لا أشك أولاً أن الأمة الإسلامية لو كانت في أيام صعودها الحضاري لكان فريقنا الرياضي ينافس من أجل ذهبية المونديال، ويتألق في ملاعب ألمانيا نجوماً وحكاماً ولاعبين ومعلقين، فنحن لا نعيش خارج التاريخ، وثقافتنا الإسلامية لا تتناقض مع قيم الرياضة ورسالتها، فهي لغة التعارف الأممي، وهي بشكل أو بآخر لغة العالم اليوم، وهي منطلق واضح لبناء الجسم السليم وفي الأدب النبوي الواضح علموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، ولست هنا في معرض الاستدلال الفقهي لموقع الرياضة في الشريعة ولكن لا بأس بهذه الجولة السريعة في رياض السنة النبوية لنقرأ فيها نبياً عظيماً كان يؤكد كل يوم ألف مرة أنه إنسان وأنه يحمل مشروعاً إنسانياً، وأنه يقدر كل مشاعر الإنسان قدرها، ولو كان في الأرض ملائكة لنزل الله عليهم من السماء ملكاً رسولاً ولكنهم بشر وقد أرسل الله فيهم بشراً مثلهم.
تحدث السيدة الطاهرة عائشة قالت دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ , وَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ . مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رسول الله فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ : دعهما يا أبا بكر فإنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا، وبذلك فقد كانت رؤيته للحياة أكثر شفافية من رؤية أصحابه المقربين الذين عسر عليهم أن يفهموا متابعته للغناء البريء تقدمه فتيات موهوبات في معاني كريمة ودافئة، ولم يدركوا أن هذه الشريعة جاءت لترفع عن الناس الحرج، ولتحل لهم الطيبات وتحرم عليهم الخبائث، وليس لتدخلهم في مزيد من التابو الذي يعزز مكانة الكاهن ولكنه يخنق روح الإنسان.
في مسجده الشريف كان الرسول الكريم يبتهج بالتنافس الرياضي الساخن وربما كان قد أعد في مسجده ركناً لذلك، وقد دعا عائشة لحضور أحد هذه المهرجانات الرياضية التي كان يؤديها الأحباش في المسجد، وقال لها يا عائشة تشتهين تنظرين، وتروي عائشة الخبر في شفافية وحبور فتقول، فقمت معه أرقب السودان يلعبون بالحراب وخدي على خده، حتى نعست فقال حسبك!!
بكل براءة إنه مشهد زوجين من الطراز الرفيع يشاركان في مهرجان رياضي بدفء وعافية، وحين تقارب بين هذه الروايات ولا بأس أن تقول إن النبي الكريم كان من مشجعي الفريق الأدرعي وكانت عائشة تشجع الفريق الرفداوي، وكان يقول في تشجيعه خلال المباراة ارموا يا بني أرفدة فإن أباكم كان رامياً وفي رواية أخرى قال لهم: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً وأنا مع ابن الأدرع!! فأمسك القوم قسيهم وقالوا يا رسول الله من كنت معه غلب، كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فضحك النبي وقال: ارموا وأنا معكم كلكم.
وأما الخيل فلا نحتاج إلى دليل لنعلم مدى إعجاب النبي الكريم برياضة ركوب الخيل، وهو القائل الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، ويقول: اربطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار وعليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو أدهم أغر محجل، ويقول الخيل ثلاثة فهي لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر.
بالطبع الاستدلال الفقهي للمسألة الرياضية والترجيح بين الأدلة ينعقد في الندوات العلمية وليس على صحائف جريدة الثورة، ولكن الناس تتساءل هذه الأيام عن جنون المونديال، وتراصف أعلام الدول الغربية على شرفات دمشق وحلب والمدن السورية، والوسائل البهلوانية التي يمارسها جيل الشباب للتخلص من أساليب صالح كامل الاحتكارية التي جعلت لذة متابعة المونديال مقترنة بالعفرتة الالكترونية لفك الكود والتشفير ومتابعة النجوم المفضلين، وتطرح ألف سؤال عن الرياضة بين الشريعة والحياة.
ولكن الحديث عن المونديال بواقعية لا ينبغي أن يدفع إلى إقرار كل ما يمارس في المونديال من أداء سلبي لعل أبشعه ما نتابعه كل يوم من تسليع الإنسان، وتسلط الشركات الإعلامية العملاقة على مقدرات الحشر الرياضي العظيم بحيث يصبح لكل موقع عين في أفق المونديال تسعيرة مرقمة بالدولار الأبله، تحتله شركة تجارية تغري ما في جيبك بالاندفاع نحو خزائنهم وأرصدتهم وبالتالي طرح التنافس المادي المحموم الذي يطارد بضراوة روح الفينيق الأول الذي كان يستلهم جوبيتر في معابد الرياضة الأولى حيث كان المجد للإنسان.
المونديال يجب أن يكون مناسبة تؤكد لك أن المادة في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة المادة، وأن رسالة الرياضة في الخلود كما رسمها الفلاسفة الأوائل أن تطلق الروح الإنسانية من أغلالها لتدفعها إلى معبد الروح، حيث تستحق أن تخلد كما فينوس وسبارتاكوس في خيال الأرواح الكبيرة التواقة إلى الحرية.
ربما كان ضرورياً لنشعر بطغيان الدولار على شعلة الأولمبياد أن تقوم شبكة إعلامية باحتكار المونديال ومن ثم تقيؤه سلعاً على – حد تعبير الدكتور طيب- وإنجاز احتكار عربي لا تزال القارات الخمس قاصرة عن إنتاجه أو تفهمه بهذه الطريقة القاسية والتي أهون ما توصف به أنها لا تمت للروح الرياضية بصلة لا من قريب ولا من بعيد وهي الروح التي كافح أبطالها خلال التاريخ ليمتعوا العالم بمظهر الإنسان الجبار الذي نسجه الله بيمينه ونفخ فيه من روحه.
مع حبي للرياضة ولكنني لم أتمكن هذه المرة من حفظ أسماء اللاعبين الكبيرة ولا زلت عند حدود رونالدو وزين الدين زيدان، وبقية الأسماء التي في الخاطر هي من نوع بيليه وبكنباور وموللر وياشين وكرويف وهي أسماء ستبدو غير مفهومة لأولادي وهم يرصدون الجديد من الفانيلات الذهبية في موينيخ، ولكن ذلك كله يعزز التساؤل: هل يبدو اهتمام أبنائنا بالمونديال ورفع أعلام الدول المشاركة فيه بصورة صادمة مبرراً في هذه المرحلة المحمومة من الصراع مع الغرب الاستبدادي.
هل يشعر أبناؤنا الذين يرفعون هذه الأعلام أن أهلنا في قطاع غزة لا يتاح لهم أن يتفرجوا على المونديال، ليس لأنهم لا يعرفون فك الكود المشفر ولا لأنهم لا يمتلكون مائتي دولار للشركة المحتكرة، ولكن لأنهم لا يجدون الكهرباء بعد أن بطش الإسرائيلي بكل مقومات البلد وأحال غزة هاشم إلى ظلام دامس، أراده بلا عمل ولا أمل.
سوريا طول تاريخها متفرجة في المونديال في موقع مفعول به منصوب، ولكنها هذه المرة أيضاً لم تعد تتمكن من الاحتفاظ بوظيفتها التقليدية كمتفرجة بعد أن بدا لإحدى قنوات العرب أن ترقم بالدولار خلايا الإبصار العربي، وتحيل عملية الإبصار إلى لعبة تجارية خاوية جلفة غير مسكونة بأي روح.
قبل سنوات أثارت الأرقام المعلنة لانتقال اللاعبين من ناد إلى آخر حفيظة البابا يوحنا بولس الثاني فأصدر فتواه الشهيرة بتحريم هذا اللون من الاتجار حفاظاً على كرامة الإنسان ورعاية للشعوب المقهورة المغلوبة بعد أن ثبت أن قدم اللاعب البرتغالي الذي تم بيعه بخمسة وستين مليون دولار أصبحت أكثر أهمية من بلاد بحالها تئن تحت الفقر والمجاعة، ويمكن رفع المجاعة القاتلة عنها بقدم واحدة منه لا بقدمين.
لا أشك أبداً أن روح الإسلام الأول الذي كان يرسمه النبي الكريم بعفويته وبساطته، كان بإمكانه أن ينقذ الرياضة العالمية من وهدة الانحطاط المادي وأن يكسبها بعداً إيجابياً في العلاقة بين الإنسان والطبيعة وتالياً بين الإنسان وبين الحياة النابضة بالبشر والحب.