مقالات

د. محمد حبش- خطوة باتجاه التكامل بين الإسلام والديمقراطية7/1/2006

على هامش المؤتمر الدولي في الرياض: (الشورى والديمقراطية والحكم الرشيد)

تعودتُ أن أسافر إلى الخليج العربي بدعوات من الجهات الدينية كقارئ أو واعظ ديني، حيث تُقام لقاءات مستمرة في الخليج والعربية السعودية بهدف تشجيع الناس على التمسك بالعقيدة والشريعة، والتزام منهج السلف، والابتعاد عن أي خطاب يتصل بالسياسة، أو يتم تفسيره في إطار مطالبة بالحقوق السياسية، على أساس أن الحقوق السياسية للعرب موجودة ومحفوظة ضمن الأنظمة الحالية ولا يمكن الحديث عن المزيد، بعد أن جاءت الحقوق السياسية في الكتاب والسنة، وطبقها الحكام على الوجه الأتم.
ولكن الدعوة هذه المرة جاءت من مركز فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية من أجل مناقشة أكثر المسائل السياسية اتصالاً بحياة الناس؛ وهي الشورى والديمقراطية التي تم منحها اسماً عربياً محبباً هو الحكم الرشيد أو الراشد، ليحمل الذاكرة إلى تجربة الخلفاء الراشدين الذين رفضوا النظم الملكية والثيوقراطية والنازية، وأقاموا نظاماً راشداً يتحقق فيه كثير من المثل الديمقراطية.
كنت أظن أن هذه الدائرة دائرة حرام في المملكة العربية السعودية التي تلتزم خيارات ملكية صارمة لا تتيح أي فرصة للجدل في الشأن السياسي الذي هو اختصاص الراعي، فيما يتعين على الرعية الطاعة بالمعروف، وفق الأدب السياسي السائد: (اسمعوا وأطيعوا، ولو أُمِّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ولو أخذ أموالكم وضرب أبشاركم)، أو كما أوردته أحاديث ضعيفة مشهورة: (يا عبادي! لا تشغلوا قلوبكم بسب الملوك، ولكن تقربوا إلى الله تعالى بالدعاء لهم يعطف الله قلوبهم عليكم!!)، وفي رواية أخرى: (لا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على الملوك، ولكن اشغلوا أنفسكم بالذكر والتضرع أكفكم ملوككم!!).
وبالطبع فإن هذه الروايات تصادم بشكل حاد الوصية النبوية الذهبية: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
ولكن رغبة منظمي المؤتمر كانت واضحة في الوصول إلى تجديد الخطاب الديني والسياسي، بحيث يقوم الدين بدوره في مواجهة الاستبداد، والبحث عن المشترك الإنساني بين سعي الأمة للتمسك بثوابتها، وبين خيارها المأزوم في التجاوب مع الشرط الديمقراطي، الذي أصبح اليوم كما لم يكن من قبل في موضع الإجماع العالمي.
كانت ورقتي في المؤتمر تتجه إلى تقرير تساوق الفقه الإسلامي مع المطالب الديمقراطية، وإمكان قراءة القيم الديمقراطية في أعمال الفقهاء المسلمين، فخلال قرون طويلة من الكفاح الإنساني بلغ الإنسان شاطئ العدالة في الإطار النظري على الأقل، وهو ما صار يسميه الديمقراطية، وبدا واضحاً أن الأمم التي تتبنى الخيار الديمقراطي تعيش في رغد من العيش، وتقترب من المساواة والعدالة الاجتماعية، الأمر الذي جعل الشرط الديمقراطي أساسياً للانخراط في المجتمع الدولي، وأصبحت منجزاته يتبناها الإنسان في سائر المحافل الدولية.
ولكن هذه الديمقراطية التي تباهي بها المجتمعات المتحضرة تتعرض لعناء كبير في الشرق؛ إذ لحقتها آفة الريبة في كل وافد من الغرب، وهو ما يجتهد المحافظون في مقاومته من منطلقات مختلفة.
ويمكن إجمال الأسباب التي تَحُول دون قبول المنجز الديمقراطي من الوجهة النظرية في أمرين اثنين:
الأول: قدوم الدعوة إلى الديمقراطية عبر مؤسسات ودول غربية، الأمر الذي أشاع جواً من الريبة حول دوافع هذه الدعوات وغاياتها، ومن خلال ذلك فقد رأت بعض القيادات الوطنية فيه محاولة لتسلل الاستعمار من جديد على مركب الإصلاح، وقد تم تبرير مقاومة ذلك وفق منطق الخوف من التبعية الفكرية والاستلحاق.
الثاني: الجدل الفلسفي في المنطق الديمقراطي، حيث مضى عدد من رواد الصحوة الإسلامية إلى تقرير حتم التناقض الفلسفي بين القيم الإسلامية والقيم الديمقراطية، على أساس أن الإسلام احتكام إلى الله، فيما الديمقراطية احتكام إلى الشعب، وبذلك فإن المنطلق والغاية في سبيل تناقض، ولا يمكن أن يتأسس على ذلك أدنى وفاق.
وقد ظهرت هذه الفكرة بشكل واضح في كتابات سيد قطب الذي تحدث عن الوثنية البرلمانية الجديدة التي تحول دون الحكم بما أنزل الله، ولم يتردد في اعتبار العمل البرلماني عملاً وثنياً مناهضاً للحكم بالشريعة!!.
ولا شك أن هذا الفهم يتناقض أول ما يتناقض مع منهج النبي الكريم r الذي أسس أول دولة حقيقية في جزيرة العرب بإعلان دستور المدينة، وفي أول سطر منه عبارة أن محمداً ومن معه ويهود بني عوف -الذين كانوا آنذاك مواطنين في المدينة- أمة واحدة من دون الناس، وهذا يقتضي تأسيس العلاقات الاجتماعية على أساس المساواة والعدالة، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وليس على أساس الاصطفاف الديني.
إن رعاية مصالحة حقيقية بين الفهم الإسلامي والشأن الديمقراطي سيؤدي بكل تأكيد إلى إغناء الديمقراطية التي سترى في التجربة الإسلامية الغنية رصيداً حقيقياً للتجربة الديمقراطية، وسوف يسهم في تجريدها من اللبوس الغربي الذي يؤدي إلى تغريبها وغربتها في الشارع الإسلامي، وفي الوقت نفسه فإن التيار الإسلامي مدعو أن يدرك أهمية الإصلاح الديمقراطي وشأنه في تحقيق فهم أصح وأدق لرسالة النبي الكريم r، وبالتالي سيمنح قناعة أكبر بقدرة الإسلام على تقديم الحلول الحقيقية في كل زمان ومكان.
إن فتح مراكز الدراسات في الرياض للخطاب الديمقراطي الإسلامي، وعقد مثل هذه اللقاءات لا يمكن قراءته بدون سياق التطور الطبيعي للفكر الإسلامي وما يتعين إدراكه من تطور الخطاب الديني، وإدراكه لشروط العصر وغاياته، ولكن ينبغي أن ندرك أيضاً أن ذلك لن يتم بدون معارضات شديدة، ففي إحدى جلسات الحوار تحدث الشيخ أحمد راجح من جامعة الإمام بغضب في معرض رده على الباحث التونسي صلاح الدين الجورشي: “كيف تريدنا أن نقبل حرية الاعتقاد في الإسلام؟ إنه شيء لا مكان له إلا في أوهامك وفي أوروبا المائعة التي ضاع دينها ودنياها!! نحن هنا ننتمي إلى دين لا يساوم في الحق، ولا يتردد في العقيدة، ويلتزم قاعدة (من بدل دينه فاقتلوه)!!! ولا مكان في الأمة للمرتدين والحاقدين والخونة!!”
لست أدري أين ذهب الشيخ راجح بخطاب القرآن الكريم: لا إكراه في الدين، وقوله: لست عليهم بمصيطر، وقوله: وما أرسلناك عليهم وكيلاً، وقوله تعالى: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهي نصوص كثيرة كلها تحمل أوضح معاني الحرية الدينية وأجلاها، وهو ما أكد لديّ القناعة التامة بأن منجم الفقه الإسلامي غني إلى الحد الذي يكفي حاجتنا ويزيد، ولكن المسألة في موقفنا من هذا المنجم الكبير واختيارنا من كنوزه، وأعتقد أن اختيار دليل على الاستبداد من التراث ليس أصعب من اختيار دليل على الديمقراطية والحرية، وقديماً قالت العرب: اختيار الرجل قطعة من عقله!!

Related posts

بنات الأنبياء…المرأة في عصر الرشد 1/3/2007

drmohammad

ميلاد مجيد… دعوة للحفاظ على آل المسيح

drmohammad

الديانة الإبراهيميَّة

drmohammad

Leave a Comment