مقالات

فقه الماضي – دعوة للمراجعات

السلف الصالح كلمة تطلق على أهل القرون الثلاثة في صدر الإسلام ويوصفون بأهل القرون الخيرية، وهم الذين يطالب بعض المشايخ بمنحهم صفة القداسة والتبجيل بصفتهم أهل الله وصفوته من خلقه ومحل الاعتبار والقدوة لكل جيل.

ولعل أشد ما ابتليت به هذه الأمة هو الغلو، وهي ممارسة نهى عنها القرآن الكريم بصريح العبارة، يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، ولكن هذه الأمة في سياق هبوطها الكارثي باتت تنظر إلى الماضي على أنه سلسلة عجائب قدستها السماء وحفتها الملائكة وصلى لها القديسون، وبقدر السقوط الحضاري في الحاضر كان التبجيل الميتافيزيقي للماضي، فصار كل شيء مقدساً، النصوص مقدسة والصحابة مقدسون والسلف مقدس والرواة مقدسون وحروب الردة مقدسة والغزوات مقدسة والخلفاء مقدسون، وهكذا صار أي نقد إيجابي يتوجه إلى الماضي يعتبر عدواناً على الدين وعبثاً بالثوابت، وكأن إرادة الله وقوته وجبروته أضاءت بضع سنين من التاريخ ثم حكمت على الأجيال بالظلام والهوان إلى آخر الدهر.

واستقر الأمر عند المحدثين على القول بعدالة الصحابة مع أن منهم من لم يعرف إلا في آيات المنافقين، ومنهم من لا يعرف من فضائله إلا أنه الذي سرق الشملة يوم خيبر او أنه الذي قتل عثمان أو الزبير أو طلحة، أو أنه الذي جلده عمر في الفساد وصادر ماله، ومنهم من ارتد مرتين، ومع ذلك فحين تثبت رؤيته للنبي الكريم فإن هذا الإنسان يغدو مقدساً يحرم تناوله بكلمة، ويجب الجزم بأنه على أعلى درج العدالة!!

وتم تصنيف الرجال الذين ارتكبوا أفظع الجرائم والمآثم والمظالم كالحجاج بن يوسف وخالد بن عبد الله القسري والمهلب بن ابي صفرة وقتيبة بن مسلم ومحمد بن القاسم رجالاً مجيدين وفاتحين أبطالاً يمثلون السلف الصالح، مع أنهم حوكموا في محاكم السلف نفسها وتمت إدانتهم بافظع الجرائم، حتى قال عمر بن عبد العزيز يا معشر بني امية والله لو جاءت كل أمة بذنوبها وجئتم بالحجاج لغلبتم سائر الأمم!!

وباتت القدوة الصالحة لا تستخرج إلا من السلف ونهضت في العالم الإسلامي عدة حركات سلفية واسعة الانتشار عديدة الألوان ولكنها جميعاً تحمل مشروع العودة إلى السلف وبدا التقدم إلى الأمام مرهوناً بالنكوص إلى الماضي، وصار التاريخ الغابر هو مكان القدوة للمستقبل، وصار الخروج عن خط السلف فتنة وضلالة، واتباع أساليبهم في الطعام والشراب والثياب والهيئة والزي مظهر كمال وورع وتقوى.

فإلى أي حد تتطابق هذه القراءة مع روح الإسلام الأول؟

في الواقع لم يكن السلف الأول ذلك السلف الملائكي الذي نرسمه بالرياش الحالمة، لقد رواه لنا القرآن الكريم جيلاً من الأجيال فيه ما في كل الأجيال من خير وشر وطمع وإيثار وكبر وتواضع، وذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ولكن ذكر أيضاً المنافقين والعصاة والانتهازيين والدجالين، وفي ظاهرة مباشرة أنزل سورة خاصة سميت باسم سورة المنافقين وأخرى باسم سورة الفاضحة وفيها عشرات الآيات تنص على أن مجتمع السلف مجتمع عادي فيه المؤمنون وفيه المنافقون ومنهم الذين يؤذون النبي، ومنهم من يلمزك في الصدقات، ومنهم من يقول ائذن ولا تفتني ومنهم من عاهد الله فأخلف وعده، ومنهم من يستمع إليك… حتى قال ابن عباس ما زالت سورة الفاضحة تنزل ومنهم ومنهم حتى ظننا أن لا يبقى منا أحد!! وروي القول نفسع عن عمر ايضاً.

وقد أطلق السلف على اسم سورة التوبة أربعة عشر اسماً كلها تشير إلى فضح المنافقين والانتهازيين والأنذال، وكل هؤلاء كانوا يعيشون في المدينة المنورة ويصلون في المسجد، ومنها الفاضحة، والعذاب، والمقشقشة، والبَحوث، والمنقّرة، والحافرة، والمثيرة، والمبعثرة، والمدمدمة، والمخزية، والمنكِّلة، والمشردة.

والسلف اقتتلوا وتحاربوا وسالت دماء الأخ بيد أخيه، وانقسم المبشرون بالجنة إلى فريقين متحاربين، يستبيح كل منهما دم الآخر وماله وقومه، على الرغم من أنهم يروون عن رسول الله أن القاتل والمقتول في النار، وفي معركة الجمل وصفين كانوا يتوزعون على الطرفين، وتشير الروايات إلى مقتل 70 ألفاً في معركة صفين، فيهم ألوف الصحابة! مع قناعتي أن الأرقام مبالغ فيها إلى حد كبير، ولكنها لو كانت ألفاً واحدة لكانت كارثة تامة.

والسلف قاموا بغزوات حربية وعسكرية في كل وجه، وغنموا وقتلوا وأسروا وسبوا، وجمعوا ثروات طائلة بغير حق، وقد قام عمر بن الخطاب بمحاكمة عدد من مشاهير السلف من الصحابة وصادر أموالهم وجلد ظهورهم أمام الناس وأقصاهم عن كل منصب.

ومع ذلك فلا زلنا نرى كل ما وقع في تلك العصور مقدساً، ولا زال منهجنا التعليمي يرفض النقد كله ويعتبره اجتراء على الثوابت، ويكرس القدوة الصالحة للأجيال الآتية على ركام هذه التناقضات المريرة.

لا شك ان السلف كانوا على جانب من الخير وقد قاموا بأعمال نبيلة ولكن فكرة القداسة فكرة تمنع النقد وتكرس احترام الخطايا والآثام، وتوجب الدفاع عن كل خطاياهم ودعوة الأجيال الآتية لاتباع تلك الخطى بما فيها من هدر وضلال ونور وظلام.

لا أريد ان أرسم صورة سوداء للسلف فقد كان مشروعهم في الجملة مجيداً واستطاعوا أن يوفروا قسطاً أكبر من التوحد والبناء الحضاري ولكن لا يجوز فهم ذلك ابداً على أنه ممارسات عجائبية أنجزها محفل من القديسين بل هو سياق التاريخ ودروسه وعبره، ودرس النجاح فيها ليس أكثر من درس الفشل ودرس القدوة فيها ليس أكبر من درس الإخفاق.

لقد قدمت حروب الردة للسلفية الجهادية قدوة مناسبة لقتال كل مخالف، واتخذتها أنظمة الاستبداد أيضاً دليلاً على حقها في القمع والبطش وذهب بعض فقهائنا المعاصرين إلى وصف جيش الاستبداد بكل توحشه بانه يقتدي بالصحابة الكرام وهم يقاومون المرتدين، وقدمت مغانم الفتوح وسباياها قدوة للتطرف الجديد لممارسة نزعاته وغرائزه المتوحشة، وقدمت قصور السلاطين قدوة سوء للناس في حشد الغلمان والجواري وتم تبرير ذلك كله بأنه من فعل السلف الذين هم خير القرون!

حين نبسط القدوة لابنائنا فإن علينا أن نتخير لهم أولئك الذين أنجزوا خدمات حقيقية للبشرية وعلى رأسهم بالطبع رسول الله وإخوته من الأنبياء وعدد من خيرة أصحابه الأبرار، وفلاسفة الإسلام الرائعين الذين خدموا العلم والمعرفة، وكذلك كل الشرفاء الصادقين من الأمم، وكل الذين قدموا تضحيات حقيقية لإسعاد البشرية، ولكن يجب ان نعلمهم أن لا أحد فوق النقد، وأن النقد الإيجابي هو ما يجلو مكان القدوة من مكان النكبة، وحين نعجز عن النقد الإيجابي نتحول تلقائياً إلى الصنمية التي حاربها الإسلام.

أما درس السلف الصحيح فهو ما علمه القرآن الكريم بدقة، فقد أنكر أشد الإنكار على الآبائية والسلفية الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، وفي النهاية فإنه حين ذكر أسلافنا الكرام من الأنبياء العظماء وعدد أسماءهم مرتين في صفحة واحدة: إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى، قال بصيغة واضحة بصيرة في آية كررها مرتين، وأنا أسميها آية السلف الصالح: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.

Related posts

د. محمد الحبش- الأوقاف….. من أجل وزارة للإيمان والتنوير والتنمية 14/12/2007

drmohammad

د. محمد الحبش- العصر الذهبي للدعوة إلى الله 2/11/2007

drmohammad

هل هناك مؤامرة على الإسلام؟

drmohammad