مقالات

سوريون في مواجهة الجيوش- حاتم علي نبض التوحد

حاتم علي

بداية مبشرة لعام 2021 بعد طوفان المآسي والأحزان، فقد استقبلناها بمشهد لم تألفه سوريا منذ عشر سنوات، حيث توحد السوريون بطوائفهم ومواقفهم السياسية مع فنان مبدع استطاع أن يعيد في ضمائر السوريين الأمل وأن يحيي من تاريخهم وثقافتهم ما يبعث في حاضرهم بوارق الرجاء.

لأول مرة يتنسم الناس عبير المجتمع السوري المتسامح، ولأول مرة رأينا معارضين وموالين يزدحمون في الخارج والداخل لتقديم التحية للرجل الذي أيقظ في نفوسنا الامل بعودة الروح الواحدة لتجمع السوريين وتعود بهم إلى الأيام الجميلة في عبق الياسمين.

وحدها نقابة الفنانين التعيسة كانت غائبة وحسناً ما فعلت إذ لا يليق بخطاب الحرية أن يكون جزءاً من دكانة مهترئة تعيش خارج الواقع وتقوم بطرد مبدعيها وأحرارها ثم تتدثر بدثار الوطنية والقانون.

لقد تولت مقالات كثيرة أعمال الراحل ونجاحاته المتواصلة في تقديم دراما تاريخية متقدمة تتفوق على طموح كثير من المتابعين، وأشير بشكل خاص إلى مسلسل عمر بن الخطاب، الذي نجح فيه حاتم أن يقدم للجمهور صورة الخليفة الأكثر توهجاً وإشراقاً وعدالة في الإسلام، ونجح في أن يقدم حماسه وانتصاره لموقفه الفكري في الجاهلية والإسلام، وتجنب الأسلوب الصبياني الذي يلجأ إليه كثير من الكاتبين في وصف الرجل بأسوأ أسلوب في الجاهلية وأقدس أسلوب في الإسلام، بل أمكنك أن تجد في عمر بن الخطاب بالفعل ما أخبر به الرسول الكريم: خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا..

إنها إحدى أمراضنا المزمنة في وعينا الحضاري حيث نتنكر لكل جميل في خصال العرب وأمجاد سوريا، ونقدمها للناس بلاداً بلا روح ولا حضارة ولا أخلاق فقط لنظهر مجد التحول إلى الإسلام، وكأن الإسلام لا ينشئ حضارته إلا على ركام من فشل وحطام، مع أن الرسول الكريم كان يصف نفسه بأنه قد جاء ليتمم مكارم الأخلاق..

وبالطبع فإن روعة الإخراج لم تكن لتظهر لولا روعة النص الذي كتبه الهائل وليد سيف، وهو الرجل الذي مكن الله قلمه من تدوين أروع ما في نصوص التاريخ، ومنحه روحأً جديدة، ثم إضافة ما تحتاجه الدراما بنسق لغوي من قلمه لا يقل عن روعة الأولين إن لم نقل إنه يزيد عليها قوة وحضوراً.

على أي حال فليس هذا المقال مخصصاً للنقد الفني ولكنه محاولة لرسم الأمل في وجوه السوريين بعد عشر سنوات عجاف، اختلف فيه السوريون حول كل شيء، واختارت قيادتهم الحل العسكري في مواجهة مطالب الناس وقسمت المجتمع إلى موالين وخونة!! وقامت بدفع السوريين إلى ممارسة كل أنواع الشقاق، والتحارب في كل زقاق، وبالتالي فشل السوريون في إنتاج رموز وطنية تحمل هم الجميع وتتعلق بها أبصارهم وآمالهم.

الوطن الذي تستبيحه اليوم جيوش نظامية ستة لدول كبرى ذات أطماع واضحة، وفي تلافيفها أكثر من ألف فصيل محارب من لبنان والعراق وإيران وباكستان وأفغانستان، باتت عودته أشبه بالحلم المستحيل، بعد أن اقتنع كثير من السوريين بأن سوريا وطن زائف، وأنه لا يجمع بين السوريين شيء، وأصبح أكثر الأسئلة حرجاً سؤال: كيف سنعيش مع الأوغاد؟؟؟ لا حل إلا باستئصالنا أو استئصالهم، فلا يمكن التعايش بين الجريمة والعدالة، ولا بين الأخلاق والوغادة ولا بين الكفر والإيمان!! وأصبح تصور عودته وطناً لكل أهله ضرباً من الخيال، بعد أن يئس من قيامه شبابه وشيبه، ورجاله ونساؤه، وأصبح حلم المغادرين بالعودة بارداً وتعيساً، فيما بات حلم المقيمين بالرحيل أكبر الأحلام وأكثرها حضوراً طاغياً.

ولكن هذا اليأس الذي طبع حياتنا عشر سنوات متتابعة، تم كسره اليوم في مشهد الجنازة المهيب للرجل المحبوب، الذي اظهر قدراً غير عادي من توحد السوريين أملاً وتوقاً وشوقاً إلى روح الوطن الواحد والمجتمع الواحد الذي يعول عليه في بناء سوريا الجديدة.

في عام 2010 وجهت لي حركة مجتمع السلم الدعوة لإلقاء محاضرات في الولايات الجزائرية على تخوم الصحراء، وذلك في أعقاب برنامج الوئام الأهلي الذي أعقب سنوات الحرب الأهلية الدامية، والعشرية السوداء التي ارتكبت فيها أبشع جرائك التاريخ الوحشي، وبالفعل فقد أمضيت خمسة عشر يوماً أتنقل كل يوم في ولاية، فأكون بين أهلها أحاضر فيهم وأنام معهم من الجزائر إلى وهران ثم نعامة ثم معسكر ثم الأبيض ثم تيارت ثم الأغواط ثم البليدة ثم المدية والجزائر العاصمة، وكانت الذكريات لا تغيب أبداً عن مشاهد الموت التي وقعت في تلك البلدات الحزينة، من مذابح ومحارق ومجازر، وكانت صور الأبرياء الذين ذبحوا في هذه الولايات الصابرة تملا الجدران والشوارع في ذكريات دامية اليمة تجعل تصور نهاية الحرب مستحيلاً وتجدد في كل صباح صور الأهوال والأحزان.

ولكن كيف انتهى ذلك كله؟ وكيف أصبح بإمكاني أن أطوف وحيدأً في قرى الصحراء وأخرج في الليل والنهار آمناً من كل خوف؟

كنت أقول هل ساستطيع يوماً أن أركب سيارتي من دمشق على دير الزور الى القامشلي ثم حلب ثم إدلب واللاذقية وطرطوس ثم حماه وحمص ثم الى القلمون ثم أعود الى دمشق… إنها اليوم أحلام مستحيلة، وليست عشيات الحمى برواجع… إليك ولكن خل عينيك تدمعا!!!

ولكن من يدري فقد يكون في خبر الغيب رواية أخرى.

أعتقد أن جنازة حاتم علي وما صاحبها من مشاعر التعاطف والمحبة، والشراكة في العمل والأمل أعادت إلى النفوس صورة الوطن الواحد الذي افتقدناه في غمار الحرب.

إننا نعيش الألم ومن حقنا أن نعيش الأمل… بل نحن محكومون بالأمل

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة … يواسيك او يسليك أو يتوجع

Related posts

الحرب الطاحنة على الكاريكاتور

drmohammad

أحرار .. لا زنادقة

drmohammad

نحو لغة إنسانية في ترانيم الدعاء – نحو دعاء حضاري

drmohammad