مقالات

في مأساة غزة

الإنسان أم الحجر؟

هل مأساة الشعب الفلسطيني صراع من أجل الصلاة أم من أجل الحياة؟

تشكل الموجة الجديدة من الاعتداء الإسرائيلي على غزة خامس الحملات المتوحشة التي قامت بها إسرائيل خلال القرن الحالي ضد غزة وكان تحصد في كل واحدة منها ما لا يقل عن خمسمائة شهيد، وهو رقم فاجر لم يعد موجوداً في النزاعات الدولية، بعد أن نضج القانون الدولي إلى حد كبير، وفرض آليات واقعية لوقف الحروب وفصل القوات ونشر القبعات الزرق.

ولكن من المؤلم أن القانون الدولي وقف عاجزاً أمام توحش الانطمة على شعوبها خاصة في الدول الفاشلة، وقد قام الاستبداد بقتل عشرات الألوف من أفراد الشعوب الثائرة في اليمن وسوريا والعراق، ولم يستطع مجلس الأمن أن يفعل شيئاً إلا الشجب والاستنكار، وهو ما كرره بالأمس في موقفه من حرب غزة، حيث مارس المناشدة الباردة لوقف القتال إن لم نقل إنه مارس التبرير والتفسير تحت عنوان حماية السيادة الوطنية.

وتتجه هذه المقالة للإجابة على سؤال آخر وهو سؤال التفسير الديني للصراع وجدل التاريخ والحاضر بشأن المقدسات الدينية في فلسطين ومسؤولية كل ديانة في إشعال طرف من الحرب.

وبشكل أكثر دقة: هل من مصلحة فلسطين والشعب المقهور فيها أن يكون الصراع دينياً، وأن يتم حشد الناس في العالم للدفاع عن الأقصى وتنظيم حملات من المجاهدين العقائديين على نسق القاعدة في الجانب السني، أو فيلق القدس في الجانب الشيعي للقتال إلى جانب إخوانهم في فلسطين ونصرة الحق على الباطل وتحرير الأقصى وطرد الصهاينة من حائط المبكى عند طرف بيت المقدس؟

قناعتي أن المأساة في فلسطين هي مأساة إنسان وليست ماساة أحجار وأبواب وأسوار، وأن العالم لن يفهمها على الإطلاق أحجاراً مقدسة، بل يفهمها ويدركها ويتعاطف معها كقضية إنسان يعاني من الظلم والقهر والجبروت ويطالب بحقوقه كإنسان مظلوم مضطهد يطالب بالعيش بكرامة في أرضه ووطنه وداره.

في التاريخ هناك ثلاث روايات دينية متناقضة بالمطلق في هذه المدينة المنكوبة، التي يتفق الجميع على تسميتها مدينة الصلاة ويختلف الجميع فيها على كل تفاصيل الصلاة وجهة الصلاة وشكل الصلاة ومكان المعبود وطبيعته وصفاته ووحيه وإشراقه وعذابه وانتقامه!!

تذهب القراءة الإسلامية إلى أن القدس هي مسرى الرسول وهي المسجد الأول في الإسلام، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين وقد ارتبطت به أحداث كبرى في التاريخ الإسلامي وبات من واجب المسلمين أن يقاتلوا في أكنافه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم وعوائلهم وان يستنفروا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للقتال حفاظاً على المسجد والصخرة، وما ارتبط بها من خبر الإسراء والمعراج.

أما الرواية المسيحية فهي تتمسك بأن القدس هي كنيسة المهد وكنيسة القيامة وفيها قام يسوع بإعلان ألوهيته ورسالته، وبات كل شيء في القدس يذكر بظهوره وعجائبه، وباتت حماية كنيسة المهد والقيامة تبرر إعلان الحروب الصليبية لمدة مائتي عام واشتعال حرب عالمية طاحنة ولا باس ان يموت فيها مئات الآلاف من البشر فهذا ثمن قليل نقدمه لاحجار الكنيسة!!

أما الرواية الثالثة فهي أيضاً من أوثق الروايات عند اليهود وهي أن القدس هي الأرض التي قدسها إبراهيم وقد منحه الرب كل الأرض التي وطئتها قدماه له ولأولاده من صلبه إلى يوم الدينونة، وفيها الهيكل الإلهي العظيم الذي بناه سليمان، وبات الوصول إلى هيكل سليمان يبرر موجات حروب سوداء قاتمة ظالمة تزهق فيها الأرواح وتقتل الأنفس، وتم تكريس وعظ ديني يهون على اليهودي القتال والعنف والحرب والدم للوصول إلى هذه الهدف الإلهي الهائل الذي يتمثل في إعادة بناء هيكل سليمان الذي سيكون عند بنائه مدينة الله، وستخضع له الأمم طوعاً وكرها، وتعيش البشرية في كنفه عصر الحكم الإلهي الصارم الذي سينهي الجميع ويقيم الرب.

في سياق تناقض ماحق كهذا لا أعتقد ان التمسك بالرواية التاريخية والنصوصية سيخدم السلام في شيء، ولن تكون نهاية الحرب قريبة، وبكل أسف يجب الاعتراف بان الأديان الثلاثة لديها وثائق مقدسة قاطعة بحقها في تملك هذه الأرض المقدسة والموصوفة للأسف بانها مدينة السلام مع أنها لم تشهد السلام خلال التاريخ، وخاصة في آخر مائة عام حيث تكللت بالحرب والصراع اليومي والمجازر والدماء.

لا أنظر الى فلسطين على أنها كنيسة ومسجد وهيكل، ولا أرى الصراع فيها من أجل التضحية بحجر، ولا أعبر الصيحات النارية الغاضبة التي تدعو للتضحية بالأرواح من أجل القبة او المسجد وعياً صحيحاً بالإسلام، فالإسلام صريح بأن قدسية الإنسان أولاً وآخراً، وبعد ذلك ما يكون من حجر ومحراب وقداس وباب، ولو أن أحدكم هدم الكعبة حجراً حجراً كان أهون على الله من قتل مؤمن كما قال الرسول الكريم.

فلسطين قضية إنسان في المقام الأول، قضية شعب تم تهجيره ظلماً وقهراً تحت عناوين دينية توراتية، وفق تأويل صهيوني قومي حاقد، وهذا هو المعنى الذي يمكن أن يجتمع العالم كله عليه نصرة للمظلوم وسخطاً على الظالم.

الإنسان الفلسطيني الذي أجبر على النزوح والرحيل والشراد، هذا الإنسان الفلسطيني هو الذي يستحق تضامن العالم معه، ومأساته يجب ان ينظر إليها كبعد إنساني خالص، ومنعه من الصلاة في الأقصى واقتحام مسجده المقدس هو عمل متوحش استبدادي لانه اعتداء مباشر على حق الإنسان في اختيار اعتقاده ودينه ومقدساته، بعيداً عن مطالب اللاهوت التي تؤجج الصراع إلى ما لا نهاية ويتنازعها بشكل مستمر التوراتي التلمودي والمسيحي الأرثوذكسي والإسلامي التراثي، على قدر متنافس ومتطاحن من الكراهية والبغضاء لا يخدم أي سبيل ولا ينهي الحرب ولا يكف الدماء.

أعلم ان هذا المنطق لا يرضي كثيراً من أصدقائي، وسيعودون للمطالبة بالثأر والانتقام وزج الألوف في صراعات الهيكل والصخرة، المستمر بلا جدوى منذ مائة عام، وهو صراع هائج، تلتهب خزاناته الحارقة المتجاورة ويشعل بعضها بعضاً، حيث يتوفر على الضفاف الثلاث ما يكفي من وقود الموت والحرب والدم لأجيال قادمة، في صراع مجنون ينتظر فيه الثلاثة هرمجدون الموعودة بكل توحشها وأنانيتها ودمارها، ولكن يحتفظ كل منهم بوصف النهاية السعيدة التي تحركه، فيراه المسيحي التراثي ميعاداً لمجيء المخلص وصليبه وجلجثته، ويراه الإسلامي السلفي موعداً لنزول المسيح الذي يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويراه اليهودي التلمودي موعداً لمجئ المسيا الذي ينتصر لليهود ويقتل الأمم قتل عاد وإرم!!!

ولا أعتقد ان المقال يتسع لمقولات الأديان الثلاثة في بيان تاريخ بنيان تلك الأحجار المقدسة، فالهيكل ليس له أي تاريخ اتفاقي والحفريات البلهاء لم تصل إلى نتيجة تاريخية مقنعة، كما أن الجدل على أشده بين البروتستانت والكاثوليك بشان قدسية كنيسة القيامة والحج إليها، والشكوك مستمرة في رؤيا هيلانة وتقديس أحجار القدس، واعتبار اقتراب الآخرين منها دنساً ورجساً، يبرر إطلاق الحروب الصليبية لإنقاذ الكنيسة، وكذلك فإن الجدل لم يفتر أبداً في الجانب الإسلامي منذ أعلن ابن الزبير خلافته في مكة في مواجهة عبد الملك بن مروان، الذي قام بسرعة ببناء المسجد الأقصى وقبة الصخرة وأرسل الحجاج فهدم الكعبة بالمنجنيق في خدمة السياسة المتوحشة.

وإذا كان من خدمة نقدمها للقضية الفلسطينية فهي نزع رداء القداسة على الأحجار من يد الكهنوت الثلاثي، وإظهار الجانب الإنساني في الصراع، ودعوة شعوب الأرض كلها للتضامن مع الشعب الفلسطيني، ورفع الظلم عنه بأدوات العالم السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.

إنني أتطلع إلى الأقصى العظيم الذي يختصر تاريخ الإسلام ومجده كبيت مجد هائل، يملؤك بالحب والأمل واليقين، ويتدفق النور على قبابه ومحاريبه، ولكنني أعتقد بيقين أن روح الأقصى لا تنبع من جدرانه وحيطانه بل من الإنسان الفلسطيني العظيم الذي يستحق أن يصلي في الأقصى شامخ الرأس مرفوع الجبين لا يخضع لبطش احتلال ولا لظلم كهنوت، حيث القدس عاصمة حقيقية لهذا الشعب النبيل الصابر.

الإنسان هو المقصود لا الأديان، فالسبت خلق لخدمة الإنسان وليس الإنسان لخدمة السبت، والأحد مهمته أن يوقظ الروح في الإنسان وليس أن يحولنا إلى رهبان، أما الجمعة فقد شرعها الله لتضامن الإنسان مع الإنسان وليس لصراع ماحق ضد الأديان.

Related posts

الثابت والمتغيِّر

drmohammad

د.محمد حبش- حكاية دراكولا والإسلام 18/7/2008

drmohammad

السودان يبدأ تطبيق الشريعة

drmohammad