هل الإسلام دين ودولة؟ إنه السؤال الاستهلالي الذي تفتتح به عشرات المقالات كل يوم، وترسم ظلاله صورة الجدل الطامي الذي يعصف بالمجتمع الإسلامي برمته.
وبصيغة أخرى هل يحمل النص الديني مشروعاً لبناء نظام سياسي واجتماعي مختلف، أم أن الشريعة أمر يخص العبادات والقيم والأخلاق، وتحيل الأمر في بناء الدولة إلى القاعدة الذهبية التي أعلنها الرسول الكريم بقوله: أنتم أعلم بأمور دنياكم.
نحاول في هذه المقالة أن نقترب من فكر المجدد الإسلامي الكبير محمد إقبال، وأقدم للقراء الكرام بعض أفكار إقبال في كتابه الفريد تجديد التفكير الديني في الإسلام وقد نظمتها شعراً أردت به أن أقارب منهج الرجل الفكري الذي عودنا منبر الشعر روحه العاصفة.
والأبيات التالية ليست ترجمة حرفية لشعر الرجل ونصه، بقدر ما هي إلهامه ورؤيته.
ومع إن إقبال لا يصنَّف في الأصوليين من فقهاء المسلمين ولكنه بكل تأكيد يحظى بأكبر قدر من الاحترام في ضمير المجتمع الإسلامي بوصفه أكثر صيحات النهضة تأثيراً في نفوس الجيل.
يطرح إقبال فهماً فريداً لمسألة النبوة، يتجاوز السياق التقليدي في مسألة الغيب والشهود، إنه يطرح أسئلته بصيغة حقوقية مباشرة تجمع بين الحقوقي والشاعر، وتقارب ما بين الغايتين.
وعلى الرغم من موقف إقبال البالغ الاحترام للنبوات كلها، واعتبار تاريخ النبوة هو سياق التاريخ الإنساني، وأن الأنبياء هم قادة الإنسانية في مشوارها الطويل، ومواقفه المشهودة في الإيمان المطلق بالنبوات خزائن لمعرفة الله وبوابات لنعيم الجنة ولكنه ينظر إلى نبوة الرسول الكريم من منطلق آخر.
لقد رأى أن النبوة الخاتمة هي ميلاد العقل الاستدلالي، ونهاية العقل الاتباعي، مولد الأحرار ونهاية القطيع، مولد الفكر ونهاية الرواية….
قال إقبال: “ان النبوة في الاسلام لتبلغ كمالها الأخير في ادراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها وهو أمر بنطوي على ادراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان لا بد له في النهاية أن يعتمد على نفسه !!
إن إبطال الإسلام للرهبنة وتوريث الملك ومناشدة القرآن العقل والتجربة باستمرار واصراره على ان النظر في الكون وأخبار الأولين باعتبارها مصدرا رئيسا للمعرفة ، كل ذلك يقدم صوراً مختلفة لانتهاء النبوة.
فكرة انتهاء النبوة لا تعني ان العقل سيحل محل الشعور بشكل نهائي، إنه أمر غير ممكن، ولكن فكرة انتهاء النبوة تنزع العصمة عن أي فكرة تتدثر بالغيب وتخضعها للخبرة والتجربة، إن التصوف هو التجلي الأخير لاستئناف مدرسة الشعور بجوار مدرسة العقل بعد انتهاء النبوة.”
وهذه الفكرة عبر عنها مالك بن نبي ببراعة: إن الرسول جاء ليخرج الناس من صباب الخوارق إلى صياء السنن.
انتهت النبوة بوصفها قيادة من سجاف الغيب للإنسان الحائر، ولم يعد هناك حاجة حين نصنع الطائرات والسيارات والجسور أن نسأل الأنبياء ما لونها وما شكلها وإن الطير تشابه علينا، ولم تعد هناك حاجة أن يراوح الانبياء بين السماء وبين الأرض من أجل الإجابة على أسئلة الناس، لقد رفعت الأقلام وجفت الصحف، وانتهى عصر الخوارق وجاء عصر العلم، وانتهى عصر الغيب وجاء عصر الشهادة، وانتهى عصر الوحي وجاء عصر الإنسان.
ومع أن إقبال كتب هذه التساؤلات بلغة حقوقية صارمة ولكنه عاد إلى عالمه الروحي يرسمها بظلال الشاعر، ووقف بثبات وشجاعة أمام النبي الكريم يستلهم رسالته في القيام والنهضة، فالمطلوب ليس استنساخ تجربته وإنما خلق تجربة جديدة، والسنة ليست تقليد الأنبياء وإنما اتباعهم، وفرق ما بين التقليد والاتباع أن التقليد ينصب على النفوس المطموسة التي لا تحسن إبداعاً ولا تجيد اختراعاً، أما الاتباع فهو اتباع منهج وسلوك، ولا يكون المرء متبعاً حتى يخلق تجربته بيديه.
أيها الخاتم مجد الأنبيــــــاء ألف مرحى يوم ألغيت الخرافة
إنما المجد الذي ورثته عاد أوهاماً وجهلاً وعرافة
ليس المطلوب أن تهدم أوثانه، لقد هدمها بيديه، ولكن المطلوب أن تهدم أوثانك أنت، ليس المطلوب أن تقرأ برهانه، بل المطلوب أن تنتج برهانك أنت، إنه رجل الرسالات الباقيات
أيها الثائر في أوثانــــــــــه يتحدى الدهر طوفاناً وموجاً
أنا في الهيكل فامنحني إذن فأسك الجبار إقداماً ووهجاً
إن قوة النبوة إذن عند إقبال ليس في أنها أجابت عن أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل كما هو الشائع في تصور الفقهاء، لقد نظر إليها من أفق آخر إنها ميلاد العقل الاستدلالي، إنها اللحظة التي بات من الممكن للعقل أن يمتلك رشده وأن يكف عنالتماس طريقه ودربه من روايات السماء، إنها اللحظة التي يحل فيها الشهود محل الغيب، والعقل محل النقل، والعلم محل الخوارق، والبرهان محل العجائب.
يقترب منه في منصة حضوره وقراره، لقد فهمت مرادك تماماً حين تريدني أن أعتمد على زندي ويدي، وأن أستضيء بنور العقل وبرهانه، ولكن ما هي إذن تلك النبوة التي ملأت العالم بالحب والأمل.
إنها أشواق وأذواق، كنت ترسم فيها صورة الإنسان الإعلى، في قيمه وأخلاقه وطهارة روحه وسعادة فؤاده، ومن الهوان أن تهبط بها لتكون مجرد أنظمة إدارة وقضاء واقتصاد:
أيها الصــــادق أشواقك في غارك العالي شفاء للقلوب
كنت تلقيها على جنح الدجى وتلقاها على جنح الغيوب
كان يصرح بالعجب من إصرار المسلمين على التماس أجوبة لمشاكلهم من أفق الغيب، وكان تأخذه الحيرة من عكوف الأمة الإسلامية كلها عند حروف النص تتأوله وتتناوله وتبحث فيه عن عجائب وأسرار مع أنه جاء أصلاً ثورة على العجائب والأسرار:
أيها الشـــــــاهد ما للمستقى صار سقيا من دم حر وسم
إن ماء المزن ترياق الحياة ربمـــــــا يقتل حبطاً أو يلمّ
ولم يتردد في ندائه وحواره مع الرسول الكريم في مشروعه لختم النبوة أن يصارحه بأن الجمود على النص القديم يعني أننا نتوالى في السقوط، فاللحظة التي أمرهم بها أن يقاتلوا الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله لم تعد موجودة، ولم تعد أسبابها قائمة، ولكنهم لا يزالون يحشدون الجيوش للدخول في حروب لا تنتهي مع الأمم لأنهم مأمورون بذلك، وهنا يصرح إقبال بحيرته وألمه:
أيها الصادق كم من نكبة قد نكبناها بنص مسند
لم تكن تعلم لما قلتها أنهـــــــا دستورهم للأبد
رب آيات من الصرف الصراح رتلتها ألســـــــــن المستغفرين
قد تبدى ذات يـــــــــــوم أمرها لم تخف أسقطتها حكم اليقين
ويمتلك الجرأة أكثر في تسجيل إعجابه بالرسول الكريم حين وقف ناسخاً لكثير من الأحكام التي نادى بها الأنبياء من قبل، بل وبعض ما نادى به هو من أحكام وشرائع، بعد أن تغيرت ظروفها وأحوالها وفرض الزمان حكمه البصير: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
أيها الصادق كم من وقفة قمت فيها ناسخاً حكم السماء
وشجاعاً كنت في تغييرها يا لنا أتباع شؤم جبناء
أيها الصادق كم حاربتهــــا في ضمير الدهر أشكال الخرافة
ذات يوم أنت رويت الورى من لهذا الجيل يرويه جفافه
وأسمح لنفسي أن أختم بهذه الأبيات التي نظمتها على نسق موقفه في مسألة ختم النبوة، حين وقف بين يديه:
ما النبوات التي كانت لكم غير أشواق وأذواق ونور
رقرقت شوقاً على أسماعكم فجرت أنغامها فوق السطور
فلمــاذا ختمت أنوارهـا؟ رغم ما يشهده العــالم هذا
ولماذا طويت أسرارها ؟ ولمــــــاذا ولماذا ولماذا؟
إنها تساؤلات وزفرات على نسق شكوى وجواب شكوى يلقيها بين يديه بزفرة الحائر فيجيبه من سجاف الغيب:
لا تلمني يا صديقي إنني خدمة للعقل أوقفت النبوة
لم أشأ أرضى لكم أوهامكم فخذوا أقداركم عني بقوة
مجدكم في الأرض لا ترسمه جثث تسكن في جوف المقابر
فخذوا أقداركم وانتبهــــــــوا واصعدوا أنتم على تلك المنابر
ثورتي البيضاء في أرض الحجاز بيد قل لي أين منها ثورتك
أنا ماضيك الذي تذخـــــره بيد قل لي أيتنه مستقبلك
إن مصباحي الذي أسرجته نورك الباقي على مر العصور
إنما زيتك من يسرجه ليس زيتي وأنا ابن القبور
أنا كالمرآة في سيارتك إن تراني تبصر الماضي وراءك
بيد لا يكفيك ماضٍ آفلٌ إنمـــــا دربك أبصره أمامك