مقالات

إخاء الأديان

رسالة نبيلة نادى بها أئمة العقل والخير الإنساني في كل الأمم

لا أدري إن كان من الواقعي ان أبادر للكتابة عن كتابي بقلمي، أسابق الغبطة والزهو، فالكتاب الجديد لكاتبه كالمولود الجديد، وقد جرت العادة أن ينجز الكاتب كتاباً ويتولى النقاد التعريف به وتقويمه ونقده، ولكنني أجد نفسي مندفعاً للكتابة في كتابي الجديد، أسابق القلم خاصة انني أعتبره رسالتي التي كرست حياتي لها في إخاء الأديان وكرامة الإنسان وقد صدر أخيراً عن دار مؤمنون بلا حدود الواسعة الانتشار

وأجد نفسي في الكتاب وقد استوفيت ما أريد قوله، فقد أرهقني تقديم المعاذير وإرضاء الناس، وليس في الدنيا فضيلة أولى من الصدق والوضوح، بعيداً عن زخارف المجاملات، فالعالم لم يعد يقبل خطاباً بوجهين ولسانين، وصار من الواجب حسم المسائل، وأن لا تأخذك في الحق لومة لائم

ومع أن عنوان الإخاء الديني يحظى بالقبول النفسي لدى المؤمن عموماً ولكنه يصطدم، بلا شكّ، بنصوص قطعية في معظم الديانات، التي تعتبر الخلاص شأن الديانة الناجية وحدها، وأنّ مسؤولية أبناء الديانة هي دعوة الأديان الأخرى للتخلي عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق، بهدف بلوغ النعيم السماوي الخالد، الجنّة أو الفردوس أو النيرفانا أو الظهور الجديد، وفق ما تكرّسه الأديان من ثقافة وتقاليد

ومع أنّ المجتمعات الإنسانية، ومنها معظم الدول الإسلامية، باتت تمارس قدراً كبيراً من الإخاء الديني، في إطار المعاملات والتواصل المجتمعي، ولكنّها ترتدّ في لحظة النصّ إلى الحوارات العقيمة التي تجعل من الآخر دوماً شيطاناً ضالاً مصيره الشقاء والخذلان، تضيق به رحمة الخالق، وينال أشدَّ العقاب على ضلاله وإصراره، وهذا مدلول النصوص الظاهرة في الأديان الإبراهيمية بشكل خاص، ومن المؤكد أنّ هذا التفكير موجود بشكل أقل في الديانات الفيدية (الهندوسية والبوذية) ولكنّه غير موجود في الأديان الفولوكلورية الصينية واليابانية

ولا شك في أنّ المسألة لا تتوقف عند الجانب اللاهوتي، بل هو أيسر المسائل، فهي تتعداه باستمرار إلى الشقاق الاجتماعي، وتبادل الريب والاتهام، وتحقير الذات الإنسانية، فمن كان عند الخالق حقيراً مرذولاً لن يكون عند عباده في حال أفضل، وسيتنامى شعور الكراهية بشكل مطّرد من الإيديولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن ثم فإنّنا لن نكون أبداً أمام مجتمع مستقر أو متراحم، بل سنجد أنفسنا أمام ركام من البغضاء قد تزيّنه بعض الممارسات، ولكنّه يرتدّ في لحظة الاصطفاف إلى جحيم الكراهية ونار البغضاء

لقد أمضى الإنسان قروناً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر لأخيه الإنسان ويبادله اتهاماً بعد آخر، وانطبعت قصّة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع الأبدي في الأرض، ووجدت الصراعات والحروب المدمّرة تبريراً أخلاقياً، وتمّ تكريس المجرمين أبطالاً ملهمين في التاريخ، ومن المؤلم أنّ هذا الصراع انعكس أيضاً على جدل أتباع الأديان الذي بدا تسخيفاً وتشكيكاً، ثم صار تحقيراً ولعناً وتكفيراً، ثم تحوّل إلى حروب ضارية، ووجدت هذه الحروب، باستمرار، تبريراً أخلاقياً على الرغم ممّا فيها من ممارسات التوحّش البهيمية، ووجدت للأسف من بات يطلق عليها الحروب المقدّسة، ويكرّس أبطالها ومجرميها رموز التضحية والفداء، ويطالب بتكرار أعمالهم المجيدة، بل إنّ العقود الأخيرة قدّمت نماذج تطبيقيّة مرعبة أذهلت العالم كلّه

وتسعى هذه الدراسة إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص الدينيّة، والتوفيق بين الديني والاجتماعي والفلسفي، وتعمد إلى استقراء النصوص الدينية الأساسية التي تتبنّى فكرة ضلال الآخر وخسرانه، وتحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام الآخر اعتقاداً وديانة ومذهباً، وتجتهد أن تلتمس أجمل ما في الأديان، وتتبنّى تشجيع الديانات على الإخاء والتراحم فيما بينها، ونزع أسباب التمييز والكراهية

وهكذا فإنّ هذه الدراسة تحاول أن تقدّم للمكتبة العربية رؤية مختلفة لجدل الديانات، حيث تتخيّر من النبوّات والفلسفة والحكمة رائع المحاولات التي انطلقت من إيمان الإنسان بالإنسان، وترصد أرق ما امتلكه الإنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة، لبناء عالم جديد يتأسس على المحبّة والعرفان

وتتأسس الفكرة على أنّ هناك مكاناً يظهر أجود ما في الإنسان، ويكشف عن الجانب النبيل من إنسانيته، وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله الأديان، تأسيساً على الحكمة والإرادة والنبل في مقاصد الخالق العظيم، وإيماناً بالإنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه الجمعي، ممّا يؤكد وجود الجانب النبيل في تلك القيم المستقرة جيلاً بعد جيل، وأمّة بعد أمّة

ويقدم الكتاب مجموعة من المفاجآت غير المتوقعة، فمع أن السائد ان فكرة مساواة الأديان وإخائها مرفوضة بالمطلق لدى رجال الدين في معظم الأديان وخاصة الإسلام والمسيحية ولكن الدراسة تحشد سيلاً من النصوص الشرعية الأسياسية في القرآن والسنة تعزز بشكل مباشر منطق إخاءالأديان، وتستخدم الدراسة كذلك وسائل الفقه الإسلامي في الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع للوصول إلى أفق مجيد من إخاء الإديان، كما يستعرض مئات المواقف الشجاعة لقادة ومفكرين مسلمين ومسيحيين على مستوى عال من المصداقية والقبول تحدثوا بوضوح وشجاعة عن إخاء الأديان، واستطاعوا أن يؤسسوا للمذهب الإنساني العابر للأديان والطوائف والأوطان، ونادوا بصراحة وشجاعة برفض احتار الخلاص واحتكار الله واحتكار الحقيقة

ثم تطوف الدراسة بالأديان كلها فتستنطق في نصوصها التأسيسية نداءات مدهشة للمساواة بين الأديان ووجوب وقف جهود الكراهية والتبشير القائم على تزييف الآخر وتحقيره، وتصل إلى نخبة من القادة الدينيين في كل ديانة نادوا بإخلاص نحو إخاء الأديان وكرامة الإنسان

ثم تخصص الدراسة فصلاً خاصاً نستعرض فيه جهود فلاسفة عصر الأنوار لهدم فكرة احتكار الحقيقة التي قامت عليها امبراطورية الكنيسة خلال العصور الوسطى، وتربط بين جهودهم النبيلة المعززة بالعلم والفلسفة وبين جهود الحكماء في كل دين نحو وقف احتكار الخلاص والجنة والله، وتؤسس لعيش مشترك قائم على احترام كل أشكال الإيمان

لقد أردت أن أقول بوضوح: ليس إخاء الأديان محض طموح طائش يحمله أفراد مغامرون مسكونون بالمذهب الإنساني، بل إن التاريخ طافح بالرجال الكبار الذين اسسوا لهذا الوعي، وهو يصنفهم في التاريخ الإسلامي في خمسة أصناف: فلاسفة الإسلام وحكمائه، وأئمة الصوفية، وفقهاء الإخاء الإنساني، وفقهاء اللجان التشريعية في برلمانات الدول الإسلامية الذين نجحوا في 52 دولة منها على تضمين الدستور نفسه مواد المساواة والحرية والمواطنة، ونصوا بوضوح على بناء أعلى مستوى من إخاء الأديان بين الإنسان والإنسان

أرجو أنني لم أكن ضيفاً ثقيلاً عليكم إذ حملتكم على قراءة كتابي الجديد، ولكنني اكتب ذلك وأنا على غاية اليقين بأننا نعيش آخر عصور التعصب الديني، وأن الإنسانية ماضية على إعلان دين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان، وأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، أو كما عبر الرسول الكريم نفسه: (لا تخيروني على الأنبياء) نبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء

Related posts

الدكتور محمد حبش- في مواجهة التكفير 16/6/2006

drmohammad

د.محمد حبش- ستون عاما من النكبة ستون عاماً من المقاومة 16/5/2008

drmohammad

مواطنون لا رعايا

drmohammad