصير في صلاة أو صوم، وإنما في إطار موقف سياسي ضد مصالح شعوبهم، ثم قال:
الذين يتربصون بكم فإن كان فتح من الله قالوا ألم نكن معكم؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً
والكلام مرة أخرى عن الكافرين والمشركين ليس في إطار اعتقاداتهم في الميتافيزيق، ولا في إطار قولهم في العرش أو الفرش أو الهيولى والعقل الفعال، وإنما في إطار مواقفهم المهزورزة التي تتخلى عن نصرة المستضعفين من أجل كراسي لا تدوم.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً
مع الله أو مع الصهاينة، لا يوجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار، فاختارو ما شئتم
وكم مداهنة الطاغوت تهلكهم وكم يقولون بعد العمر واأسفا
سيعلمون وبعض العلم كارثة إذا تمرد وجه الدهر وانتصفا

Related posts

هل يتقدم الخطاب الإسلامي؟

drmohammad

الصادق المهدي… أستاذ الدراويش.. وفيلسوف الحرية

drmohammad

د.محمد حبش- نهاية التاريخ 22/2/2008

drmohammad

Leave a Comment