حملة: إلا رسول الله…
والمقصود بالطبع هو الحملة الغاضبة التي أعقبت تصريحات عدائية متبادلة بين تركيا وفرنسا، بعد قيام صحف فرنسية بالإساءة إلى الرسول الكريم وقيام مسلم غاضب بقتل معلم فرنسي، وتفاعل المجتمعات الإسلامية بغضب ضد الإساءة لمقام النبوة.
وفي الواقع فإن هذه الحملة كغيرها من الحملات تروج لعدة أسابيع ثم تنتهي، حيث يتم تعبئتها وتفريغها سياسياً، فهي مثلاً تتخصص في عداء فرنسا وتصريحات زعمائها ولكنها لا تشير بشيء إلى الصين التي تعتقل أكثر من مليون ونصف مسلم إيغوري في معتقلات حقيقية ولا تشير إلى بورما التي تشهد سلسلة مجازر متوحشة ضد المسلمين.
ولكن الأسلوب الأكثر نجاحاً لوقف الإساءة للانبياء، ووقف حمى الكراهية المتنامي بين الشرق والغرب ليس الغضب والعويل والصراخ، بل هو النضال الحقوقي الحكيم الذي يستطيع ان يصل بعمق ووعي إلى منصات القضاء الأوربي.
قبل عامين سجل القضاء الأوروبي خطوة جريئة وغير متوقعة بإعلان المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن تحقير الرسول الكريم وسائر الأنبياء يعتبر عملاً مسيئاً للامن المجتمعي ولا يمكن تبريره أبداً بحرية الرأي.
جاء ذلك في سياق تأييد المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان لحكم سابق أصدرته المحاكم النمساوية ضد امرأة قامت بما اعتبر تحقيراً للرسول الكريم حين اتهمته بميول مرضية عنيفة ضد الأطفال، واعتبرت المحكمة هذه الادعاءات غير قابلة للبرهنة العلمية وأنها تعتبر إساءة للآخرين، وليست حرية تعبير ورأي.
هل سيوقف هذا القرار سيل ثقافة الكراهية التي يتبادلها فريقان متربصان يمارسان باطراد متنام ثقافة الإسلاموفوبيا والغربفوبيا، وهي مشاعر توفر الوقود والحطب لمزيد من الحروب الجديدة.
وأصبح بإمكاننا اليوم ان نقول إن العدالة الأوروبية قادرة على الإنصاف وقد باتت أكثر تحرراً من ربقة الحدود الدموية التي كانت لعهد طويل سمة الفواصل بين الشرق والغرب، والتي ظهرت أهوالها في الحروب الصليبية ثم تكرست بتبادل الصراع بين العثمانيين في أوربا والاستعمار الأوروبي في البلاد الإسلامية.
ولكن كيف أمكن الوصول إلى هذه الغاية النبيلة؟
في الحقيقة لقد مارسنا الصراخ والصياح أكثر من العمل العاقل المسؤول، وحين ظهرت الإساءات للنبي الكريم اشتعل العالم الإسلامي غضباً وأحرقت سفارات ودمرت مباني كثيرة وظهرت أفلام صاخبة تهدد وتتوعد، وفي يوم واحد سقط في أفغانستان عشرات القتلى في مظاهرة صاخبة تحت عنوان…. إلا رسول الله!!…
ولكن ذلك كله لم يغير شيئاً في العقل الأوربي وظل الأوربيون يقولون ما بال المسلمين لا يفهمون حرية الرأي…؟؟ وازدادت التساؤلات حدة ومباشرة مع قيام أعمال إرهابية عنيفة في شارلي ابيدو وغيرها ثأراً من الرسوم المسيئة….
ولكن الأسوأ من ذلك هو تطور الغضب إلى أفعال متوحشة وبالفعل فقد قام عدد من الغاضبين بارتكاب أعمال دموية ظالمة سقط فيها معلم فرنسي ذبحاً لانه نشر صوراً كاريكاتورية للنبي الكريم، ثم تبع ذلك اعتداء مباشر على كنيسة في باريس سقط فيه سيدتان من كبار السن، وجرح آخرون.
وهكذا فقد قدم التطرف ألف ذريعة جديدة لاعتبار الإساءة للأنبياء عملاً مشروعاً مبرراً، وبدلاً من أن يتعاطف الأوروبيون مع مشاعرنا برزت مشاعر عدائية جديدة في الغرب تدعو للتحفز والتربص وانتظار العنف من الشعوب الإسلامية الغاضبة، وأسهم ذلك في ظهور تيار عنصري أوروبي يدعو إلى عدم احترام المقدس الإسلامي بل ذهبت تيارات يمنية حاقدة إلى حد التصريح علناً بأن المقدس نفسه الذي يدافع عنه المسلمون عنه ضالع في العمل المتوحش.
وفي السياق نفسه ظهرت أصوات أخرى تنفخ في رياح الكراهية وتحض الأوروبيين على مزيد من الإساءات، وفاء سلطان نموذجاً ظهرت على منبر الجزيرة تطالب الدنمركيين بمزيد من الرسوم المسيئة والمهينة للإسلام، على أساس أن هذه هي الطريقة الضرورية لنشر الوعي في المجتمع العربي ولتحذير أوربا من خطورة الإسلام…..
ولكن الغضب والخطاب الانفعالي المتبادل في الشرق والغرب زاد من حدية المواجهة وظهرت أحزاب يمينية متطرفة في أوربا باتت تصرح بعداوة الإسلام والمسلمين، فيما بات الخطاب الإسلامي التقليدي يستذكر شعارات القطيعة الحتم بين الإسلام والغرب، على أساس منطق ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم، وبلغ التحفيز الغاضب غايته ومداه.
ولكن الواقع قال غير ذلك، فالحرية المطلقة بدون قيد لا وجود لها إلا في مشفى المجانين، وفي إطار من الثقة والعقلانية وبعد جهود حقوقية قام بها قانونيون منصفون، نجح هؤلاء في إقناع محكمة نمساوية بأن الإساءة المهينة إلى نبي الإسلام هي بالضرورة إساءة مباشرة لمعتنقي هذا الدين الذي يعتبر ديناً رسمياً في النمسا منذ عام 1923 وأن على القضاء أن يدافع عن كرامة هؤلاء المواطنين الذين يواجهون ازدراء مقدساتهم، وأن العدالة وحدها هي التي تحول مشاعر الرغبة بالثأر إلى مشاعر الرغبة بالإنصاف.
ونجحت هذه المساعي في استصدار صك قضائي يصرح بأن إهانة المقدس الديني لا يعتبر حرية رأي، وأن المجتمع مطالب بحماية مشاعر الناس تجاه مقدساتهم، وتمت إدانة السيدة النمساوية وتغريمها العقاب والتعويض.
ومع أن الهيئات الحقوقية التقليدية في النمسا صدمت بهذا الموقف وتسببت في غضب اليمين العنصري، وكتبت مئات المقالات عن حرية الرأي التي تتناقض مع هذه التوجهات، وقام اليمين برفع الامر برمته إلى القضاء الأوربي، ليقول كلمته بعيداً عن التدافع السياسي في النمسا، ملتزماً أرقى أدبيات أوروبا وقيمها في حرية التعبير وحقوق الإنسان، وبعد مرافعات استمرت ست سنوات متتالية انتهى القضاء الأوروبي إلى تصديق الحكم النمساوي واختار بالفعل تقييد حرية الأفراد بمنع الاعتداء على الآخرين.
في الواقع لقد تفهم القضاء الأوربي بوضوح الفارق بين حرية التعبير وبين احترام المقدس، ومال الى احترام المقدس وحكم بصراحة أن تحقير المقدس الديني لا يعتبر حرية تعبير بل يعتبر اعتداء على الآخرين.
لقد كان الأمر في الواقع نجاحاً بامتياز للنضال الحقوقي… صاحبته بالتأكيد ضغوط سياسية مختلفة وتضامن كبير من الهيئات الإسلامية وهيئات حقوق الإنسان واحترام الأديان، وهذا امر طبيعي في مسائل الشأن العام، ولكنه يحتاج إلى إصرار ومتابعة وموضوعية.
قبل عقود كان اليهود يتعرضون في أوروبا لإهانة معاناتهم والتشكيك في محارقهم، وكان ذلك كله يعتبر من حرية التعبير، ولكن الحقوقيين اليهود نجحوا في إقناع الراي العام بمعاناتهم، وواستهتار الهازئين بهم، وتوجهوا بصرامة وعزيمة نحو الهيئات الحقوقية والبرلمانية وبعد نضال طويل اشتركت فيه الحقوق بالسياسة بالمصالح نجح اليهود في إقناع عدد من الدول الأوروبية أن التشكيك بالمحارقة يعتبر عملاً غير اخلاقي ويشكل إهانة مباشرة لأتباع ديانة معتبرة في أوربا، وقد استمر هذا النضال الحقوقي بلا هوداة حتى نصت عدة قوانين في الغرب منها فرنسا إعلى محاسبة من يشكك في المحارق، وهكذا تحولت المسألة برمتها إلى تابو يمنع التشكيك فيها وحقق اللوبي الأوربي اليهودي إنجازاً حقوقياً فريداً يخولهم مطاردة خصومهم الفكريين تحت عنوان الاستهتار بعذابات الناس ومقدساتهم.
في النهاية تثبت العدالة الأوربية أننا في عالم مختلف، بات أقدر على تحمل مسؤولياته وحماية المقدس الديني بوصفه مطلباً حقيقياً مشروعاً للمجتمع.